الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة. ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا.
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء «الوسواس» مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم عليها العبد. وجاء بناء «الخناس» على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل. لأنه كلما ذكر الله انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.
فصل
وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ صفة ثالثة للشيطان.
فذكر وسوسته أولا. ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره.
فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم:
على رسلكما، إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا» .
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط. فإذا قضى
أقبل. فإذا ثوب بها أدبر. فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا- لما لم يكن يذكر- حتى لا يدري: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإذا لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ سجد سجدتي السهو» .
ومن وسوسته: ما
ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول:
من خلق الله؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته» .
وفي الصحيح: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: «يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» .
ومن وسوسته أيضا: أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله. ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه. قال تعالى: حكاية عن صاحب موسى إنه قال: 18: 63 فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه «الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس» ولم يقل: من شر وسوسته: لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعم كل شره. ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا. وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة. فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة. ثم لا يزال يمثل له ويخيل ويمنى ويشهى وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها. فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط. وينسى ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة. فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث
الجنود في الطلب. فيبعث الشيطان معهم مددا لهم وعونا. فإن فتروا حرّكهم. وإن ونوا أزعجهم. كما قال تعالى: 19: 83 أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزّتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. وقد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم. وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم. فلا بتلك النخوة والكبر ولا برضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله. كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه
…
وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة
…
وصار قوادا لذريته
فأصل كل معصية وبلاء: إنما هو الوسوسة. فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه. وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره: أنه لص سارق لأموال الناس. فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف. وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله، فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم. فيدخل سارقا ويخرج مغيرا. ويدل على عوراتهم. فيأمر العبد بالمعصية. ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا: أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس، فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه، ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه إليهم، فأوقعه في الذنب، ثم فضحه به.
فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته، فيغتر العبد ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله. ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته. وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
ومن شره: أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة.
كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم- إذا هو نام- ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلّت عقدة. فإن توضأ انحلت عقدة. فإن صلى انحلت عقده كلها.
فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» .
ومن شره: أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح، كما
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح. فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه» رواه البخاري.
ومن شره: أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها. فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه. فإن خالفه وسلكه ثبّطه فيه وعوّقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع. فإن عمله وفرغ منه قيّض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته.
ويكفي من شره: أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم.
وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
ولقد بلغ شره: أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة. ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة للنار، من كل ألف:
تسعمائة وتسعة وتسعين. ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له، وأن يعبد هو من دون الله. فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله، وإبطال دعوته، وإقامة دعوة الكفر والشرك، ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض.
ويكفي من شره: أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار. فرد الله كيده عليه. وجعل النار على خليله بردا وسلاما.
وتصدى للمسيح صلى الله عليه وسلم حتى أراد اليهود قتله وصلبه. فرد الله كيده.
وضان المسيح ورفعه إليه.
وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا.
واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض، ودعوى أنه ربهم الأعلى.
وتصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وظاهر الكفار على قتله بجهده. والله تعالى يكبته ويرده خاسئا.
وتفلّت على النبي صلى الله عليه وسلم بشهاب من نار، يريد أن يرميه به. وهو في الصلاة.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألعنك بلعنة الله» .
وأعان اليهود على سحرهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر، فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته؟.
ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها. إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه. ولكن ينحصر شره في ستة أجناس. لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر.
الشر الأول: شر الكفر والشرك، ومعاداة الله ورسوله. فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه، واستراح من تعبه معه. وهو أول ما يريد من العبد.
فلا يزال به حتى يناله منه. فإذا نال ذلك صيّره من جنده وعسكره، واستنابه على أمثاله وأشكاله، فصار من دعاة إبليس ونوّابه. فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر.
وهي البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي. لأن ضررها في نفس الدين. وهو ضرر متعد. وهي ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به. وهي باب الكفر والشرك. فإذا نال
منه البدعة، وجعله من أهلها صار أيضا نائبه، وداعيا من دعاته.
فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر. وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها. ولا سيما إن كان عالما متبوعا. فهو حريص على ذلك، لينفر الناس عنه، ثم يشيع ذنوبه ومعاصيه في الناس، ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى، وهو نائب إبليس ولا يشعر. فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها. فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها، لا نصيحة منهم، ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه. كل ذلك لينفر الناس عنه، وعن الانتفاع به.
وذنوب هذا- ولو بلغت عنان السماء- هي أهون عند الله من ذنوب هؤلاء، فإنها ظلم منه لنفسه، إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته، وبدّل سيئاته حسنات.
وأما ذنوب أولئك: فظلم للمؤمنين، وتتبع لعوراتهم، وقصد لفضيحتهم. والله سبحانه بالمرصاد، لا تخفى عليه كمائن الصدر، ودسائس النفوس.
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم ومحقّرات الذنوب، فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض»
وذكر حديثا معناه: أن كل واحد منهم جاء بعود حطب، حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها. فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي اشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها.
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته، شحيحا به، يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب: نقله إلى المرتبة السادسة وهي: أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه، ليزيح عنه الفضيلة، ويفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفعل الخير المفضول، ويحضه عليه، ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه. وقلّ من يتنبه لهذا من الناس. فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة. فإنه لا يكاد يقول: إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير، فيقول: هذا الداعي من الله.
وهو معذور. ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوّت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله.
وأحبها إليه وأرضاها له، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ولرسوله، ولكتابه، ولعبادة المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة، وخلفائه في الأرض. وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك. فلا يخطر ذلك بقلوبهم. والله يمنّ بفضله على من يشاء من عباده.
فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيي عليه: سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع، والتحذير منه، وقصد إخماله وإطفاءه ليشوش عليه قلبه. ويشغل بحربه فكره، وليمنع الناس