الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقتضيا للمطلوب. وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه.
وإنما يتقرر هذا بالكلام في
الفصل الثالث
. وهو الشيء المستعاذ منه.
فتتبين المناسبة المذكورة. فنقول:
الفصل الثالث
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين.
الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين:
إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها. فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه. ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها. وهو أعظم الشرين وأدومهما، وأشدهما اتصالا بصاحبه.
وإما شر واقع به من غيره. وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره، وهو الإنسان، أو ليس نظيره، وهو الجني. وغير المكلف: مثل الهوام وذوات الحمة «1» وغيرها.
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذة، بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما.
فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة.
أحدها: شر المخلوقات التي لها شر عموما.
الثاني: شر الغاسق إذا وقب.
الثالث: شر النفاثات في العقد.
الرابع شر الحاسد إذا حسد.
(1) الحمة: كثبة. وهو الإسم والإبرة التي يضرب بها العقرب والحية أو بلوغ بها ونحو ذلك.
فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد، والتحرز منها قبل وقوعها، وبماذا تدفع بعد وقوعها؟.
وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر: ما هو؟ وما حقيقته؟.
فنقول: الشر. يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه.
وليس له مسمى سوى ذلك. فالشرور: هي الآلام وأسبابها. فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم: هي شرور، وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة، لكنها شرور. لأنها أسباب للآلام، ومفضية إليها، كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها. فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة، وعلى الذبح والإحراق بالنار، والخنق بالحبل، وغير ذلك من الأسباب التي تكون مفضية إلى مسبباتها، ولا بد، ما لم يمنع من السبية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده، كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان، وعظم الحسنات الماحية وكثرتها. فيزيد في كميتها أو كيفيتها على أسباب العذاب. فيدفع الأقوى الأضعف.
وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة، كأسباب الصحة والمرض، وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود: أن هذه الأسباب التي فيها لذة مّا هي شر، وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة. وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم، إذا تناوله الآكل لذّ لأكله وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل. فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد، حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة والخاصة والعامة من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته؟ فإن الله إذا أنعم على عبد نعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه 13: 11 إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ. وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ.
8: 53 ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه: إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله.
وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه. وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها
…
فإن المعاصي تزيل النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته. ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره. ولا زالت عن العبد نعمة بمثل معصيته لربه. فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس. ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
والمقصود: أن هذه الأسباب شرور ولا بد.
وأما كون مسبباتها شرورا: فلأنها آلام نفسية وبدنية. فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات. ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب. ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا، حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله. وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم، والإشراف والاطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول:
89: 24 يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي و 39: 56 يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها، كانت استعاذات النبي صلى الله عليه وسلم جميعها مدارها على هذين الأصلين. فكل ما استعاذ منه أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما
مؤلم، وإما سبب يفضى إليه، فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع. وأمر بالاستعاذة منهن وهي:«عذاب القبر، وعذاب النار» فهذان أعظم المؤلمات «وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال» وهذان سبب العذاب المؤلم. فالفتنة سبب العذاب. وذكر الفتنة خصوصا. وذكر نوعي الفتنة.
لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت. ففتنة الحياة: قد يتراخى عنها العذاب مدة، وأما فتنة بعد الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ.
فعادت الاستعاذة إلى الاستعاذة من الألم والعذاب وأسبابها.
وهذا من آكد أدعية الصلاة، حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير. وأوجبه ابن حزم في كل تشهد. فإن لم يأت به فيه بطلت صلاته.
ومن ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال»
فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان.
فالهم والحزن قرينان، وهما من آلام الروح ومعذّباتها. والفرق بينهما: أن الهم توقع الشر في المستقبل. والحزن: هو التألم على حصول المكروه في الماضي، أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح. فإن تعلق بالماضي سمي حزنا. وإن تعلق بالمستقبل سمى همّا.
والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم. لأنهما يستلزمان فوات المحبوب. فالعجز يستلزم عدم القدرة. والكسل يستلزم عدم إرادته.
فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبن والبخل قرينان. لأنهما عدم النفع بالمال والبدن. وهما من أسباب الألم. لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة، لا تنال إلا بالبذل والشجاعة. والبخل يحول بينه وبينها. فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.