الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد رضوا بها واطمأنوا إليها، وقدموها على السنة والقرآن إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ أوجبه لهم اتباع الهوى، ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.
فصل
القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظلم لأنفسهم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم 53: 23 إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.
وهؤلاء قسمان:
أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى، وهم أهل الجهل والضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب، الذين يجهلون الحق ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه، ويوالون أهله 58: 18 وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ.
فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي لا يخون صاحبه أحوج ما هو إليه. ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان. كما هو حال من أمّ السراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك: أنه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، فحسب له ما عنده من العلم والعمل، فوفاه إياه بمثاقيل الذر.
وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباء منثورا، إذ لم يكن خالصا لوجهه، ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة كذلك هباء منثورا، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.
و «السراب» ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، كأنه ماء يجرى.
و «القيعة» والقاع: هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد.
فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله: بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه، فيخيب ظنه، ويجده نارا تتلظى.
فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس، واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء، وإذا أتوه وجدوا الله عنده، فأخذتهم زبانية العذاب فنقلوهم إلى نار الجحيم: 47: 15 وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما، وسقاهم إياه، كما أن طعامهم 88: 6، 7نْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة، التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغنى من جوع.
وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم 18: 103، 104 قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً وهم الذين عنى الله بقوله: 25: 22 وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.
وهم الذين عنى بقوله تعالى: 2: 167 كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ.
القسم الثاني من هذا الصنف: أصحاب الظلمات.
وهم المنغمسون في الجهل، بحيث قد أحاطت بهم جاهليتهم من كل وجه، وهم لذلك بمنزلة الأنعام، بل هم أضل سبيلا.
فهؤلاء أعمالهم التي يعملونها على غير بصيرة، بل بمجرد التقليد،
واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى.
فظلمات: جمع ظلمة، وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة ظلم النفس بالتقليد واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور.
فالمعرض عما بعث الله به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم، وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من النور جدّ في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره. فهرب إلى ظلمات الآراء. التي هي به أنسب. كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه
…
ووافقها قطع من الليل مظلم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار، ونحاتة الأذهان، جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي، وشمس الرسالة انجحر في جحرة الحشرات.
قوله فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ «اللجى» العميق، منسوب إلى لجة البحر.
وهو معظمه.
وقوله تعالى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه.
فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر.
وأنها أمواج بعضها فوق بعض.
والضمير الأول في قوله «يغشاه» راجع إلى البحر. والضمير الثاني في قوله «من فوقه» عائد إلى الموج.
ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب.
فههنا ظلمات: ظلمة البحر اللجى، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.
واختلف في معنى ذلك:
فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية، وأنه قد ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته. فكأنه قال: لم يقارب رؤيتها بوجه.
قال هؤلاء: «كاد» من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات. فإذا قيل: كاد يفعل فهو إثبات مقاربة الفعل. فإذا قيل: لم يكد يفعل: فهو نفي لمقاربة الفعل.
وقالت طائفة أخرى: بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد.
وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر، لأجل تلك الظلمات.
قالوا: لأن «كاد» لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، فإذا قلت: ما كدت أصل إليك. فمعناه: وصلت إليك بعد الجهد والشدة: فهذا إثبات للوصول. وإذا قلت: كاد زيد يقوم.
فهي نفي لقيامه، كما قال تعالى: 72: 19 وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ومنه قوله تعالى: 68: 51 وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وأنشد بعضهم في ذلك لغزا.
أنحوي هذا العصر: ما هي لفظة
…
جرت في لسان جرهم وثمود
وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت
…
فإن أثبتت قامت مقام جحود؟
وقالت فرقة ثالثة، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة يقتضى نفي خبرها، كقولك: كاد زيد يقوم: واستعمالها منفية يقتضى
نفيه بطريق الأولى. فهي عنده تنفي الخبر، سواء كانت منفية أو مثبتة. فلم يكد زيد يقوم أبلغ عنده في النفي من لم يقم. واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل، وهو أبلغ من نفيه. وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوعه.
واعتذر عن مثل قوله تعالى: 2: 71 فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ وعن مثل قوله: وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم: بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له. فالأول يقتضى وجود الفعل. والثاني يقتضى أنه لم يكن مقاربا له، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.
وذهبت فرقة رابعة: إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرف النفي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله لَمْ يَكَدْ يَراها وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات، نحو قوله فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.
فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.
والصحيح: أنها فعل يقتضى المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها. فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا، فيكون منفيا باللزوم.
وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة، كما إذا قلت: لا يكاد البطال يفلح، ولا يكاد البخيل يسود، ولا يكاد الجبان يفرح. ونحو ذلك.
وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك.
فهذا التحقيق في أمرها.
والمقصود: أن قوله: لَمْ يَكَدْ يَراها إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها؟
قال ذو الرمة:
إذا غيّر النأى المحبين، لم يكد
…
رسيس الهوى من حب ميّة يبرح
أي لم يقارب البراح. وهو الزوال. فكيف يزول؟.
فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه.
وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج، الذي قد غشيه السحاب من فوقه.
فيا له تشبيها ما أبدعه، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال، وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم وترك به كتابه.
وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم.
وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم، فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.
وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة.
فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه.
وقال في أعلام الموقعين:
ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان.
أحدهما: من يظن أنه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم. فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير الله، وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له، وليست كذلك. وهذه الأعمال التي قال الله عز وجل فيها 25: 23 وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.
وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالبقيعة- وهي الأرض القفراء الخالية من البناء، والشجر والنبات والعالم- فجعل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.
وتأمل ما تحت قوله: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً والظمآن: الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه، فلم يجده شيئا، بل خانه أحوج ما كان إليه. فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولغير الله جعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا، ووجدوا الله سبحانه ثمّ فجازاهم بأعمالهم، ووفاهم حسابهم.
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة «ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود:
ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: