الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» هم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، وهذا حق:
فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة. ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا ومسالمة من سالما، معلومة عند الأمة. خاصها وعامها.
وقال زيد بن أسلم «1» : الذين أنعم الله عليهم هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر. ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه، والمغضوب عليهم:
هم الخارجون عن أتباعه، وأتبع الأمة لهم وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته.
وأتباع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر، وأشد الأمة مخالفة لهما هم الرافضة، فخلافهم لهما معلوم عند جميع فرق الأمة، ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها، فهم أعداء سنته صلى الله عليه وسلم وأهل بيته.
وأتباعه من بنيهم أكمل ميراث؟ بل هم ورثته حقا.
فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه، وطريق أهل الغضب والضلال: طريق الرافضة. وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج.
فإن معاداتهم الصحابة معروفة.
فصل
وسر الخلق الأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب: انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد. حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب
(1) هو زيد بن أسلم العدوي مولاهم الفقيه العابد لقي ابن عمر وجماعة وكانت له حلقة للفتوى والعلم. بالمدينة قال أبو حازم الأعرج: لقد رأيتنا في حلقة زيد بن أسلم أربعين فقيها أدنى خصلة بيننا التواسي بما في أيدينا، ونقل البخاري أن زين العابدين بن علي بن علي بن الحسين كان يجلس إلى زيد بن أسلم، قال ابن ناصر الدين: زيد بن أسلم القريش العدوي العمري مولاهم المدني أبو عبد الله، وقيل أبو اسامة الإمام الفقيه، روي عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع وانس وأحزابهم وله تفسير القرآن يوريه عنه ابنه عبد الله (انظر شذرات الذهب) .
وأربعة كتب: جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن. وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين: فنصفها له تعالى وهو «إياك نعبد» ونصفهما لعبده وهو «إياك نستعين» وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه.
والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع. والعرب تقول: طريق معبد أي مذلّل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابدا له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدا له، حتى تكون محبا خاضعا، ومن هاهنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوبا لهم، بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم: منكرين لكونه إلها، وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم، فهذا غاية توحيدهم. وهو توحيد الربوبية، الذي اعترف به مشركو العرب، ولم يخرجوا به من الشرك، كما قال تعالى:
43: 87 وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقال تعالى:
39: 38 وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ 23:
84-
89 قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها؟. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.
والاستعانة: تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره، مع ثقته به، لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه، مع ثقته به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه.
فيحتاج إلى اعتماده عليه. مع أنه غير واثق به.
والتوكل معنى يلتئم من أصلين: من الثقة، والاعتماد، وهو حقيقة
«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وهذان الأصلان- وهما التوكل والعبادة- قد ذكر في القرآن في عدة مواضع، قرن بينهما فيها، هذا أحدها.
الثاني: [قوله تعالى في حكاية عن شعيب]«1» : 11: 88 وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
الثالث: قوله تعالى: 11: 123: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين 60: 4 رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
الخامس: قوله تعالى: 73: 8 و 9 وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.
السادس: قوله تعالى: 3: 13 قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» .
وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن «إياك نعبد» متعلق بألوهيته واسمه «الله» و «إياك نستعين» متعلق بربوبيته واسمه الرب. فقدم «إياك نعبد» على «إياك نستعين» كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة، ولأن «إياك نعبد» قسم الرب. فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و «إياك نستعين» قسم العبد، فكان مع الشطر الذي له، وهو «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» إلى آخر السورة.
(1) وردت في المطبوع: قول شعيب.
ولأن العبادة المطلقة: تتضمن الاستعانة، من غير عكس. فكل عابد لله عبودية تامة: مستعين به، ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته. فكانت العبادة أكمل وأتم. ولهذا كانت قسم الرب، ولأن الاستعانة جزء من العبادة، من غير عكس، ولأن الاستعانة طلب منه، والعبادة طلب له، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص، ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلب العون على العبادة. وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه: أهم من التعرض لصدقته. ولأن العبادة شكر نعمته عليك، والله يجب أن يشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك. فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقّها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة. وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.
والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه، ولأن «إياك نعبد» له. و «إياك نستعين» به، وما له مقدم على ما به. لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه. وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تتعلق بمشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته. والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي. والمتعلق بمحبته: طاعاتهم وإيمانهم. فالكفار أهل مشيئة، والمؤمنون أهل محبته. ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا. وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم «إياك نعبد» على «إياك نستعين» .
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه: أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الاهتمام وشدة العناية به، وفيه الإيذان بالاختصاص المسمى بالحصر. فهو في قوة: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك،
والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها، واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما، وسيبويه نص على الاهتمام، ولم ينف غيره. ولأنه يقبح من القائل: أن يعتق عشرة أعبد مثلا، ثم يقول لأحدهم: إياك أعتقت، ومن سمعه أنكر ذلك عليه، وقال: وغيره أيضا أعتقت. ولولا فهم الاختصاص لما قبح هذا الكلام، ولا حسن إنكاره.
وتأمل قوله تعالى: 2: 40 إِيَّايَ فَارْهَبُونِ 2: 41 وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ كيف تجده في قوة: لا ترهبوا غيري، ولا تتقوا سواي؟ وكذلك «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» هو في قوة: لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك، وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الاختصاص من هذا السياق، ولا عبرة بجدل من قلّ فهمه، وفتح عليه باب الشك والتشكيك، فهؤلاء هم آفة العلوم، وبلية الأذهان والفهوم، مع أن في ضمير «إياك» من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي «إياك قصدت، وأحببت» من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك: قصدتك وأحببتك. وإياك أعني: فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.
ومن هاهنا قال من قال من النحاة: إن «إيّا» اسم ظاهر، مضاف إلى الضمير المتصل، ولم يردّ بردّ شاف.
ولولا أنّا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة، وذكرنا مذاهب النحاة فيها، ونصرنا الراجح، ولعل أن نعطف على ذلك بعون الله.
وفي إعادة «إياك» مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلا: إياك أحب، وإياك أخاف. كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته، والاهتمام بذكره ما ليس في قولك: إياك أحب وأخاف.