الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يهشّ) أي: ينثر بلين ورفق.
* * *
[باب زيارة القبور]
(ما من أحد يسلّم عليّ إلا رّدّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه السلام وقع السؤال عن الجمع بين هذا الحديث وبين حديث: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون" وسائر الأحاديث الدالّة على حياة الأنبياء، فإنّ ظاهر الأوّل مفارقة الرّوح له في بعض الأوقات، وألّفت في الجواب عن ذلك تأليفًا سمّيته إنباء (1) الأذكياء بحياة الأنبياء، وحاصل ما ذكرته فيه خمسة عشر وجهًا، أقواها أنّ قوله:"ردّ الله عليّ" جملة حالية، وقاعدة العربية أنّ جملة الحال إذا صدّرت بفعل ماض قدّرت فيها قد، كقوله تعالى:{أَو جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي: قد حصرت، وكذا هنا تقدّر والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد و"حتى"(ليست)(2) للتعليل بل مجرّد حرف عطف بمعنى الواو، فصار تقدير الحديث ما من أحد يسلّم عليّ إلا قد ردّ الله عليّ روحي قبل ذلك وأردّ عليه، وإنّما جاء الإشكال من ظنّ أنّ جملة "ردّ الله" بمعنى الحال أو الاستقبال، وظنّ أنّ "حتى" تعليلية، وليس
(1) في ب: "إنباه".
(2)
في أ: "ليس".
كذلك، وبهذا الذي قّررناه ارتفع الإشكال من أصله، ويؤيّده من حيث المعنى أنّ الردّ لو أخذ بمعنى الحال أو الاستقبال لزم تكرّره عند تكرّر المسلِّمين وتكرّر الردّ يستلزم تكرّر المفارقة، وتكرّر المفارقة يلزم عليه محذورات، منها تألّم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح منه، أو نوع ما من مخالفة التكريم إن لم يكن تأليم، ومنها مخالفة سائر الناس الشهداء وغيرهم، فإنّه لم يثبت لأحد منهم أنّه يتكرر له مفارقة الروح وعودها في البرزخ، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة، ومنها مخالفة القرآن فإنّه دلّ على أنّه ليس إلا موتتان وحياتان، وهذا التكرار يستلزم موتات كثيرة وهو باطل، ومنها مخالفة الأحاديث المتواترة الدالّة على حياة الأنبياء، وما خالف القرآن والسنَّة المتواترة وجب تأويله وإن لم يقبل التأويل كان باطلًا. قال البيهقي في كتاب الاعتقاد: الأنبياء بعدما قبضوا ردّت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء. وقال الأستاذ أبو منصور (عبد القاهر بن طاهر)(1) البغدادي: قال المتكلّمون المحقّقون من أصحابنا إنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم حيّ بعد وفاته، وإنّه يبشر بطاعات أمّته، ويحزن بمعاصي العصاة منهم، وإنّه تبلغه صلاة من يصلّي عليه من أمّته.
وقال: إنّ الأنبياء لا يبلون، ورأى موسى في قبره يصلّي.
وقال الشيخ تقيّ الدين السبكي: حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدنيا، ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإنّ الصلاة تستدعي جسدًا حيًّا ولا يلزم من كونها حياة حقيقيّة أن تكون (الأبدان)(2) معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب.
وبعد أن سطّرت هذا الجواب استنباطًا وقرّرته، رأيت هذا الحديث مخرّجًا في كتاب حياة الأنبياء للبيهقي بلفظ "إلا وقد ردّ الله عليّ روحي"، فصرّح فيه بلفظ "وقد"، فحمدت الله كثيرًا، وقوي أنّ رواية إسقاطها
(1) في ج: عبد القاهر ظاهر.
(2)
في أ: "أبدان".
محمولة على إضمارها، وأنّ حذفها من تصرّف الرواة. ثمّ رأيت البيهقي قال في شعب الإيمان: قوله إلَّا ردّ الله عليّ روحي، معناه والله أعلم إلا وقد ردّ الله عليّ روحي فأردّ عليه السلام. فحمدت الله عودًا على بدء.
ومن الأجوبة التي ذكرتها استنباطًا أيضًا، أنّ لفظ الردّ قد لا يدلّ على المفارقة بل كنّى به عن مطلق الصيرورة وحسنه هنا مراعاة المناسبة اللفظية بينه وبين قوله "حتى أرد عليه السلام"، فجاء لفظ الردّ في صدر الحديث لمناسبة ذكره في آخر الحديث.
ومن الأجوبة التي ذكرتها استنباطًا أنّه ليس المراد بردّ الروح عودها بعد المفارقة (للبدن)(1)، وإنّما النبيّ صلى الله عليه وسلم في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت مستغرق في مشاهداته كما كان في الدّنيا في حالة الوحي، فعبّر عن إفاقته من تلك الحالة بردّ الرّوح. ونظير هذا قولهم في اللفظة التي وقعت في بعض أحاديث الإسراء وهي قوله:"فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام" ليس المراد الاستيقاظ من نوم فإنّ الإسراء لم يكن منامًا، وإنّما المراد الإفاقة ممّا خامره من عجائب الملكوت.
ولي أجوبة أخرى مذكورة في التأليف المشار إليه.
وقال الشيخ تاج الدّين الفاكهاني في الفجر المنير: فإن قلت قوله "إلا رد الله عليّ روحي" لا يلتئم مع كونه حيًّا على الدّوام، بل يلزم منه أن تتعدّد حياته ووفاته؟ فالجواب: أن يقال المراد بالرّوح هنا النطق مجازًا، فكأنّه قال إلا ردّ الله إليّ (2) نطقي، وهو حيّ على الدّوام ولكن لا يلزم من حياته نطقه فيدّر عليه النطق عند سلام كلّ مسلم، وعلاقة المجاز أنّ النّطق من لازمه وجود الروح كما أنّ الروح من لازمه وجود النطق بالفعل أو القوة، فعبّر عليه الصلاة والسلام بأحد المتلازمين عن الآخر. وممّا يحقق
(1) في ج: "عودها في البدن".
(2)
في ج: "علي".
ذلك أنّ عود الروح لا يكون إلا مرتين عملًا بقوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} . انتهى.
وهذا الذي قاله من أنّه لا يلزم من حياته نطقه بعيد أو ممنوع، وما قلته من التأويلات أوجه وأقعد.
(فإذا قبور بمحنيّة) أي: بحيث ينعطف الوادي وهو منحناه أيضًا، ومحاني الوادي معاطفه.
* * *