الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهاهنا ذنبان: ذنبٌ قد مضى، فالاستغفارُ: طلبُ وقاية شرِّه. وذنبٌ يخافُ وقوعَه، فالتَّوبةُ: العزم على أن لا يفعله. والرُّجوعُ إلى الله يتناول النَّوعين: رجوعٌ إليه ليقيه شرَّ ما مضى، ورجوعٌ إليه ليقيه شرَّ ما يَستقبِلُ من شرِّ نفسه وسيِّئات أعماله.
وأيضًا فإنَّ المذنبَ بمنزلة من قد ارتكب طريقًا تؤدِّيه إلى هلاكه ولا تُوصِلهُ إلى المقصود، فهو مأمورٌ أن يولِّيها ظهرَه، ويرجع إلى الطَّريق التي تُوصِلُه
(1)
وفيها فلاحه.
فهاهنا أمران لا بدَّ منهما: مفارقةُ شيءٍ، والرُّجوعُ إلى غيره. فخُصَّت التّوبةُ بالرُّجوع، والاستغفارُ بالمفارقة، وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين. ولهذا ــ والله أعلم ــ جاء الأمرُ بهما مرتَّبًا بقوله:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] فإنّه الرُّجوعُ إلى طريق الحقِّ بعد مفارقة طريق الباطل.
وأيضًا فالاستغفارُ من باب طلبِ إزالةِ الضَّرر، والتَّوبةُ طلبُ جلبِ المنفعة. فالمغفرةُ أن يقيَه شرَّ الذَّنب، والتَّوبةُ أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبُّه، فكلٌّ منهما يستلزم الآخرَ عند إفراده. والله أعلم.
فصل
وهذا يتبيَّن بذكر
التَّوبة النَّصوح وحقيقتها
. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]. فجعَلَ وقايةَ شرِّ السّيِّئات ــ وهو تكفيرُها ــ بزوال ما يكره العبدُ، ودخولَ الجنَّات ــ وهو حصولُ ما يحبُّ
(1)
ع: "التي فيها نجاته وتوصله إلى مقصوده".
العبدُ ــ منوطًا بحصول التَّوبة النَّصوح. و"النَّصوح" على وزن فَعولٍ المعدولِ عن فاعلٍ
(1)
قصدًا للمبالغة كالشَّكور والصَّبور. وأصلُ مادّة (ن ص ح) لخلاص الشَّيء من الغشِّ والشَّوائب الغريبة، وهو ملاقٍ في الاشتقاق الأكبر لـ"نصَحَ" إذا خَلَص. فالنُّصحُ في التّوبة والعبادة والمشورة: تخليصُها من كلِّ غشٍّ ونقصٍ وفسادٍ، وإيقاعُها على أكمل الوجوه. والنُّصح ضدُّ الغشِّ.
وقد اختلفت عبارات السَّلف عنها، ومرجعها إلى شيءٍ واحدٍ. فقال عمر بن الخطَّاب وأبيُّ بن كعبٍ رضي الله عنهما: التَّوبة النَّصوحُ أن يتوبَ من الذَّنب ثمَّ لا يعودَ إليه، كما لا يعودُ اللَّبنُ إلى الضَّرع
(2)
. وقال الحسن البصريُّ: هي أن يكون العبدُ نادمًا على ما مضى مُجْمِعًا على أن لا يعود فيه. وقال الكلبيُّ: أن يستغفر باللِّسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن. وقال سعيد بن المسيِّب: توبةً نصوحًا، تنصحون بها أنفسكم. جعَلَها بمعنى ناصحةٍ للتَّائب، كضَرُوب المعدول عن ضاربٍ. وأصحابُ القول الأوّل يجعلونها بمعنى المفعول، أي قد نصَح فيها التَائبُ ولم يشُبها بغِشٍّ. فهي إمَّا بمعنى منصوحٍ فيها، كركوبةٍ وحلوبةٍ بمعنى مركوبةٍ ومحلوبةٍ، أو بمعنى الفاعل، أي ناصحةٍ كخالصةٍ وصادقةٍ.
وقال محمّد بن كعبٍ القُرَظيُّ رحمه الله: يجمعها أربعةُ أشياء: الاستغفارُ باللِّسان، والإقلاعُ بالأبدان، وإضمارُ تركِ العَودِ بالجَنان، ومهاجرةُ سيِّء
(1)
ع: "الفاعل".
(2)
انظر لهذا القول والأقوال الأخرى: "تفسير البغوي"(8/ 169 - 170) وعنه صدر المؤلف.
الإخوان.
قلت: النُّصحُ في التَّوبة يتضمَّن ثلاثةَ أشياء:
تعميمُ جميع الذُّنوب واستغراقُها بها بحيث لا تدع ذنبًا إلّا تناولته.
والثّاني: إجماعُ العزم والصِّدق بكلِّيّته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردُّدٌ ولا تلوُّمٌ ولا انتظارٌ، بل يُجْمِعُ عليها كلَّ إرادته وعزيمته مبادرًا بها.
الثّالث: تخليصُها من الشّوائب والعلل القادحة في إخلاصِها ووقوعِها لمحض الخوف من الله تعالى وخشيته، والرَّغبة فيما لديه، والرَّهبة ممَّا عنده؛ لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ حاله أو حفظ قوّته وماله، أو استدعاءِ حمدِ النّاس، أو الهرَب من ذمِّهم، أو لئلَّا يتسلَّطَ عليه السُّفهاءُ، أو لقضاءِ نَهْمته من الذَّنب، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحّتها وخلوصها لله
(1)
.
فالأوَّلُ يتعلَّق بما يتوب منه، والثَّالثُ
(2)
بمن يتوب إليه، والأوسطُ يتعلَّق بذات التّائب ونفسه.
فنصحُ التَّوبةِ: الصِّدقُ فيها، والإخلاص، وتعميمُ الذُّنوب بها. ولا ريب أنَّ هذه التَّوبةَ تستلزم الاستغفارَ وتتضمَّنه، وتمحو جميعَ الذُّنوب، وهي أكملُ ما يكون من التَّوبة. والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
(1)
وانظر ما سبق في (ص 286).
(2)
في ع بعده زيادة: "يتعلَّق".