الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونظيرُ هذا: هدايتُه لعبده قبل الاهتداء، فيهتدي بهدايته، فتوجب له تلك الهدايةُ هدايةً أخرى يُثيبه
(1)
الله بها على هدايته، فإنَّ من ثواب الهدى الهدى بعده، كما أنَّ من عقوبة الضَّلالةِ الضَّلالةَ بعدها. قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] فهداهم أولًا فاهتدوا، فزادهم هدًى ثانيًا. وعكسُه في أهل الزّيغ كقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] فهذه الإزاغةُ الثَّانيةُ عقوبةٌ
(2)
على زيغهم.
وهذا القدرُ من سرِّ اسمه الأوّل الآخر
(3)
، فهو المُعِدُّ وهو المُمِدُّ، ومنه السَّببُ والمسبَّبُ، وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه، ويُجير من نفسه بنفسه، كما قال أعرفُ الخلق به:"وأعوذ بك منك"
(4)
. والعبد توّابٌ، والله توّابٌ. فتوبةُ العبد رجوعُه إلى سيِّده بعد الإباق، وتوبةُ الرَّبِّ
(5)
نوعان: إذنٌ وتوفيقٌ، وقبولٌ واعتداد
(6)
.
فصل
و
التّوبةُ لها مبدأٌ ومنتهًى
. فمبدؤها: الرُّجوعُ إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصَبه لعباده موصلًا إلى رضوانه، وأمرَهم بسلوكه بقوله:
(1)
ما عدا ش، ع:"يثبِّته"، تصحيف.
(2)
بعده في ش زيادة: "لهم".
(3)
ع: "الأول والآخر".
(4)
تقدَّم تخريجه.
(5)
ع: "وتوبة الله".
(6)
ش: "اغتفار"، وفي الطبعات القديمة:"إمداد"، والصواب ما أثبت من النسخ.
{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، وبقوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 52 - 53]، وبقوله:{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].
ونهايتُها: الرُّجوعُ إليه في المعاد، وسلوكُ صراطه الذي نصبَه موصلًا إلى جنَّته. فمن رجَع إلى الله في هذه الدَّار بالتَّوبة رجَع إليه في المعاد بالثَّواب.
وهذا أحد التّأويلات في قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71]. قال البغويُّ
(1)
وغيره: {يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} : يعود إليه بعد الموت متابًا حسنًا يفضُل على غيره. فالتَّوبةُ
(2)
الأولى ــ وهي قوله: ومن تاب ــ رجوعٌ عن الشِّرك، والثّانية: رجوعٌ إلى الله تعالى للجزاء والمكافأة.
والتّأويل الثّاني: أنَّ الجزاء متضمِّنٌ
(3)
معنى الأمر، والمعنى: ومن عزم على التَّوبة وأرادها، فليجعل توبته إلى الله، ولوجهه خالصًا، لا لغيره.
التّأويل الثّالث: أنَّ المرادَ لازمُ هذا المعنى، وهو إشعارُه وإعلامُه بمن تاب إليه ورجع إليه. والمعنى: فَلْيعلَمْ توبتَه إلى من؟ ورجوعَه إلى من؟ فإنَّها إلى الله، لا إلى غيره.
(1)
في "التفسير"(6/ 97 - 98)، وقد ذكر التأويلات الثلاثة الأولى.
(2)
ق: "بالتوبة"، والمثبت من غيرها موافق لما في "تفسير البغوي".
(3)
ش: "يتضمن".
ونظيرُ هذا على أحد التّأويلين: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] أي اعلَمْ ما يترتَّب على مَن عصى أمره ولم يبلِّغ رسالته.
والتّأويل الرّابع: أنَّ التَّوبةَ تكون أوّلًا بالقصد والعزم على فعلها، ثمَّ إذا قوِيَ العزمُ وصار جازمًا وُجِد به فعلُ التَّوبة. فالتَّوبةُ الأولى بالعزم والقصد لفعلها، والثّانيةُ بنفس إيقاع التّوبة وإيجادها. والمعنى: من تاب إلى الله قصدًا ونيّةً وعزمًا، فتوبتُه إلى الله عملًا وفعلًا. وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوَّجها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه"
(1)
.
فصل
والذُّنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنصِّ القرآن والسُّنّة وإجماع السّلف والاعتبار. قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}
(2)
[النجم: 32]. وفي "الصّحيح"
(3)
عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الصّلواتُ الخَمسُ، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان= مكفِّراتٌ لما بينهنّ، إذا اجتُنِبَتِ الكبائرُ".
وأمّا ما يحكى عن أبي إسحاق الإسفرايينيِّ رحمه الله أنّه قال: "الذُّنوب
(1)
أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2)
في جميع النسخ: "والذين" وهو سهو، وقد طمس بعضهم الواو في ش.
(3)
تقدَّم تخريجه.
كلُّها كبائر، وليس فيها صغائر"
(1)
، فليس مراده أنّها مستويةٌ في الإثم، بحيث يكون إثمُ النَّظرة المحرَّمة كإثم الوطء الحرام، وإنّما المرادُ أنّها بالنِّسبة إلى عظمة من عُصِيَ بها كلُّها كبائر، ومع هذا فبعضُها أكبرُ من بعضٍ
(2)
. وعلى هذا فالأمر في ذلك لفظيٌّ لا يرجع إلى معنًى.
والَّذي جاء في لفظ الشَّارع: تسميةُ ذلك لَمَمًا ومحقَّراتٍ كما في الحديث: "إيّاكم ومحقَّراتِ الذُّنوب"
(3)
.
وقد قيل: إنَّ اللَّمَم المذكور في الآية من الكبائر. حكاه البغويُّ
(4)
وغيره. قالوا: ومعنى الاستثناء أن يُلِمَّ بالكبيرة مرّةً، ثمَّ يتوب، ويقعَ فيها ثمَّ ينتهيَ عنها، لا يتَّخذُها دأبَه. وعلى هذا يكون استثناء اللَّمَم من الاجتناب إذ معناه: لا يصدر منهم ولا تقع منهم الكبائرُ إلّا لَمَمًا.
والجمهور على أنّه استثناءٌ من الكبائر، وهو منقطعٌ، أي لكن يقع منهم اللَّمَمُ. وحسَّنَ وقوعَ الانقطاع بعد الإيجاب ــ والغالبُ خلافُه: أنّه
(5)
إنّما يقع حيث يقع التَّفريغُ ــ أنَّ
(6)
في الإيجاب هنا معنى النَّفي صريحًا، فالمعنى:
(1)
انظر: "شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 84) وإليه ذهب القشيري في "لطائف الإشارات"(3/ 487)، وعزاه القاضي عياض في "إكمال المعلم" (1/ 355) إلى المحققين. وانظر:"فتح الباري"(10/ 409).
(2)
انظر: "الإرشاد" للجويني (ص 391)، و"الداء والدواء" للمؤلف (ص 293 - 295).
(3)
تقدَّم تخريجه (ص 350).
(4)
في "تفسيره"(7/ 411).
(5)
ش: "فإنه". و"خلافه" ساقط من ج ومضروب عليه في ل.
(6)
ع: "إذ". وزاد بعضهم واوًا صغيرةً قبل "أنَّ". وكلُّ ذلك خطأ.
لا يأتون ولا يفعلون كبائرَ الإثم والفواحش. فحسُنَ استثناءُ اللَّمَم.
ولعلَّ هذا الذي شجَّع أبا إسحاق على أن قال: الذُّنوب كلُّها كبائر، إذ الأصلُ في الاستثناء: الاتِّصال، ولا سيَّما وهو من موجَب.
ولكنَّ النُّصوصَ وإجماعَ السَّلف على انقسام الذُّنوب إلى صغائر وكبائر. ثمّ اختلفوا في فصلين، أحدهما: في اللَّمَم ما هو؟ والثّاني: في الكبائر وهل لها عددٌ يحصُرها، أو حدٌّ يحُدُّها؟ فلنذكر شيئًا يتعلَّق بالفصلين.
فصل
فأمَّا اللَّمَمُ، فقد روي عن جماعةٍ من السّلف أنَّه الإلمامُ بالذَّنب مرّةً، ثمَّ لا يعود إليه وإن كان كبيرًا. قال البغويُّ رحمه الله
(1)
: هذا قول أبي هريرة، ومجاهدٍ، والحسن، وروايةُ عطاءٍ عن ابن عبّاسٍ. قال: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللَّمَمُ ما دون الشِّرك. قال السُّدِّيُّ: قال أبو صالحٍ: سئلتُ عن قول الله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، فقلتُ: هو الرَّجل يُلِمُّ بالذَّنب ثمّ لا يعاوده. فذكرتُ ذلك لابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملَكٌ كريمٌ.
والجمهورُ على أنَّ اللَّمَمَ ما دون الكبائر. وهو أصحُّ الرِّوايتين عن ابن عبّاسٍ، كما في "صحيح البخاريِّ"
(2)
من حديث طاووسٍ عنه قال: ما رأيتُ أشبهَ باللَّمَم ممّا قال أبو هريرة عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله كتَب على ابن آدم حظَّه من الزِّنى، أدرك ذلك لا محالة. فزنى العينِ النَّظرُ، وزنى اللِّسانِ النُّطقُ.
(1)
في "التفسير"(7/ 411).
(2)
برقم (6243). وأخرجه مسلم (2612).
والنَّفسُ تمنّى وتشتهي، والفرجُ يصدِّق ذلك ويكذِّبه". ورواه مسلمٌ
(1)
من حديث سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه عن أبي هريرة، وفيه:"والعينانِ زناهما النَّظرُ، والأذنانِ زناهما الاستماعُ، واللِّسانُ زناه الكلامُ، واليدُ زناها البطشُ، والرِّجلُ زناها الخُطا".
وقال الكلبيُّ: اللَّمَمُ على وجهين: كلُّ ذنبٍ لم يذكُر الله عليه حدًّا في الدُّنيا ولا عذابًا في الآخرة، فذلك الذي تكفِّره الصّلواتُ الخمسُ، ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ. والوجهُ الآخر: هو الذَّنب العظيمُ، يُلِمُّ به المسلمُ المرَّةَ بعد المرَّة، فيتوب منه
(2)
.
وقال سعيد بن المسيِّب: هو ما ألمَّ بالقلب، أي خطَر عليه.
وقال الحسينُ بن الفضلِ: اللَّمَمُ
(3)
: النَّظَرُ من غير تعمُّدٍ، فهو مغفورٌ، فإن أعاد النَّظرَ فليس بلمَمٍ، وهو ذنبٌ.
وقد روى عطاءٌ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن تغفِرِ اللهمَّ تغفِرْ جَمَّا
…
وأيُّ عبد لك لا ألمَّا
(4)
"
(5)
(1)
برقم (2657).
(2)
انظر لقول الكلبي وما يليه: "تفسير البغوي"(7/ 413).
(3)
لفظ "اللمم" ساقط من ش.
(4)
الرَّجز لأمية بن أبي الصَّلت، وينسب إلى أبي خراش الهذلي، وقد تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم. انظر:"تهذيب اللغة"(15/ 420)، و"أعلام الحديث" للخطابي (2/ 977)، و"غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 303).
(5)
أخرجه الترمذي (3284) والبزار (11/ 206) وأبو يعلى في "المعجم"(190) والطبري في "التفسير"(22/ 63) والحاكم (1/ 54، 2/ 469، 4/ 245) والبيهقي في "السنن"(10/ 185) والضياء (11/ 195) من طريق زكريا بن إسحاق المكي عن عمرو بن دينار عن عطاء به. وإسناده صحيح، وقد صححه الترمذي والحاكم واختاره الضياء.
وذهبت طائفةٌ ثالثةٌ إلى أنَّ اللَّمَم: ما فعلوه في الجاهليّة قبل إسلامهم، فالله لا يؤاخذُهم به. وذلك أنَّ المشركين قالوا للمسلمين: أنتم بالأمس كنتم تعملون معنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهذا قول زيد بن ثابتٍ وزيد بن أسلم
(1)
.
والصّحيح: قولُ الجمهور: إنّ اللَّمَم هو
(2)
صِغارُ الذُّنوب، كالنَّظرة والغَمْزة والقُبلة ونحو ذلك. هذا قول جمهور الصَّحابة ومَن بعدهم. وهو قول أبي هريرة، وعبد الله بن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، ومسروقٍ، والشَّعبيِّ
(3)
.
ولا ينافي هذا قولَ أبي هريرة وابن عبّاسٍ في الرِّواية الأخرى: إنّه أن يلمَّ بالكبيرة ثمّ لا يعود إليها، فإنَّ اللَّمَم إمَّا أن يتناولَ هذا وهذا ويكون على وجهين كما قال الكلبيُّ، أو أنَّ أبا هريرة وابن عبّاسٍ ألحقا مَن ارتكب كبيرةً
(4)
مرّةً واحدةً ــ ولم يصرَّ عليها، بل حصلت منه فلتةً في عمره ــ باللَّمَم، ورأيا أنّها إنَّما تتغلَّظ وتكبُر وتعظُم في حقِّ من تكرَّرت منه مرارًا عديدةً. وهذا من فقه الصَّحابة رضي الله عنهم وغَورِ علومهم.
ولا ريبَ أنَّ الله يسامحُ عبدَه المرَّةَ والمرَّتَين والثَّلاثَ، وإنّما يُخاف
(1)
"تفسير البغوي"(7/ 412).
(2)
"إن" ساقطة من م، و"هو" من ش.
(3)
المصدر السابق.
(4)
ع: "الكبيرة".
العنَتُ على من
(1)
اتّخذ الذَّنبَ عادتَه، وتكرَّر منه مرارًا كثيرةً. وفي ذلك آثارٌ سلفيّةٌ، والاعتبارُ بالواقع يدلُّ على هذا. ويُذكَرُ عن عليٍّ رضي الله عنه
(2)
أنّه رُفِعَ إليه سارقٌ، فأمرَ بقطع يده، فقال: يا أميرَ المؤمنين، والله ما سرقتُ غيرَ هذه المرَّة. فقال: كذبتَ. فلمَّا قُطِعت يُده قال: اصدُقْني، كم لك بهذه مرَّةً؟ فقال: كذا وكذا مرّةً؟ فقال: صدقتَ، إنَّ الله لا يؤاخذ بأوّل ذنبٍ. أو كما قال. فأوّلُ ذنبٍ إن لم يكن هو اللَّمَم، فهو من جنسه ونظيره.
فالقولان
(3)
عن أبي هريرة وابن عبّاسٍ متّفقان غيرُ مختلفين. والله أعلم.
وهذه اللَّفظةُ فيها معنى المقاربة والإغباب
(4)
بالفعل حينًا بعد حينٍ، فإنَّه يقال: ألمَّ بكذا، إذا قاربه ولم يغشَه. ومن هذا سمِّيت القُبلةُ والغَمْزةُ لَمَمًا، لأنّها تُلِمُّ بما بعدها. ويقال: فلانٌ لا يزورنا إلّا لِمامًا، أي حينًا بعد حينٍ. فمعنى اللَّفظة ثابتٌ في الوجهين اللَّذَين فسَّرت الصَّحابةُ بهما الآية.
(1)
ش: "يخاف المقتَ مَن".
(2)
لم أره عن علي رضي الله عنه. وقد أخرجه إسماعيل بن جعفر في "أحاديثه"(94) عن حميد عن أنس رضي الله عنه، وأبو داود في "الزهد" (54) والبيهقي (8/ 276) من طريق حميد وثابت عن أنس قال:"أُتي عمرُ بشابٍّ قد سرق، فقال: والله ما سرقتُ قبلها قطُّ، فقال عمر: كذبت، والله ما كان الله ليُسلِمَ عبدًا عند أول ذنب". قال ابن كثير في "مسند الفاروق"(2/ 370): "إسناده صحيح". وانظر: "التخليص الحبير"(5/ 2502).
(3)
ش: "والقولان".
(4)
ج: "الإعتاب" وكذا في النسخ المطبوعة وهو تصحيف.
وليس معنى الآية: الذين
(1)
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلّا اللَّمَمَ فإنَّهم لا يجتنبونه؛ فإنَّ هذا يكون ثناءً عليهم بترك اجتناب اللَّمَم، وهذا محالٌ. وإنّما هذا استثناءٌ من مضمون الكلام ومعناه، فإنَّ سياقَ الكلام في تقسيم النَّاس إلى محسنٍ ومسيءٍ، وأنَّ الله يجزي هذا بإساءته وهذا بإحسانه. ثمَّ ذكَر المحسنين ووصَفَهم بأنّهم يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش. ومضمونُ هذا: أنّه لا يكون مُحسِنًا مجزيًّا بإحسانه ناجيًا من عذاب الله إلّا من اجتنب كبائر الإثم والفواحش، فحسُن حينئذٍ استثناءُ اللَّمَم، وإن لم يدخل في الكبائر، فإنّه داخلٌ في جنس الإثم والفواحش.
وضابطُ الانقطاع: أن يكون له دخولٌ في جنس المستثنى منه، وإن لم يدخل في نفسه، ولم يتناوله لفظُه، كقوله تعالى:{فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ} [مريم: 62]، فإنَّ السَّلامَ داخلٌ في الكلام الذي هو جنسٌ لِلَّغْو وللسَّلام
(2)
. وكذلك قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24 - 25]، فإنَّ الحميمَ والغسَّاقَ داخلٌ في جنس المذوق
(3)
المنقسم. فكأنّه قيل في الأوَّل: لا يسمعون فيها شيئًا إلّا سلامًا، وفي الثّاني: لا يذوقون فيها شيئًا إلّا حميمًا وغسَّاقًا
(4)
. ونصَّ على فردٍ من أفراد الجنس صريحًا، ليكون نفيهُ بطريق التَّصريح والتَّنصيص، لا بطريق العموم الذي يتطرّقَ إليه
(1)
في النسخ: "والذين" ذكر الواو في معنى الآية تبعًا للسهو الواقع في نصِّها في النسخ كما سبق (ص 492).
(2)
وانظر: "زاد المعاد"(5/ 179).
(3)
ل، ج، "الذوق".
(4)
وانظر: "بدائع الفوائد"(3/ 944).
تخصيصُ هذا الفرد. وكذلك قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157]، فإنَّ الظَّنَّ داخلٌ في الشُّعور الذي هو جنسٌ للعلم والظَّنِّ
(1)
.
وأدقُّ من هذا: دخولُ الانقطاع فيما يُفْهِمُه الكلامُ بلازمه، كقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، إذ مفهوم هذا أنّ نكاح منكوحات الآباء سببٌ للعقوبة إلّا ما سلَف منه قبل التَّحريم، فإنّه عَفوٌ
(2)
. وكذلك: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]. وإن كان المرادُ به ما كان في شرع من تقدَّم فهو استثناءٌ من القبح المفهوم من ذلك التَّحريم والذَّمِّ لمن فعله، فحسُنَ أن يقال: إلّا ما قد سلَف. فتأمَّلْ هذا، فإنّه من فقه العربيّة
(3)
.
وأمّا قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] فهذا الاستثناء هو لتحقيق دوام الحياة وعدم ذوق الموت، وهو يجعل النَّفيَ الأوَّلَ العامَّ بمنزلة النَّصِّ الذي لا يتطرَّق إليه استثناءٌ البتّة، إذ لو تطرَّق إليه استثناءُ فردٍ من أفراده لكان أولى بذكره من العدول عنه إلى الاستثناء المنقطع. فجرى هذا الاستثناءُ مجرى التّأكيد والتّنصيص على حفظ العموم
(4)
. وهذا جارٍ في كلِّ منقطعٍ، فتأمَّلْه فإنّه من أسرار العربيّة.
(1)
وانظر: "بدائع الفوائد"(3/ 938).
(2)
وانظر: "بدائع الفوائد"(3/ 941 - 942).
(3)
ج: "من الغرائب"، تحريف غريب.
(4)
وانظر: "بدائع الفوائد"(3/ 944).
فقوله: "وما بالرَّبْع من أحدٍ إلّا أَوَاريَّ"
(1)
، يُفهَم منه: لو وجدتُ فيها أحدًا لاستثنيتُه، ولم أعدل إلى الأَواريِّ التي ليست بأحدٍ.
وقريبٌ من هذا لفظة "أو" في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، وقوله:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. هو كالتَّنصيص على أنَّ المرادَ بالأوّل: الحقيقة لا المبالغة، فإنَّها إن لم تزد قسوتُها على الحجارة فهي كالحجارة في القسوة لا دونها، وأنّه إن لم يزد عددُهم على مائة ألفٍ لم ينقُصْ عنها. فذكرُ "أو" هاهنا كالتَّنصيص على حفظ المائة الألف، وأنّها ليست ممّا أريد بها المبالغة
(2)
. والله أعلم.
فصل
وأمَّا الكبائر، فاختلف السَّلفُ فيها اختلافًا لا يرجع إلى تباينٍ وتضادٍّ، وأقوالهم متقاربةٌ.
وفي "الصَّحيحين"
(3)
من حديث الشَّعبيِّ، عن عبد الله بن عمرٍو، عن
(1)
كذا مضبوطًا بالنصب في ق، ش. ويروى بالرَّفع. وهو جزء من قول النابغة الذبياني في "ديوانه" (ص 14):
وقفتُ فيها أُصَيلانًا أسائلُها
…
عيَّتْ جوابًا وما بالرَّبْع من أحدِ
إلَّا أواريَّ لَأْيًا ما أُبيِّنُها
…
والنُّؤْيَ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَد
والأَواريُّ جمع الآريِّ وهو محبس الدابَّة.
(2)
انظر نحوه في "التبيان" للمؤلف (ص 372).
(3)
كذا في جميع النسخ. والحديث إنما أخرجه البخاري (6675).
النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، وقتلُ النَّفس، واليمينُ الغَموس".
وفيهما
(1)
عن عبد الرَّحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثًا. قالوا: بلى، يا رسول الله، قال:"الإشراك بالله، وعقوق الوالدين". وجَلَس وكان متَّكئًا، فقال:"ألا، وقولُ الزُّور". فما زال يكرِّرها حتّى قلنا: ليته سكت.
وفي "الصَّحيح"
(2)
من حديث أبي وائلٍ، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ الذّنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًّا وهو خلَقَك". قال: قلت: ثمَّ أيُّ؟ قال: "أن تقتل ولدَك مخافةَ أن يأكلَ معك". قال: قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: "أن تُزانيَ حليلةَ جارك". فأنزل الله تعالى تصديقَ قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68].
وفي "الصّحيحين"
(3)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السَّبعَ المُوبقات". قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال:"الشِّركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النَّفس التي حرَّم الله إلّا بالحقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مال اليتيم، والتَّولِّي يوم الزَّحف، وقذفُ المحصَنات الغافلات المؤمنات".
وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم سمعتُ حميدَ بن عبد الرَّحمن
(1)
البخاري (2654)، ومسلم (87).
(2)
أخرجه البخاري (6001)، ومسلم (86).
(3)
البخاري (2766)، ومسلم (89).
يحدِّث عن عبد الله بن عمرٍو عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أكبر الكبائر أن يسُبَّ الرّجلُ والديه". قالوا: وكيف يسُبُّ الرّجل والديه؟ قال: "يسُبُّ أبا الرَّجل فيسُبُّ أباه، ويسُبُّ أمَّه فيسُبُّ أمَّه"
(1)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(2)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أكبرَ الكبائر استطالُة الرَّجل في عِرْضِ أخيه بغير حقٍّ"
(3)
.
وقال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: أكبرُ الكبائر: الشِّركُ بالله، والأمنُ من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من رَوح الله
(4)
.
قال سعيد بن جبيرٍ: سأل رجلٌ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن الكبائر أسبعٌ هي؟ قال: هي
(5)
إلى السّبعمائة أقرب، إلّا أنّه لا كبيرةَ مع الاستغفار، ولا صغيرةَ مع الإصرار. وقال: كلُّ شيءٍ عُصِيَ الله به فهو كبيرةٌ، من عمل شيئًا
(1)
أخرجه أحمد (6840) وغيره عن شعبة به. وقد أخرجه البخاري (5973) ومسلم (90) من طريقين عن سعد بن إبراهيم به.
(2)
"أبي هريرة رضي الله عنه " من ع وحدها. وفي ق، ل هنا بياض بقدر كلمتين أو ثلاث ولا بياض في م، ج. وفي ش:"حديث آخر".
(3)
أخرجه أبو داود (4877) والبزار (15/ 85) وابن أبي الدنيا في "الصمت"(732) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفيه زُهير بن محمد، رواية الشاميين عنه ضعيفة، وهذه منها. وله شاهد صحيح من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه بلفظ: "إن من أربى الربا استطالة
…
"، أخرجه أحمد (1651) وأبو داود (4876) والبيهقي (10/ 241) والضياء (3/ 305). وانظر: "الصحيحة" (3950).
(4)
"تفسير البغوي"(2/ 202).
(5)
ع: "هنَّ قال هنَّ".
منها فليستغفر الله، فإنَّ الله لا يخلِّد في النَّار من هذه الأمَّة إلَّا مَن كان راجعًا عن الإسلام، أو جاحدًا فريضةً، أو مكذِّبًا بقدَر
(1)
.
وقال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: ما نهى الله عنه في سورة النِّساء من أوّلها إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] فهو كبيرةٌ
(2)
.
وقال عليُّ بن أبي طلحة: هي كلُّ ذنبٍ ختَمه الله بنارٍ، أو غضبٍ، أو لعنةٍ، أو عذابٍ
(3)
.
وقال الضَّحَّاك: هي ما أوعد الله عليه حدًّا في الدُّنيا، أو عذابًا في الآخرة
(4)
.
وقال الحسين بن الفضل: ما سمَّاه الله في القرآن كبيرًا أو عظيمًا، نحو قوله:{إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28]، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]
(5)
.
قال سفيان الثّوريُّ: الكبائر: ما كان فيه المظالمُ بينك وبين العباد.
(1)
"تفسير البغوي"(2/ 202).
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
(4)
المصدر السابق (2/ 203).
(5)
المصدر السابق.
والصَّغائر: ما كان بينك وبين الله، لأنَّ الله كريمٌ يعفو. واحتجَّ بحديث يزيد بن هارون عن حُميدٍ الطَّويل عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينادي منادٍ من قبل العرش
(1)
يوم القيامة: يا أمّةَ محمَّدٍ، إنّ الله عز وجل قد عفا عنكم جميعَ المؤمنين والمؤمنات. تواهَبوا بينكم
(2)
، وادخلوا الجنَّةَ برحمتي"
(3)
.
قلتُ: مراد سفيان
(4)
رضي الله عنه: أنَّ الذُّنوبَ التي بين العبد وبين الله أسهَلُ أمرًا من مظالم العباد، فإنَّها تزول بالاستغفار والعفو والشَّفاعة وغيرها، وأمَّا مظالمُ العباد فلا بدَّ من استيفائها. وفي "المعجم" للطَّبَرانيِّ
(5)
:
(1)
ج، ش، م:"من بطنان العرش".
(2)
ع: "جميعكم المؤمنين والمؤمنات فتواهبوا المظالم".
(3)
"تفسير البغوي"(2/ 203). قال الألباني في "الضعيفة"(1279): "رواه البغوي في "شرح السنة" [15/ 197] عن الحسين بن داود البلخي: حدثنا يزيد بن هارون: حدثنا حميد عن أنس رفعه. ومن هذا الوجه رواه الضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو" (2/ 37). قلت: وهذا موضوع آفته البلخي هذا، قال الخطيب: لم يكن بثقة، فإنه روى نسخة عن يزيد عن حميد عن أنس أكثرها موضوع. قلت: وهذا منها". وانظر: "الميزان"(1/ 534).
(4)
ش: "ومراد سفيان الثوري".
(5)
لم أجده في المطبوعة منه ولا في مظانه، ولم يعز إليه السيوطي في "الدر المنثور"(4/ 472) حيث عزا إلى أحمد [26031] وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم [4/ 575] وابن مردويه والبيهقي في "الشعب"[7069، 7070] من حديث عائشة. وكذلك لم يعزه العراقي إليه في "تخريج الإحياء"(3601). وفي إسناده صدقة بن موسى، ضعيف؛ ويزيد بن بابنوس، فيه لين. قال العراقي:"وله شاهد من حديث سلمان، رواه الطبراني [6/ 252] "، وشاهدان آخران من حديث أنس عند البزار (13/ 115) وحديث أبي هريرة عند الطبراني في "الأوسط"(7595)، وكلها ضعيفة.
"الظُّلمُ عند الله يوم القيامة ثلاثُ
(1)
دواوين: ديوانٌ لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشِّرك بالله، ثمّ قرأ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. وديوانٌ لا يترك الله منه شيئًا، وهو مظالمُ العباد بعضِهم بعضًا. وديوانٌ لا يعبأ الله به شيئًا، وهو ظلمُ العبدِ نفسَه بينه وبين ربِّه"
(2)
.
ومعلومٌ أنَّ هذا
(3)
الدِّيوانَ مشتملٌ على الكبائر والصّغائر، لكنَّ مستحقَّه أكرمُ الأكرمين، وما يعفو عنه من حقِّه ويهبُه أضعافُ أضعافِ ما يستوفيه، فأمرُه أسهَلُ من الدِّيوان الذي لا يترك منه شيئًا لعدله وإيصال كلِّ حقٍّ إلى صاحبه.
وقال مالك بن مِغْوَلٍ: الكبائرُ ذنوبُ أهل البدع، والسّيِّئاتُ ذنوبُ أهل السُّنّة
(4)
.
قلتُ: يريد أنَّ البدعةَ من الكبائر، وأنّها أكبرُ من كبائر أهل السُّنَّة، فكبائرُ أهل السُّنَّة صغائرُ بالنِّسبة إلى البدع. وهذا معنى قول بعض السَّلَف: البدعةُ أحبُّ إلى إبليس من المعصية، لأنَّ البدعةَ لا يتاب منها، والمعصيةُ يتاب منها
(5)
.
(1)
كذا بتذكير العدد.
(2)
ع: "وبين الله".
(3)
"هذا" ساقط من ش.
(4)
"تفسير البغوي"(2/ 203). ومالك بن مغول أبو عبد الله البجلي الكوفي من ثقات المحدثين وسادة العلماء. انظر: "سير أعلام النبلاء"(7/ 174).
(5)
من كلام سفيان الثوري. أخرجه ابن الجعد في "مسنده"(1885)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(238)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 26).
وقيل: الكبائر: ذنوبُ العمد. والسّيِّئاتُ: الخطأُ والنِّسيانُ وما أُكرِهَ عليه وحديثُ النَّفس المرفوعةُ
(1)
عن هذه الأمّة
(2)
.
قلتُ: هذا من أضعف الأقوال طردًا وعكسًا، فإنَّ الخطأَ والنِّسيانَ والإكراهَ لا يدخل تحت جنس المعاصي، حتّى يكون أحدَ قِسْمَيْها. والعَمْدُ نوعان: نوع كبائر، ونوع صغائر، ولعلَّ صاحبَ هذا القول يرى أنَّ الذُّنوب كلَّها كبائر، وأنَّ الصَّغائرَ ما عفا الله لهذه الأمّة عنه ولم يدخل تحت التّكليف. وهذا غير صحيحٍ، فإنَّ الكبائر والصّغائر نوعان تحت جنس المعصية، ويستحيلُ وجودُ النَّوع بدون جنسه.
وقيل: الكبائرُ ذنوب المستحِلِّين مثل ذنب إبليس. والصَّغائرُ ذنوبُ المستغفِرين مثل ذنب آدم عليه السلام
(3)
.
قلتُ: أمّا المستحِلُّ، فذنبُه دائرٌ بين الكفر والتّأويل، فإنَّه إن كان عالمًا بالتَّحريم فكافرٌ، وإن لم يكن عالمًا به فمتأوِّلٌ أو مقلِّدٌ. وأمّا المُستغفِرُ، فإنَّ استغفارَه الكاملَ يمحو كبائره وصغائره، فلا كبيرةَ مع الاستغفار. فهذا الفرقُ ضعيفٌ أيضًا، إلّا أن يكون مرادُ صاحبه أنَّ ما يفعلُه المستحلُّ من الذَّنب أعظَمُ عقوبةً ممّا يفعله المعترِفُ بالتَّحريم، النَّادمُ على الذَّنب، المستغفِرُ
(1)
كذا في النسخ و"تفسير الثعلبي"(3/ 296). وفي مطبوعة "تفسير البغوي": "المرفوع".
(2)
"تفسير البغوي"(2/ 203). وعزاه الثعلبي في "تفسيره"(3/ 296) إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي.
(3)
المصدر السابق. وعزاه الثعلبي (3/ 296) إلى المحاسبي.
منه. وهذا صحيحٌ.
وقال السُّدِّيُّ: الكبائر: ما نهى الله عنه من الذُّنوب الكِبار. والسَّيِّئاتُ مقدِّماتُها وتوابعُها ممَّا يجتمع فيه الصَّالحُ والفاسقُ، مثل النَّظرة واللَّمْسَة
(1)
والقبلة وأشباهها، واحتجَّ بقول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرِّجلان تزنيان، ويصدِّق ذلك كلّه
(2)
الفرجُ أو يكذِّبه"
(3)
.
وقيل: الكبائر: ما يستصغره العباد. والصَّغائر: ما يستعظمونه، فيخافون مواقعته
(4)
. واحتجَّ أربابُ هذه المقالة بما روى البخاريُّ في "صحيحه"
(5)
عن أنسٍ رضي الله عنه -قال: إنَّكم لَتعملون أعمالًا، هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعَر، كنَّا نُعدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
قلتُ: أمَّا قولُ السُّدِّيِّ: "الكبائر ما نهى الله عنه من الذُّنوب الكبار"، فبيانٌ للشَّيء بنفسه، فإنَّ الذُّنوبَ الكبارَ هي الكبائر. وإنَّما مرادُه أنَّ المنهيَّ عنه قسمان:
أحدهما: ما هو مشتملٌ على المفسدة بنفسه، فنفسُ فعلِه منشأ المفسدة، فهذا كبيرةٌ، كقتل النَّفس والسَّرِقة والقذف والزِّنى
(6)
.
(1)
ما عدا ع: "اللَّمَّة"، وفي "تفسير البغوي" ما أثبت، وانظر ما يأتي في تفسير كلام السُّدِّي.
(2)
"كله" ساقط من ج، ش. وفي ج:"والفرج يصدِّق ذلك".
(3)
أخرجه أحمد (10829) وابن حبان (4419) من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح، وأصله في "الصحيحين" كما تقدم (ص 486).
(4)
"تفسير البغوي"(2/ 203).
(5)
برقم (6492).
(6)
ج: "والزنى والقذف".
والثّاني: ما كان من مقدِّمات ذلك ومبادئه، كالنَّظر واللَّمس والحديث والقبلة، الّذي هو مقدِّمةُ الزِّنى، فهو من الصّغائر. فالصَّغائرُ من جنس المقدِّمات، والكبائرُ من جنس المقاصد والغايات.
وأمَّا من قال: "ما يستصغره العباد فهو كبائر، وما يستكبرونه فهو صغائر"، فإن أراد أنَّ الفرقَ راجعٌ إلى استكبارهم واستصغارهم، فهو باطلٌ، فإنَّ العبدَ يستصغر النَّظرةَ، ويستكبر الفاحشةَ. وإن أراد أنَّ استصغارَه للذَّنب يكبِّره عند الله، واستعظامَه له يصغِّره عند الله تعالى؛ فهذا صحيحٌ، فإنَّ العبدَ كلَّما صغُرَتْ ذنوبُه عنده كبُرَتْ عند الله، وكلَّما كبُرَتْ عنده صغُرَتْ ذنوبُه عند الله.
والحديثُ إنّما يدلُّ على هذا المعنى. وإنَّ
(1)
الصّحابة رضي الله عنهم ــ لعلوِّ مرتبتهم عند الله وكمالهم ــ كانوا يعدُّون تلك الأعمالَ مُوبقاتٍ، ومَن بعدهم ــ لنقصانِ مرتبتهم عنهم
(2)
وتفاوتِ ما بينهم ــ صارت تلك الأعمالُ في أعينهم أدقَّ من الشَّعر.
وإذا أردتَ فهمَ هذا، فانظر: هل كان في الصَّحابة مَن إذا سمع نصَّ
(3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه بقياسه، أو ذوقه، أو وجده، أو عقله، أو سياسته؟ فهل كان أحدٌ منهم قطُّ
(4)
يقدِّم على نصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلًا، أو قياسًا، أو ذوقًا،
(1)
ج، ع:"فإنَّ".
(2)
من المصريتين. وفي سائر النسخ: "عندهم"، وفي هامش ش أن الظاهر:"عنده"، يعني: عند الله.
(3)
ج: "قضاء"، وكذا كان في الأصل ثم صُحِّح.
(4)
في ع "قطُّ" قبل "أحدٌ".
أو سياسةً، أو تقليدَ مقلِّدٍ؟ ولقد كرَّم الله أعينَهم وصانها أن تنظر إلى وجهِ مَن هذا حالُه أو يكون في زمانهم. ولقد حكَم عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه على من قدَّم حكمَه على نصِّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالسَّيف، وقال: هذا حكمي فيه
(1)
. فيالله! كيف لو رأى ما رأينا، وشاهدَ ما بُلينا به من تقديم رأيِ كلِّ فلانٍ وفلانٍ على قول المعصوم، ومعاداةِ من اطَّرَح آراءَهم، وقدَّم عليها قولَ المعصوم؟ فالله المستعان، وهو الموعد.
وقيل: الكبائر: الشِّرك وما يؤدِّي إليه. والصَّغائر: ما عدا الشِّرك من ذنوب أهل التَّوحيد
(2)
.
واحتجَّ أربابُ هذه المقالة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى: "ابنَ آدم، لو أتيتَني بقُراب الأرض خطايا، ثمَّ لَقِيتَني لا تشرك بي شيئًا، لَقِيتُكَ بقُرابها مغفرةً"
(3)
.
واحتجُّوا أيضًا بالحديث الذي روي مرفوعًا وموقوفًا: "الظُّلمُ عند الله
(4)
ثلاثُ دواوين: ديوانٌ لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشِّرك. وديوانٌ لا يترك منه شيئًا، وهو ظلمُ العبادِ بعضِهم بعضًا. وديوانٌ لا يعبأ الله به شيئًا، وهو ظلمُ
(1)
أخرجه ابن وهب في تفسير القرآن من "الجامع"(1/ 71)، ومن طريقه ابن أبي حاتم في "التفسير" (5560). قال ابن كثير في "التفسير" (النساء: 65): "وهو أثر غريب، وهو مرسل، وابن لهيعة ضعيف".
(2)
انظر: "تفسير البغوي"(2/ 204).
(3)
تقدَّم تخريجه (ص 302).
(4)
لم يرد "عند الله" في ع.
العبد نفسَه بينه وبين ربِّه"
(1)
.
فهذا جملة ما احتجَّ به
(2)
أربابُ هذه المقالة، ولا حجّةَ لهم في شيءٍ منه.
أمَّا الآية، فإنَّ غايتَها التَّفريقُ بين الشِّرك وغيره، وأنَّ الشِّركَ لا يُغفر إلّا بالتَّوبة منه، وأمَّا ما دون الشِّرك، فهو مردودٌ
(3)
إلى مشيئة الله
(4)
. وهذا يدلُّ على أنَّ المعاصيَ دون الشِّرك، وهذا حقٌّ. فإن أراد أربابُ هذا القول هذا، فلا نزاعَ فيه. وإن أرادوا أنَّ كلَّ ما دون الشِّرك فهو صغيرةٌ في نفسه، فباطلٌ.
فإن قيل: فإذا كان الشِّركُ وغيرُه ممّا تأتي عليه التَّوبةُ، فما وجهُ الفرق بين الشِّرك وما دونه؟ وهل هما في حقِّ التَّائب أم غير التَّائب؟ أم أحدُهما في حقِّ التَّائب والآخَرُ لغيره؟ وما الفرقُ بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]؟
فالجواب: أنَّ كلَّ واحدةٍ من الآيتين لطائفةٍ. فآيةُ النِّساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] هي لغير التّائبين في القسمين.
والدَّليلُ عليه: أنَّه فرَّق بين الشِّرك وغيره في المغفرة، ومن المعلوم بالاضطرار
(1)
سبق قريبًا (ص 497).
(2)
"به" من ج، ش، ع.
(3)
ع: "موكول".
(4)
ش: "المشيئة".
من دين الإسلام أنَّ الشِّركَ يُغْفَر بالتَّوبة، وإلَّا لم يصحَّ إسلامُ كافرٍ أبدًا.
وأيضًا فإنَّه خصَّص مغفرةَ ما دون الشِّرك بمَن يشاء، ومغفرةُ الذُّنوب للتّائبين عامّةٌ لا تخصيص فيها، فخصَّص وقيَّد
(1)
. وهذا يدلُّ على أنّه حكمُ غيرِ التّائب.
وأمّا آيةُ الزُّمر: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، فهي في حقِّ التَّائب، لأنّه أطلَق وعمَّم، فلم يخُصَّها بأحدٍ، ولم يقيِّدها بذنبٍ. ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ الكفَر لا يغفره، وكثيرٌ من الذُّنوب لا يغفرها. فعُلِمَ أنَّ هذا الإطلاقَ والتَّعميمَ في حقِّ التّائب، فكلُّ مَن تاب ــ من أيِّ ذنبٍ كان ــ غُفِرَ له.
وأمّا الحديث الآخر: "لو لقيتني بقُراب الأرض خطايا، ثمَّ لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، أتيتُك بقُرابها مغفرةً"، فلا يدلُّ هذا على أنَّ ما عدا الشِّركَ كلَّه صغائر، بل يدلُّ على أنَّ مَن لم يشرك بالله شيئًا فذنوبُه مغفورةٌ كائنةً ما كانت. ولكن ينبغي أن يُعلمَ ارتباطُ أعمال القلوب بأعمال الجوارح وتعلُّقُها بها، وإلّا لم يُفهَمْ مرادُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الخبطُ والتَّخبيطُ.
فاعلم أنَّ هذا النَّفيَ العامَّ للشِّرك: أن لا يُشرك بالله شيئًا البتَّةَ، لا يصدر من مصرٍّ على معصيةٍ أبدًا، ولا يمكن مدمنَ الكبيرةِ والمصرَّ على الصَّغيرةِ أن يصفو له التَّوحيدُ حتّى لا يشرك بالله شيئًا. هذا من أعظم المحال.
ولا تلتفِتْ إلى جدليٍّ لا حظَّ له من أعمال القلوب، بل قلبُه كالحجر أو أقسى، يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فُرِضَ ذلك واقعًا لم يلزم منه محالٌ لذاته!
(1)
ق، ل:"فتخصّص وتقيّد".
فدَعْ هذا القلبَ المفتونَ بجدله وجهله، واعلم أنَّ الإصرارَ على المعصية يُوجِب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبِّه لغير الله، وذلِّه لغير الله، وتوكُّله على غير الله= ما يصير به منغمسًا في بحار الشِّرك. والحاكمُ في هذا: ما يعلمه الإنسان من نفسه، إن كان له عقلٌ. فإنَّ ذلَّ المعصية لا بدَّ أن يقومَ بالقلب، فيورثَه خوفًا من غير الله تعالى، وذلك شركٌ؛ ويورثَه محبّةً لغير الله، واستعانةً بغيره في الأسباب التي تُوصِله إلى غرضه، فيكون عملُه لا بالله ولا له، وهذا حقيقة الشِّرك.
نعم، يكون معه توحيدُ أبي جهلٍ وعُبَّادِ الأصنام، وهو توحيد الرُّبوبيّة، وهو الاعترافُ بأنّه لا خالق إلّا الله. ولو أنجى هذا التَّوحيدُ وحده لأنجى عُبَّادَ الأصنام. والشَّأنُ في توحيد الإلهيّة الذي هو الفارقُ بين المشركين والموحِّدين.
والمقصود: أنَّ مَن لم يشرك بالله شيئًا يستحيلُ أن يلقى الله بقُراب الأرض خطايا مصرًّا عليها غيرَ تائبٍ منها، مع كمال توحيده الذي هو غايةُ الحبِّ والخضوع والخوف والرَّجاء للرَّبِّ تعالى.
وأمّا حديث الدّواوين، فإنّما فيه أنَّ حقَّ الرَّبِّ تبارك وتعالى لا يؤوده أن يهَبَه ويُسقطه، ولا يحتفلَ به ويعتنيَ به كحقوق عباده. وليس معناه: أنّه لا يؤاخِذ به البتَّة، أو أنَّه كلَّه صغائرُ، وإنّما معناه أنّه يقع فيه من المسامحة والمساهلة والإسقاط والهبة ما لا يقع مثلُه في حقوق الآدميِّين.
فظهر
(1)
أنَّه لا حجَّة لهم في شيءٍ ممَّا احتجُّوا به. والله أعلم.
(1)
ما عدا ج، م، ع:"وظهر".
وقالت فرقةٌ: الصَّغائرُ ما دون الحدَّين. والكبائر ما تعلَّق بها أحدُ الحدَّين
(1)
.
ومرادهم بالحدَّين: عقوبة الدُّنيا والآخرة، فكلُّ ذنبٍ عليه عقوبةٌ مشروعةٌ محدودةٌ في الدُّنيا كالزِّنى والشُّرب والسَّرِقة والقذف، أو عليه وعيدٌ في الآخرة كأكلِ مال اليتيم، والشُّرْبِ في آنية الفضّة والذّهب، وقتلِ الإنسان نفسَه، وخيانة أمانته، ونحو ذلك= فهو من الكبائر. وصدق ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما
(2)
، هي إلى السَّبعمائة أقرَبُ منها إلى السَّبع
(3)
.
فصل
وهاهنا أمرٌ ينبغي التّفطُّن له، وهو أنَّ الكبيرةَ قد يقترن بها من الحياءِ والخوفِ والاستعظامِ لها ما يُلْحِقها بالصَّغائر، وقد يقترن بالصَّغيرة من قلَّةِ الحياء وعدمِ المبالاة وتركِ الخوف والاستهانةِ بها ما يُلحقها بالكبائر، بل يجعلها في أعلى رتبها.
وهذا أمرٌ مرجعُه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدرٌ زائدٌ على مجرَّد الفعل، والإنسانُ يعرف ذلك من نفسه وغيره.
وأيضًا فإنَّه يُعفى للمحبِّ ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يُعفَى لغيره، ويسامَحُ بما لا يسامَح به غيرُه.
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 650، 658)، وهو عند شيخ الإسلام أمثل الأقوال في هذه المسألة.
(2)
بعده في ع زيادة: "في قوله".
(3)
تقدَّم تخريجه (ص 494).
وسمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيميّة رضي الله عنه يقول: انظر إلى موسى ــ صلواتُ الله وسلامُه عليه ــ رمى الألواح التي فيها كلامُ الله الذي كتَبه بيده فكسَرها، وجرَّ بلحيةِ
(1)
نبيٍّ مثلِه ورأسِه، وهو هارون
(2)
؛ ولطَم عينَ ملَكِ الموت ففقأها
(3)
، وعاتَب ربَّه ليلةَ الإسراء في محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ورفعِه عليه
(4)
؛ وربُّه تبارك وتعالى يحتمل له ذلك كلَّه، ويحبُّه ويكرمه
(5)
ويدلِّلُه، لأنَّه قام لله المقاماتِ
(6)
العظيمةَ في مقابلةِ أعدى عدوٍّ له، وصدَعَ بأمره، وعالج أمَّةَ القبط وأمَّةَ بني إسرائيل أشدَّ المعالجة= فكانت هذه الأمورُ كالشَّعرة في البحر. وانظر إلى يونس بن متّى حيث لم يكن له هذه
(7)
المقامات التي لموسى صلى الله عليه وسلم، غاضَبَ ربَّه
(8)
مرّةً، فأخَذه وسجَنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى صلى الله عليه وسلم.
وفرقٌ بينَ من إذا
(9)
أتى بذنبٍ لم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبينَ من إذا أتى بذنبٍ جاءت محاسنُه بكلِّ شفيعٍ، كما قيل
(10)
:
(1)
بعده في ش زيادة: "أخيه".
(2)
كما ورد في سورة الأعراف [150] وسورة طه [94].
(3)
يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (1339)، ومسلم (2372).
(4)
كما جاء في حديث مالك بن صعصعة، أخرجه البخاري (3887)، ومسلم (164).
(5)
سقط بعده في التصوير ق 93/ب- 94/أ من الأصل.
(6)
ع: "تلك المقامات" بزيادة "تلك".
(7)
ع: "تلك".
(8)
لفظ "ربَّه" ساقط من ع.
(9)
"إذا" ساقطة من ش هنا وفيما يأتي.
(10)
في ع: "شعر" بدلًا من "كما قيل".
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
…
جاءت محاسنُه بألفِ شفيعِ
(1)
فالأعمالُ تشفَع لصاحبها عند الله، وتذكِّر به إذا وقَع في الشّدائد. قال تعالى عن ذي النُّون:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144]
(2)
.
وفي "المسند"
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم
(4)
: "إنّ ما تذكرون من جلال الله من التَّسبيح والتَّكبير والتَّحميد يتعاطفن حول العرش، لهنّ دويٌّ كدويِّ النَّحل، يذكِّرن بصاحبهنّ. أفلا يحبُّ أحدكم أن يكون له من يُذكِّر به؟ ".
ولهذا من رجَحَت حسناتُه على سيِّئاته أفلَحَ ولم يعذَّب، ووُهِبَت له سيِّئاتُه لأجل حسناته.
ولأجل هذا يُغفَر لصاحب التَّوحيد ما لا يُغفَر لصاحب الإشراك، لأنّه
(1)
أنشده المؤلف في "الفوائد"(ص 283)، و"الزَّاد"(3/ 200)، و"المفتاح"(1/ 507) أيضًا. وقد كثر التمثُّل به في المصادر ولكن دون عزو، ومنها:"لطائف الإشارات" للقشيري (1/ 75)، و"أمالي ابن الشجري"(3/ 267)، و"تمام المتون"(ص 89).
(2)
في ع بعده زيادة: "وفرعونُ لم تكن له سابقةُ خيرٍ تشفَع له، ولهذا لما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال له جبرئيل: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] ".
(3)
برقم (18362) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (3809) والطبراني في "الدعاء"(1693) وفي "الكبير"(21/ 24، 25) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(275) وغيرهم، والحديث صححه الحاكم (1/ 500، 503) والألباني في "مختصر العلو"(ص 96) وفي "الصحيحة"(3358).
(4)
بعده في ع زيادة: "أنه قال".
قد قام به ممّا يحبُّه الله ما اقتضى أن يغفِرَ له ويُسامِحَه ما لا يسامِحُ به المشركَ. وكلَّما كان توحيدُ العبد أعظمَ كانت مغفرةُ الله له أتمَّ. فمن لقيه لا يشرك به شيئًا البَتَّةَ غفرَ له ذنوبَه كلَّها، كائنةً ما كانت، ولم يُعذِّب بها.
ولسنا نقول: إنّه لا يدخل النَّارَ أحدٌ من أهل التَّوحيد، بل كثيرٌ منهم يدخل بذنوبه، ويعذَّب على مقدار جُرمه، ثمَّ يخرج منها؛ ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علمًا بما قدَّمناه. ونزيده هاهنا إيضاحًا لعِظَم هذا المقام من شدَّة الحاجة
(1)
إليه:
اعلم أنَّ أشعَّةَ لا إله إلّا الله تُقطِّع من ضَبابِ الذُّنوب وغَيمها بقدر قوَّة ذلك الشُّعاع وضَعْفِه، فلها نورٌ، وتفاوتُ أهلها في ذلك النُّور قوّةً وضعفًا لا يحصيه إلّا الله تعالى. فمن النّاس مَن نورُ هذه الكلمة في قلبه كالشَّمس. ومنهم مَن نورُها في قلبه كالكوكب الدُّرِّيِّ. ومنهم مَن نورُها في قلبه كالمِشْعَل العظيم، وآخَرُ كالسِّراج المضيء، وآخَر كالسِّراج الضَّعيف.
ولهذا تظهر الأنوارُ
(2)
يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على
(3)
هذا المقدار، بحسب ما هو في قلوبهم من نور هذه الكلمة علمًا وعملًا ومعرفةً وحالًا. وكلَّما عظُمَ نورُ الكلمة واشتدَّ أحرَقَ من الشُّبهات والشَّهوات بحسب قوَّته وشدَّته، حتّى إنَّه ربَّما وصل إلى حالٍ لا يصادف شبهةً ولا شهوةً ولا ذنبًا إلَّا أحرَقَه
(4)
.
(1)
ع: "وشدة الحاجة".
(2)
ع: "هذه الأنوار" بزيادة اسم الإشارة.
(3)
ع: "وعلى".
(4)
ما عدا ج، ع:"أحرقته".
وهذه حالُ الصَّادق في توحيده، الذي لم يُشرك بالله شيئًا. فأيُّ ذنبٍ أو شهوةٍ أو شبهةٍ دنت من هذا النُّور أحرَقَها. فسماءُ إيمانه قد حُرِسَتْ بالنُّجوم من كلِّ سارقٍ لحسناته، فلا ينال منه السَّارقُ إلّا على غِرَّةٍ وغفلةٍ لا بدَّ منها للبشر. فإذا استيقظ وعَلِمَ ما سُرِقَ منه استنقذه من سارقه، أو حصَّل أضعافَه بكسبه. فهو هكذا أبدًا مع لصوص الجنِّ والإنس، ليس كمن فَتَح لهم خِزانتَه
(1)
، وولّى البابَ ظهرَه.
وليس التَّوحيدُ مجرَّدَ إقرارِ العبد بأنَّه لا خالقَ إلّا الله وأنَّ الله ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، كما كان عبَّادُ الأصنام مقرِّين بذلك وهم مشركون. بل التَّوحيدُ يتضمَّن من محبّةِ الله، والخضوعِ له، والذُّلِّ له، وكمالِ الانقياد لطاعته، وإخلاصِ العبادة له، وإرادةِ وجهه الأعلى بجميع
(2)
الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحبِّ والبغض= ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الدَّاعية إلى المعاصي والإصرار عليها.
ومَن عرَف هذا عرَف قولَ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله حرَّم على النّار مَن قال: لا إله إلّا الله، يبتغي بذلك وجه الله"
(3)
، وقوله:"لا يدخُل النّارَ مَن قال: لا إله إلّا الله"
(4)
، وما جاء من هذا الضّرب من الأحاديث التي أشكلت على كثيرٍ من النّاس، حتّى ظنَّها بعضُهم منسوخةً، وظنَّها بعضُهم قبلَ ورود الأوامر والنَّواهي واستقرار الشَّرع. وحمَلهَا بعضُهم على نار المشركين والكفّار،
(1)
ع: "انفتح له خزانة أعماله"!
(2)
ل، م:"فجميع"، تصحيف.
(3)
أخرجه البخاري (425)، ومسلم (33) من حديث عِتبان بن مالكَ رضي الله عنه.
(4)
جاء نحوه في الحديث السابق عند مسلم (33/ 54).
وأوَّلَ بعضُهم الدُّخولَ بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدًا. ونحو
(1)
ذلك من التّأويلات المستكرَهة.
والشّارعُ ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لم يجعل ذلك حاصلًا بمجرَّد قولِ اللِّسان فقط، فإنَّ هذا خلافُ المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإنَّ المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدَّرك الأسفل من النّار. فلا بدَّ من قول القلب، وقول اللِّسان.
وقولُ القلب يتضمَّن من معرفتِها، والتَّصديقِ بها، ومعرفةِ حقيقة ما تضمَّنته من النَّفي والإثبات، ومعرفةِ حقيقة الإلهيَّة المنفيَّة عن غير الله، المختصَّة به، التي يستحيل ثبوتُها لغيره، وقيامِ هذا المعنى بالقلب علمًا ومعرفةً ويقينًا وحالًا= ما يُوجِبُ تحريمَ قائلها على النّار. وكلُّ قولٍ رتَّب الشَّارعُ عليه
(2)
ما رتَّب من الثَّواب، فإنّما هو القولُ التَّامُّ، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من قال في يومٍ: سبحان الله وبحمده مائة مرّةٍ، حُطَّت عنه خطاياه ــ أو: غُفِرَتْ له ذنوبُه ــ ولو كانت مثلَ زبدِ البحر"
(3)
. وليس هذا مرتَّبًا على مجرَّد القول اللِّساني.
نعم، من قالها بلسانه غافلًا عن معناها، مُعرضًا عن تدبُّرها، ولم يواطئ قلبُه لسانَه، ولا عرَفَ قدرها وحقيقتها، راجيًا مع ذلك ثوابَها= حُطَّت من خطاياه بحسب ما في قلبه؛ فإنَّ الأعمالَ لا تتفاضَلُ بصورها وعددها، وإنَّما
(1)
ع: "أو نحو".
(2)
"عليه" ساقط من م، وقد وقع في ع قبل "الشارع" وفي ش قبل "من الثواب".
(3)
أخرجه البخاري (6405)، ومسلم (2691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تتفاضَلُ بتفاضُلِ ما في القلوب. فتكون صورةُ العمَلَين واحدةً، وبينهما في التّفاضل كما بين السَّماء والأرض. والرَّجلان يكون مقامُهما في الصَّفِّ واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السَّماء والأرض.
وتأمَّلْ حديثَ البطاقة
(1)
التي تُوضَع في كِفَّةٍ، ويقابلها تسعةٌ وتسعون سجلًّا، كلُّ سجلٍّ منها مدَّ البصر، فتثقُل البطاقةُ، وتطيش السِّجلّات، فلا يعذَّب. ومعلومٌ أنَّ كلَّ موحِّدٍ فله مثلُ هذه البطاقة، وكثيرٌ منهم يدخل النَّارَ بذنوبه، ولكنَّ السِّرَّ الذي ثقَّل بطاقةَ ذلك الرَّجل وطاشت لأجله السِّجلَّاتُ، لمَّا لم يحصُل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقتُه بالثِّقل والرَّزانة.
وإذا أردتَ زيادة إيضاحٍ لهذا، فانظُر إلى ذكر مَن قلبُه ملآنُ بمحبّتك، وذكرِ مَن هو معرضٌ عنك، غافلٌ ساهٍ، مشغولٌ بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبَّة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما لك واحدًا؟ أم هل يكون ولداك اللَّذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك= عندك سواءً؟
وتأمَّلْ ما قام بقلب قاتلِ المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السِّياق عن السَّير إلى القرية، وحَمَلتْه ــ وهو في تلك الحال ــ على أن
(1)
يريد الحديث: "إن الله عز وجل يستخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًّا، كل سجل مدّ البصر
…
". أخرجه أحمد (6994، 7066) والترمذي وحسنه (2639) وابن ماجه (4300) وابن حبان (225) والآجري في "الشريعة" (902) والطبراني في "الكبير" (13/ 29) والحاكم (1/ 6، 529) وغيرهم من طرق حِسانٍ عن عبد الله بن يزيد الحُبُلي المعافري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعًا. والحديث قد صححه الألباني في "الصحيحة" (135).
جعَل
(1)
ينوء بصدره وهو يعالج سكَراتِ الموت
(2)
= فهذا أمرٌ آخر، وإيمانٌ آخر. ولا جرَمَ أُلْحِقَ بالقرية الصَّالحة، وجُعِلَ من أهلها.
وقريبٌ من هذا ما قام بقلب البغيِّ التي رأت ذلك الكلبَ، وقد اشتدَّ به العطَشُ
(3)
يأكل الثَّرى، فقام بقلبها ذلك الوقتَ ــ مع عدم الآلة، وعدم المُعين وعدم مَن تُرائيه بفعلها ــ ما حملها على أن غرَّرت بنفسها في نزول البئر ومَلْءِ الماء في خفِّها ــ ولم تعبأ بتعرُّضه للتَّلَف ــ وحملِها له بفيها وهو ملآنُ، حتّى أمكنها الرُّقيُّ في البئر، ثمَّ تواضُعِها لهذا المخلوق الذي جرت عادة النّاس بضربه وطرده، فأمسكت له الخفَّ بيدها حتّى شربَ، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكورًا
(4)
. فأحرقت أنوارُ هذا القدر من التّوحيد
(5)
ما تقدَّم منها من البغاء، فغُفِر لها.
(1)
ع: "تلك الحال إلى أن أوفدته من منازل الصالحين وألحقته بأهل الصلاح حتى جعل"!
(2)
يشير إلى حديث الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين إنسانًا ثم خرج يسأل إلخ. أخرجه البخاري (3470)، ومسلم (2766) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
بعده في ع زيادة: "وهو".
(4)
قصة البغي أخرجها البخاري (3467)، ومسلم (2245) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن ما حكاه المصنف عنها ورد في قصة رجل رأى كلبًا يأكل الثرى من العطش، فنزل البئر فملأ خفَّه ماء
…
الحديث. وقد أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا.
(5)
"من التوحيد" من ع.
فهكذا حالُ الأعمالِ والعُمَّال عند الله. والعاملُ
(1)
في غفلةٍ من هذا الإكسير الكيمياويِّ
(2)
، الذي إذا وُضِع منه مثقالٌ
(3)
على قناطيرَ من نحاس الأعمال قَلبَها ذهبًا. والله المستعان.
فصل
فإن قيل: فقد ذكرتم أنَّ المحبَّ يسامَحُ بما لا يسامَحُ به غيرُه، ويعفى للوليِّ عمَّا لا يعفى لسواه. وكذلك العالِمُ أيضًا يُغفَر له ما لا يُغفَر للجاهل، كما روى الطَّبرانيُّ
(4)
بإسنادٍ جيِّدٍ مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله إذا جمَع
(1)
ما عدا ع: "العامل"، وفي ج فوقها:"ينظر" ولعله تصحيف مع أنَّ في الصفحة التالية من الأصل بلاغًا للمقابلة والقراءة على المصنف.
(2)
م، ش:"الكيماوي".
(3)
ش: "مثقال ذرة".
(4)
في "الأوسط"(4264) وفي "الصغير"(591)، وأخرجه أيضًا الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(3/ 383) والبيهقي في "المدخل"(567) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(232، 233 - دار الإمام البخاري) وغيرهم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وفي إسناده طلحة بن زيد، متهم بالوضع؛ وشيخه موسى بن عبيد الله الربذي، لا يحتج به؛ وشيخه سعيد بن أبي هند لم يلق أبا موسى. والحديث قال عنه ابن عدي في "الكامل" (6/ 329) بعد أن أخرجه:"باطل".
وقال الألباني في "ضعيف الترغيب"(62): "موضوع"، وأدخله ابن الجوزي في "الموضوعات" (512) وكذا السيوطي في "الآلي المصنوعة" (1/ 201) وابن عراق الكناني في "تنزيه الشريعة" (1/ 286). وانظر:"الضعيفة"(868).
وأخرجه الجوهري في "مسند الموطأ"(13) وابن عبد البر في "الجامع"(231) عن عبد الله بن داود الخُرَيبي ــ من ثقات أتباع التابعين ــ مقطوعًا عليه من قوله بإسناد صحيح، ولفظه:"إذا كان يوم القيامة عزل الله عز وجل العلماء عن الحساب فيقول: ادخلوا الجنة على ما كان فيكم، إني لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أردته بكم".
النّاسَ يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ قال للعلماء: إنِّي كنت أُعبَدُ بفتواكم، وقد علمتُ أنّكم كنتم تخلِطون ما يخلِط النَّاسُ، وإنِّي لم أضَعْ علمي فيكم وأنا أريد أن أعذِّبكم. اذهبوا، فقد غفرتُ لكم". هذا معنى الحديث، وقد روي مسندًا ومرسلًا.
فهذا الذي ذكرتم صحيحٌ، وهو مقتضى الحكمة والجود والإحسان، ولكن ما تصنعون بالعقوبة المضاعفة التي ورد التَّهديدُ بها في حقِّ أولئك إن وقع منهم ما يُكرَه، كقوله: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَعَّفُ
(1)
لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]، وقوله تعالى:{(73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا} [الإسراء: 74 - 75]، أي لولا تثبيتُنا لك لقد كدتَ تركَنُ إليهم بعضَ الشَّيء، ولو فعلتَ
(2)
لأذقناك ضِعْفَ عذاب الحياة وضِعْفَ عذاب الممات، أي أضعفنا لك العذابَ في الدُّنيا والآخرة؟
وقال تعالى: {(43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ} [الحاقة: 44 - 46]. أي لو أتى بشيءٍ من عند نفسه لأخذنا بيمينه، وقطعنا نياطَ قلبه وأهلكناه. وقد أعاذه الله من هذا
(3)
الرُّكون إلى أعدائه بذرَّةٍ من قلبه، ومن التَّقوُّل عليه سبحانه. وكم من راكنٍ إلى أعدائه ومتقوِّلٍ عليه من
(1)
على قراءة أبي عمرو في الأصل، ج، ع. وفي غيرها:"يُضاعَفْ" على قراءة الكوفيين ونافع.
(2)
بعده في ش زيادة: "ذلك"، وهي في هامش م أيضًا.
(3)
"هذا" ساقط من م، ش، ع.
قِبل نفسه قد أقرَّه ولم يعبأ به كأرباب البدع كلِّهم المتقوِّلين على أسمائه وصفاته ودينه.
وما ذكرتم في قصّة يونس عليه السلام هو من هذا الباب، فإنّه لم يسامَح بغَضْبةٍ، وسُجِن لأجلها في بطن الحوت. ويكفي حالُ أبي البشر حيث لم يسامَحْ بلقمةٍ وكانت سبَب إخراجه من الجنّة.
والجوابُ: أنَّ هذا أيضًا حقٌّ، ولا تنافي بين الأمرين؛ فإنَّ مَن كملت عليه نعمةُ الله تعالى، واختصَّه منها بما لم يختصَّ به غيرَه، وأعطاه منها ما حرَمَه غيرَه، فحُبِيَ بالإنعام، وخُصَّ بالإكرام، وخُصَّ بمزيد التَّقريب، وجُعِلَ في منزلة الوليِّ الحبيب= اقتضت حالُه من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص بأن يراعي مرتبتَه من أدنى مشوِّشٍ وقاطعٍ. فلشدّة الاعتناء به، ومزيد تقريبه، واتِّخاذه لنفسه، واصطفائه على غيره= تكون حقوقُ وليِّه وسيِّده عليه أتمَّ، ونعمُه عليه أكملَ، والمطلوبُ منه فوقَ المطلوب من غيره. فهو إذا غفَل وأخلَّ بمقتضى مرتبته نُبِّه بما لم يُنبَّه عليه البعيدُ البَرَّانيُّ، مع كونه يسامَحُ بما لم يسامَحْ به ذلك أيضًا، فيجتمع في حقِّه الأمران.
وإذا أردتَ معرفة اجتماعهما وعدَم تناقضهما، فالواقع شاهدٌ به؛ فإنَّ الملك يسامِحُ خاصَّتَه وأولياءَه بما لا يسامِحُ
(1)
به مَن ليس في منزلتهم، ويؤاخذهم ويؤدِّبُهم بما لم يؤاخذ به غيرَهم. وقد ذكرنا شواهد هذا وهذا، ولا تناقُضَ بين الأمرين.
وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أو زوجتان، أحدُهما أحبُّ إليك من
(1)
ج: "لم يسامح".
الآخر وأقربُ إلى قلبك وأعزُّ عليك= عاملتَه بهذين الأمرين، واجتمع في حقِّه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبِّك له، وعزَّته عليك. فإذا نظرتَ إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمتك عليه اقتضت معاملتُه بما لا يُعامَلُ مَن دونه من التَّنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرتَ إلى إحسانه ومحبّته لك، وطاعته وخدمته، وكمال عبوديّته ونصحه= وهبتَ له وسامحتَه وعفوتَ عنه بما لا تفعله مع غيره. فالمعاملتان بحسب ما منك وما منه.
وقد ظهر اعتبارُ هذا المعنى في الشَّرع، حيث جعَل حدَّ من أنعَم عليه بالتّزوُّج إذا تعدَّاه إلى الزِّنى: الرَّجْمَ، وحدَّ من لم يعطه هذه النِّعمة: الجَلْدَ. وكذلك ضاعف الحدَّ على الحرِّ الذي قد ملَّكه نفسَه، وأتمَّ عليه نعمتَه، ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعَل حدَّ العبد المنقوص بالرِّقِّ
(1)
الذي لم تحصل له هذه النِّعمةُ نصفَ ذلك.
فسبحان مَن بهرَتْ حكمتُه في خلقه وأمره وجزائه عقولَ العالمين، وشهدَتْ بأنّه أحكمُ الحاكمين.
فللّه سرٌّ تحتَ كلِّ لطيفةٍ
…
فأخو البصائر غائصٌ يتعقَّلُ
(2)
فصل
في أجناس ما يتاب منها ولا يستحقُّ العبدُ اسمَ التّائب حتّى يخلص منها
وهي اثنا عشر جنسًا مذكورةٌ في كتاب الله تعالى، هي أجناس
(1)
بإزاء هذا السطر في هامش الأصل: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه رضي الله عنه ".
(2)
لم أقف على البيت، والفاء في "فلله" من الخَزْم، وفي ل، م، ع:"لله" ويظهر أن الفاء طمست من بعضها.
المحرَّمات: الكفر، والشِّرك، والنِّفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله بلا علمٍ، واتِّباع سبيلٍ غيرِ سبيله.
فهذه الاثنا عشر جنسًا، عليها مدارُ كلِّ ما حرَّم الله تعالى، وإليها انتهى
(1)
العالَمُ بأسرهم إلّا أتباعَ الرُّسل. وقد يكون في الرَّجل أكثرُها أو أقلُّها أو واحدةٌ منها، وقد يعلم بذلك وقد لا يعلم. فالتَّوبةُ النَّصوحُ هي بالتَّخلُّص منها
(2)
، وإنّما يمكن التّخلُّصُ منها لمن عرفها.
ونحن نذكرها ونذكر ما اجتمعت فيه وما افترقت، لِتَبِينَ
(3)
حدودُها وحقائقُها. والله الموفِّقُ لما وراء ذلك كما وفَّق له، ولا حول ولا قوّة إلّا به. وهذا الفصل من أنفع فصول الكتاب، والعبدُ أحوَجُ شيءٍ إليه.
فأمّا الكفر، فنوعان: كفرٌ أكبر، وكفرٌ أصغر.
فالكفر الأكبر: هو الموُجِبُ للخلود في النّار.
والأصغَرُ: مُوجِبٌ لاستحقاق الوعيد دون الخلود، كما في قوله تعالى وكان ممَّا يتلى فنُسِخَ لفظهُ:"لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفرٌ بكم"
(4)
، وقولِه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "اثنتان في أمّتي، هما بهم كفرٌ: الطَّعنُ في النَّسَب،
(1)
ع: "انتهاء".
(2)
في ع بعده زيادة: "والتَّحصُّنِ والتّحرُّزِ من مواقعتها".
(3)
ج، ش:"لنبين". ع: "ليتبين".
(4)
جزء من حديث أخرجه البخاري (6830) ومسلم (1691) عن عمر رضي الله عنه، ولم يردِ الجزء المذكور عند مسلم.
والنِّياحة"
(1)
، وقولهِ في "السُّنن"
(2)
: "من أتى امرأةً في دبرها فقد كفَر بما أُنزِل على محمّدٍ صلى الله عليه وسلم "، وفي الحديث الآخر:"من أتى كاهنًا، فصدَّقه بما يقول، فقد كفَر بما أُنزِلَ على محمّدٍ صلى الله عليه وسلم "
(3)
، وقوله:"لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ"
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (67) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (9290، 10167) وأبو داود (3904) والترمذي (135) والنسائي في "الكبرى"(8967) وابن ماجه (639) وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. قال الترمذي:"ضعف محمَّد [أي: البخاري] هذا الحديث من قِبَل إسناده". وقد ضعَّفه في "التاريخ الكبير"(3/ 17) بتفرُّد حكيم الأثرم بروايته فإنه لا يُتابَع عليه، وبأن أبا تميمة لا يُعرف له سماع من أبي هريرة. وقد أُعِلَّ بالوقف أيضًا، فإن مجاهدًا رواه عن أبي هريرة موقوفًا عليه من قوله، كما عند النسائي في "الكبرى"(8971، 8972) من طريقين عنه. انظر: "الضعفاء" للعقيلي (2/ 183) و"التلخيص الحبير"(1542).
وفي الزجر من هذا الفعل أحاديث أخرى، ولكن ليس فيها لفظ "الكفر" الذي هو الشاهد هنا.
(3)
أخرجه أحمد (10167) وأبو داود (3904) والترمذي (135) والنسائي في "الكبرى"(8968) من حديث أبي هريرة بالإسناد المتقدم الضعيف (عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة، عن أبي هريرة). وله طريق آخر عند أحمد (9536) وإسحاق (503) والحاكم (1/ 8)، من حديث خِلاس بن عمرو عن أبي هريرة، وهو مُرسَل، إلا أن إرسال خلاسٍ عن أبي هريرة احتمله الأئمة، وقد أخرج له البخاري حديثين عن أبي هريرة مقرونًا برواية ابن سيرين. وله شاهد جيِّد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا عليه عند الطيالسي (381) وابن أبي شيبة (23994) وأبي يعلى (5408) وغيرهم.
(4)
أخرجه البخاري (121)، ومسلم (65) من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.