الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان يأمرها. وفرق بين الأمرين. ولا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرها على رقيته أن يكون هو مسترقيا. فليس أحدهما بمعنى الآخر. ولعل الذي كان يأمرها به: إنما هو المسح على نفسه بيده. فيكون هو الراقي لنفسه ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه. ويكون هذا غير قراءتها هي عليه، ومسحها على بدنه. فكانت تفعل هذا وهذا. والذي أمرها به إنما هو نقل يده لا رقيته. والله أعلم.
والمقصود: الكلام على هاتين السورتين. وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما. وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس، فنقول والله المستعان:
قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول. وهي أصول الاستعاذة.
أحدها: نفس الاستعاذة.
والثانية: المستعاذ به.
والثالثة: المستعاذ منه.
فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين.
فنعقد لهما ثلاثة فصول:
الفصل الأول:
في الاستعاذة. والثاني: في المستعاذ به. والثالث في المستعاذ منه.
الفصل الأول
اعلم أن لفظة «عاذ» وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة. وحقيقة معناها: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه.
ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا، كما يسمى: ملجأ ووزرا.
فمعنى «أعوذ» ألتجئ وأعتصم، وأتحرز.
وفي أصله قولان. أحدها: أنه مأخوذ من الستر.
والثاني: أنه مأخوذ من لزوم المجاورة.
فأما من قال: إنه من الستر فقال: العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها «عوّذ» بضم العين وتشديد الواو وفتحها، فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها: سموه عوّذا. فكذلك العائذ قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجنّ به منه.
ومن قال: هو لزوم المجاورة قال: العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلّص منه «عوّذ» لأنه اعتصم به، واستمسك به. فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به، واعتصم به، ولزمه.
والقولان حق. والاستعاذة تنتظمهما معا. فإن المستعيذ مستتر بمعاذه، مستمسك به، معتصم به. قد استمسك قلبه به ولزمه، كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به، فهرب منه. فعرض له أبوه في طريق هربه. فإنه يلقي نفسه عليه، ويستمسك به أعظم استمساك. فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه، وفر إليه، وألقى نفسه بين يديه، واعتصم به، والتجأ إليه.
وبعد، فمعنى الاستعاذة القائم بقلب المؤمن وراء هذه العبارات.
وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم، وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الالتجاء والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه:
أمر لا تحيط به العبارة.
ونظير هذا: التعبير عن معنى محبته وخشيته، وإجلاله ومهابته. فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك، ولا تدرك إلا بالاتصاف بذلك، لا بمجرد الوصف والخبر، كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنّين لم تخلق له شهوة أصلا، فمهما قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به، لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه. فإذا وصفتها لمن خلقت الشهوة فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق.
وأصل هذا الفعل: «أعوذ» بتسكين العين وضم الواو، ثم أعلّ بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو. فقالوا: أعوذ على أصل هذا الباب، ثم طردوا إعلاله، فقالوا في اسم الفاعل: عائذ. وأصله: عاوذ. فوقعت الواو بعد ألف فاعل، فقلبوها همزة، كما قالوا: قائم، وخائف. وقالوا في المصدر: عياذا بالله. وأصله: عواذا كلوذ، فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها، ولم تحصنها حركتها. لأنها قد ضعفت بإعلالها في العمل. وقالوا:
مستعيذ. وأصله: مستعوذ، كمستخرج، فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها، فلما كسرت العين قبلت قبلها كسرة، فقلبت ياء على أصل الباب.
فإن قلت: فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل، كقوله:
16: 98 فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ولم تدخل في الماضي والمضارع، بل الأكثر أن يقال: أعوذ بالله، وتعوّذت، دون أستعيذ، واستعذت؟.
قلت: السين والتاء دالة على الطلب، فقوله: أستعيذ بالله، أي أطلب العياذ به. كما إذا قلت: أستخير الله: أي أطلب خيرته، وأستغفره.
أي أطلب مغفرته. وأستقيله. أي أطلب إقالته. فدخلت في الفعل إيذانا بطلب هذا المعنى من المعاذ. فإذا قال المأمور: أعوذ بالله. فقد امتثل ما طلب منه. لأنه طلب منه الالتجاء والاعتصام. وفرق بين نفس الالتجاء والاعتصام، وبين طلب ذلك. فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما
بالله، أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله.
وهذا بخلاف ما إذا قيل: استغفر الله. فقال: أستغفر الله. فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله. فإذا قال: أستغفر الله، كان ممتثلا. لأن المعنى: أطلب من الله أن يغفر لي.
وحيث أراد هذا المعنى في الاستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين والتاء، فيقول: أستعيذ بالله. أي أطلب منه أن يعيذني. ولكن هذا معنى غير نفس الاعتصام والالتجاء والهرب إليه.
فالأول: مخبر عن حاله وعياذه بربه. وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه.
والثاني: طالب سائل من ربه أن يعيذه. كأنه يقول: أطلب منك أن تعيذني.
فحال الأول أكمل. ولهذا
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتثال هذا الأمر «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» . و «أعوذ بكلمات الله التامات» . و «أعوذ بعزة الله وقدرته»
دون: أستعيذ، بل الذي علمه الله إياه أن يقول: أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ دون أستعيذ. فتأمل هذه الحكمة البديعة.
فإن قلت: فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به، فقال:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ومعلوم أنه إذا قيل:
قل الحمد لله، وقل: سبحان الله فإن امتثاله أن يقول: الحمد لله، وسبحان الله، ولا يقول: قل سبحان الله.
قلت: هذا هو السؤال الذي أورده أبيّ بن كعب على النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، وأجابه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد قال البخاري في صحيحه. حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عاصم وعبدة عن زرّ بن حبيش قال: «سألت أبيّ بن كعب عن