الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء لله، ويعبدونها من دونه، مع هذا التفاوت العظيم، والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، مثل المؤمن في الخير الذي عنده، ثم رزقه منه رزقا حسنا. فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا. والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز، لا يقدر على شيء، لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟.
والقول الأول: أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبا بقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ. فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ثم قال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ.
ومن لوازم هذا المثل وأحكامه: أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه الله رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء.
فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه. فذكره ابن عباس رضي الله عنهما منبها على إرادته، لا أن الآية اختصت به.
فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرمان فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
فصل
وأما المثل الثاني: فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم، لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب واللسان. قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة. ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك
بخير، ولا يقضي لك حاجة. والله سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل- وهو الحق- يتضمن أنه سبحانه عالم به، معلّم له، راض به، آمر لعباده به، محب لأهله. لا يأمر بسواه، بل ينزه عن ضده، الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور.
وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني.
وكلاهما عدل، لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح «اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك» فقضاؤه: هو أمره الكوني. فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا يأمر إلا بالحق والعدل، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل.
وإن كان في المقضي المقدّر ما هو جور وظلم. فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر.
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم. وهذا نظير قول رسوله هود 11: 56 إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها نظير
قوله صلى الله عليه وسلم: «ناصيتي بيدك»
وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ نظير قوله «عدل في قضاؤك» فالأول ملكه. والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك. وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة، وحكمة وعدل، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، ولا
يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم: يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا منهم شيئا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به.
ثم حكى عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح عنه إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: 89: 14 إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.
وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد: هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه.
وهؤلاء، إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس هو كما زعموا. ولا دليل على هذا المقدر. وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل، وبين كونه على صراط مستقيم.
وإن أرادوا: أن حثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أن مرد العباد والأمور كلها إلى الله، لا يفوته شيء منها.
وهؤلاء: إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا: أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم، ومن مقتضاه وموجبه: فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره، وفي ملكه وقبضته.
وهذا- وإن كان حقا- فليس هو معنى الآية. وقد فرق هود عليه السلام بين قوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها وبين قوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط
…
إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقد قال تعالى: 6: 39، 100 مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ. وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وإذا كان الله سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على صراط مستقيم في أقوالهم وأفعالهم، فهو وسبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه: هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده، من قول الحق وفعله.
وبالله التوفيق.
وقال في مفتاح دار السعادة:
فالمثل الأول للصنم وعابديه. والمثل الثاني: ضربه الله تعالى لنفسه، وأنه يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
فكيف تسوّى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده: هو غاية الحكمة والإحسان والعدل، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم، وأمرهم ونهيهم.