الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«كلا وكلتا» وأن قولهم: كلاهما قائم بالإفراد لا يدل على أن «كلا» مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة، وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الأخبار عن كل واحد منهما بالقيام. وقد قررنا ذلك بما فيه كفايية.
فصل
المسلك الرابع: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كأنه قال: إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين، أو لطف قريب، أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير. فمنه قول الشاعر:
قامت تبكيه على قبره
…
من لي بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة
…
قد ذل من ليس له ناصر
المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة. ولولا ذلك لقالت: تركتني غربة. ومنه قول آخر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني
…
فراقك لم أبخل وأنت صديق
أراد وأنت شخص أو إنسان صديق.
وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة: حائض وطامث وطالق. فقال: كأنهم قالوا: شيء حائض وشيء طامث، وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه.
أحدها: أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره.
الثاني: أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب. وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول: جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا، وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت رجلا جميلا أو قبيحا، ولا تقول سكنت في قريب، تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان.
الثاني: أن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن، فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فصيحا بليغا فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق: شيء حائض وشيء طامث وشيء طالق؟ وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع. فكيف يقدر في الكلام معه أنه لا يتضمن فائدة أصلا؟ إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان.
وينبغي أن يتفطن هاهنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل بمجرد الاحتمال النحوي الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما، فإن هذا المقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر، فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن، مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً بالجر: إنه قسم. ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى:
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ
أن المقيمين مجرور بواو القسم. ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير. بل القرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفه والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم، فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفخمها، فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم.
فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي.
فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه. وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله.
الوجه الثالث: أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس، فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس، فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب.
في ذلك وهو المذهب الكوفي.
فإن قلت: هذا خلاف مذهب سيبويه.
قلت: فكان ماذا؟ وهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين؟ هذه طريقة الخفافيش. فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين أبدا، وقليل ما هم. ولا ريب أن أبا بشر رحمه الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلّى في هذا المضمار، ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب، وأنه لا حق إلا ما قاله. وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه