الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجده محترقا كله كالصريم. فأي حسرة أعظم من حسرته؟.
قال ابن عباس: هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره. وقال مجاهد: هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت. وقال السدي: هذا مثل المرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه.
وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يوما عن هذه الآية فقالوا له: الله أعلم. فغضب عمر. وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس:
في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقر نفسك. قال: ضرب مثلا لعمل. قال: لأي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بالحسنات، ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها.
قال الحسن: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه، فقد جنته أحوج ما كان إليها. وإن أحدكم والله لأفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
فصل
فإن عرض لهذه الأعمال- من الصدقات- ما يبطلها من المن والأذى والرياء. فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب. والمن والأذى: يبطل الثواب التي كانت سببا له فمثل صاحبها، وبطلان عمله كَمَثَلِ صَفْوانٍ وهو الحجر الأملس عليه تراب فَأَصابَهُ وابِلٌ وهو المطر الشديد فَتَرَكَهُ صَلْداً لا شيء عليه.
وتأمل أجزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به، تعرف عظمة القرآن وجلالته.
فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي المانّ والمؤذي. فقلبه في قسوة عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر. والعمل الذي عمله لغير الله
بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر. فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل. فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلاء. وكذلك المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر. فإذا نزل عليه وابل الوحي تكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه. فبرز ما تحته حجرا صلدا، لا نبات فيه. وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء منه، أحوج ما كان إليه. وبالله التوفيق.
قول الله تعالى ذكره:
2: 282 أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى فيه دليل على أن الشاهد إذا نسي شهادته فذكّره بها غيره لم يرجع إلى قوله، حتى يذكرها. وليس له أن يقلده. فإنه سبحانه قال: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ولم يقل: فتخبرها.
وفيها قراءتان: التثقيل والتخفيف. والصحيح: أنهما بمعنى واحد من «الذكر» وأبعد من قال: فيجعلها «ذكرا» لفظا ومعنى. فإنه سبحانه جعل ذلك علة للضلال، الذي هو ضد الذكر. فإذا ضلت أو نسيت ذكرتها الأخرى فذكرت.
وقوله: أَنْ تَضِلَّ تقديره عند الكوفيين: لئلا تضل إحداهما.
ويطردون ذلك في كل ما جاء من هذا. كقوله تعالى: 4: 175 يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ونحوه.
ويرد عليهم نصب قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى إذ يكون تقديره:
لئلا تضلوا. ولئلا تذكر.
وقدره البصريون بمصدر محذوف. وهو الإرادة والكراهة والحذر.
ونحوها فقالوا: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي حذر أن تضلوا، وكراهة أن تضلوا ونحوه.
ويشكل عليهم هذا التقدير في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فإنهم إن قدروه كراهة أن تضل إحداهما: كان حكم المعطوف- وهو «فتذكر» حكمه-، فيكون مكروها. وإن قدروها: إرادة أن تضل إحداهما، كان الضلال مرادا.
والجواب عن هذا: أنه كلام محمول على معناه. والتقدير: أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلت. وهذا مراد قطعا.
وقال الشيخ ابن تيمية رحمة الله عليه: قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.
فيه دليل على استشهاد امرأتين مكان رجل هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت. وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط. وإلى هذا المعنى
أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أما نقصان عقلهن: فشهادة امرأتين بشهادة رجل»
فبين أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل، لا لضعف الدين. فعلم بذلك عدل النساء بمنزلة عدل الرجال. وإنما عقلها ينقص عنه. فما كان من الشهادة لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف الرجل. وما يقبل فيه شهادتهن منفردات إنما هو في أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها، من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال والارتضاع والحيض، والنفاس، والعيوب تحت الثياب. فإن مثل هذا لا ينسى في العادة، ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الاقرار بالدين وغيره. فإن هذه معان معقولة. ويطول العهد بها في الجملة.
2: 261 مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وهذه الآية كأنها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض، ومثله سبحانه بهذا المثل إحضارا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي من الحبة الواحدة فيضاف الشاهد العياني إلى الشاهد الإيماني القرآني فيقوي إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق، وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل وهي من جموع الكثرة إذ المقام مقام تكثير وتضعيف وجمعها على سنبلات في قوله تعالى: وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ فجاء بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير. وقوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ قيل: المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاء وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه لصفات المنفق وأحواله وفي شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع، وقيل: والله يضاعف لمن يشاء فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.
واختلف في تقدير الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة، وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة ليطابق الممثل للممثل به فههنا أربعة أمور: منفق، ونفقة، وباذر، وبذر، فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه فذكر من شق الممثل المنفق، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها، وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره، فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان.