الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل: كان المعنى: أنه كان سبحانه يشهد، وهو قائم بالعدل عالم به، لا بالظلم. فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا. فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء. وأن الذين أشركوا به غيره: هم الضالون الأشقياء. فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة، وجزاء المشركين بالنار: كان هذا من تمام موجب الشهادة، وتحقيقها. وكان قوله:«قائما بالقسط» تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها. والله أعلم.
فصل
وأما التقدير الثاني- وهو أن يكون قوله: «قائما» حالا مما بعد «إلا» - فالمعنى: أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل. فهو وحده المستحق الإلهية، مع كونه قائما بالقسط.
قال شيخنا: وهذا التقدير أرجح. فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم، يشهدون له بأنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط.
قلت: مراده: أنه إذا كان قوله: «قائما بالقسط» حالا من المشهود به: فهو كالصفة له. فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها. فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها، كان كلاهما مشهودا به. فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط، كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو.
والتقدير الأول لا يتضمن ذلك. فإنه إذا كان التقدير: شهد الله قائما بالقسط: أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو- كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده.
وأيضا: فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة.
فإن قيل: فإذا كان حالا من «هو» فهلا اقترن به؟ ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف، فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها؟.
قلت: فائدته ظاهرة. فإنه لو قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم- أو هم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله «قائما بالقسط» ويحسن العطف لأجل الفصل. وليس المعنى على ذلك قطعا. وإنما المعنى على خلافه. وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية. فهو وحده الإله المعبود المستحق للعبادة. وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل.
قوله: «لا إله إلا هو» ذكر محمد بن جرير الطبري «1» أنه قال: الأولى وصف وتوحيد. والثانية: رسم وتعليم، أي قولوا: لا إله إلا هو.
ومعنى هذا: أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها.
والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادة الله، لا عن شهادته هو. وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي. فيكون شاهدا هو بها أيضا.
وأيضا: فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد. والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله: «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» فتضمنت الآية توحيده وعدله، وعزته وحكمته.
(1) هو الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ والمصنفات الكثيرة، سمع إسحاق بن إسرائيل ومحمد بن حميد الرازي وطبقتهما، وكان مجتهدا لا يقلد أحدا، قاله في العبر قال إمام ائمة ابن خزيمة: ما اعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير. قال أبو حامد الإسفرائني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحص تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيرا، وكذلك أثنى ابن تيمية على تفسيره للغاية. ولد بآمل طبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة عشر وثلاثمائة ليومين بقيا من شوال. (انظر شذرات الذهب) .
فالتوحيد يتضمن ثبوت صفات كماله، ونعوت جلاله، وعدم المماثل له فيها، وعبادته وحده لا شريك له.
والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها منازلها، وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يمنع من يستحق العطاء، وان كان هو الذي جعله مستحقا.
والعزة تتضمن كمال قدرته، وقوته وقهره.
والحكمة تتضمن كمال علمه وخبرته، وأنه أمر ونهي، وخلق وقدر، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد.
فاسمه «العزيز» يتضمن الملك. واسمه «الحكيم» يتضمن الحمد.
وأول الآية يتضمن التوحيد، وذلك حقيقة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» .
وذلك أفضل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله.
و «الحكيم» الذي إذا أمر بأمر كان المأمور به حسنا في نفسه، وإذا نهى عن شيء كان المنهي عنه قبيحا في نفسه، وإذا أخبر بخبر كان صدقا، وإذا فعل فعلا كان صوابا. وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره.
وهذا الوصف على الكمال: لا يكون إلا لله وحده.
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة وحدانيته المنافية للشرك، وعدله المنافي للظلم، وعزته المنافية للعجز، وحكمته المنافية للجهل والعيب.
ففيها: الشهادة له بالتوحيد والعدل والقوة، والعلم والحكمة، ولهذا كانت أعظم شهادة.
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف. إلا أهل السنة، وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها.
فالفلاسفة أشد الناس إنكارا لها، وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها.
وطوائف الاتحادية: هم أبعد خلق الله منها من كل وجه.
وطائفة الجهمية: تنكر حقيقتها من وجوه.
منها: أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه، وإنابة.
وعندهم: أن الله لا يحبّ، ولا يحبّ.
ومنها: أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به. وهو عندهم: لا يقول ولا يتكلم، ولا يشهد ولا يخبر.
ومنها: أنها تضمنت مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم: أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم، وليس فوق العرش إله يعبد، ولا رب يصلى له ويسجد. وعند حلوليتهم: أنه حال في كل مكان بذاته، حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكرها. فهؤلاء الجهمية، وأولئك نفاتهم.
ومنها: أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله. وعندهم: أنه لم يقم به فعل، في مقدوره ما يكون ظلما ولا قسطا، بل الظلم عندهم: هو المحال الممتنع لذاته. والقسط: هو الممكن. فنزه نفسه سبحانه- على قولهم- عن المحال الممتنع لذاته، الذي لا يدخل تحت القدرة.
ومنها: أن العزة هي القوة والقدرة. وعندهم: لا يقوم به صفة.
ومنها: أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون وجودها أولى من عدمها. وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه وتعالى. فلا يفعل لحكمة، ولا غاية لفعله ولا أمره. وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل.
ومنها: أن الإله: هو الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى. وهو