الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والالتجاء إليه، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة. فهو مستعيذ بولي النعم وموليها. كأنه يقول: يا من أولاني نعمته وأسداها إليّ أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني، ويزيلها عني. وهو حسب من توكل عليه، وكافى من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستعير. وهو نعم المولى ونعم النصير. فمن تولاه واستنصر به، وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه، تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه أمّنه مما يخاف ويحذر.
وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع 65: 2، 3 وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته. فإن الله بالغ أمره. وقد جعل الله لكل شيء قدرا. لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ومن لم يخفه أخافه من كل شيء، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله. قال تعالى: 16: 98، 99 فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وقال: 3: 175 إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. فَلا تَخافُوهُمْ، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي يخوفكم بأوليائه، ويعظمهم في صدوركم. فلا تخافوهم، وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.
فصل
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب.
أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجأ إليه. وهو المقصود بهذه السورة، والله تعالى سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه، والسمع هنا المراد به: سمع الإجابة، لا السمع العام. فهو مثل قوله:«سمع الله لمن حمده» وقول الخليل صلى الله عليه وسلم: 14: 39 إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ومرة يقرنه بالعلم، ومرة بالبصر، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ
ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته، أي مجيب عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره، لينبسط أمل المستعيذ، ويقبل بقلبه على الدعاء.
وتأمل حكمة القرآن، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ «السميع العليم» في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ «السميع البصير» في سورة حم المؤمن. فقال: 40: 56 إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس، وخطرات يلقيها في القلب، يتعلق بها العلم. فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر، ويدرك بالرؤية. والله أعلم.
السبب الثاني: تقوى الله، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتقى الله تولّى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره. قال تعالى: 3: 121 وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»
فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف؟ ومن يحذر؟.
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا. فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغى عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه. وهو لا يشعر. فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه. ولو رأى المبغى عليه ذلك لسرّه بغيه عليه.
ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله. وقد قال تعالى: 22: 60 وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
اللَّهُ
فإذا كان الله قد ضمن له النصر، مع أنه قد استوفى حقه أولا، فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه، بل بغى عليه وهو صابر؟ وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وقد سبقت سنة الله: أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.
السبب الرابع: التوكل على الله. فمن يتوكل على الله فهو حسبه.
والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك. فإن الله حسبه، أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد، والجوع والعطش، وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا.
وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف:
جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: 65: 3 وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه، وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجا من ذلك، وكفاه ونصره.
وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده، وعظم منفعته، وشدة حاجة العبد إليه في «كتاب الفتح القدسي» وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة، وأنه من مقامات العوام. وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة. وبينا أنه من أجلّ مقامات العارفين، وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجته إلى التوكل أعظم وأشد، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله.
وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد، والعائن، والساحر، والباغي.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له. فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.
وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه لم يقدر عليه. فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه، حصل الشر وهكذا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبّثها به، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما، لا يفتر عنه، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا. فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار. ودام الشر، حتى يهلك أحدهما. فإذا جبذ روحه منه، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به. بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا. فإن الحسد كالنار، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا.
وهذا باب عظيم النفع لا يلقّاه إلّا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية، وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شيئا آلم لروحه من ذلك، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها. فوثقت بالله، وسكنت إليه، واطمأنت به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قيلا.
فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم، وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها، أو نصر مخلوق مثلها لها، ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس:
وهو الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والانابة
إليه في محل خواطر نفسه، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئا فشيئا، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب، والتقرب إليه وتملقه وترضيه، واستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه. فلا يستطيع قلبه انصرافا عن ذكره، ولا روحه انصرافا عن محبته. فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه، والطريق إلى الانتقام منه، والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله، وطلب مرضاته. بل إذا مسّه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج، ناداه حرس قلبه: إياك وحمى الملك. اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حلّ فيها، ونزل بها. مالك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس، وأحاطه بالسور، قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس: أنه قال:
38: 82، 83 فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فقال تعالى: 15: 42 إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وقال:
16: 99، 100 إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ وقال في حق الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم: 12: 24 كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن، وصار داخل اليزك، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصّن به. ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. فإن الله تعالى يقول: 42: 30 وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وقال لخير الخلق، وهم أصحاب نبيه دونه صلى الله عليه وسلم: 3:
165 أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ: أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ.
فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره.
وفي الدعاء المشهور «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم.
واستغفرك لما لا أعلم» .
فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه. فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك. فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه. ثم خرج إليه فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلّا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنقع له من التوبة النصوح.
وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها. فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه. والله يتولى نصرته وحفظه، والدفع عنه ولا بد. فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به. وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله. لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فما كل أحد يوفق لهذا. لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد. ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة.
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جنّة واقية، وحصن حصين.
وبالجملة: فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها.
ومن أقوى الأسباب: حسد الحاسد والعائن. فإنه لا يفتر ولا يني، ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود. فحينئذ يبرد أنينه، وتتطفئ ناره، لا أطفأها الله. فما حرس العبد نعمة الله بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله. وهو كفران النعمة. وهو باب إلى كفران المنعم.
فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه. فمن لم يكن له جند ولا عسكر، وله عدو. فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر. والله المستعان.
السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس، وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله- وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا، وله نصيحة، وعليه شفقة. وما أظنك تصدّق بأن هذا يكون، فضلا عن أن تتعاطاه.
فاسمع الآن قوله عز وجل: 41: 34- 36 وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وقال: 28: 54 أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم إذ ضربه قومه حتى أدموه. فجعل يسلت الدم عنه،
ويقول «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؟.
أحدها: عفوه عنهم. والثاني: استغفاره لهم. والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون. والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه.
فقال «اغفر لقومي»
كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به. هذا ولدي: هذا غلامي. هذا صاحبي، فهبه لي.
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس، ويطيبه إليها وينعمها به.
اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم؟ ليعاملك الله تلك المعاملة. فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك، جزاء وفاقا. فانتقم بعد ذلك، أو اعف، وأحسن أو اترك. فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
فمن تصور هذا المعنى، وشغل به فكره. هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه.
وهذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم يسيئون إليه.
فقال «لا يزال معك من الله ظهير، ما دمت على ذلك» .
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه. فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير، وهو مسيء إليه.
وجد قلبه وداءه وهمته مع المحسن على المسيء. وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده. فهو بهذا الإحسان، قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبزا.
هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه، فيستعبده وينقاد له، ويذل له، ويبقى الناس إليه. وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره، إن أقام على إساءته إليه. فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة. والله هو الموفق والمعين. بيده الخير كله، لا إله غيره، وهو المسؤول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه.
وفي الجملة: ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة. سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الذي يحسن عبده بها.
وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى: 10: 107 وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على