الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معناه: كان ثمّ نور، أو حال دون رؤيته نور، فإنّي أراه؟
قال: ويدل عليه: أن
في بعض الألفاظ الصحيحة «هل رأيت ربك؟
فقال: رأيت نورا» .
وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس، حتى صححه بعضهم فقال «نور إني أراه» على أنها ياء النسب. والكلمة كلمة واحدة.
وهذا خطأ لفظا ومعنى. وإنما أوجب لهم هذا الأشكال والخطأ: انهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وكان قوله «أني أراه» كالانكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه.
وكل هذا عدول عن موجب الدليل.
وقد حكي عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج. وبعضهم استثني ابن عباس فيمن قال ذلك.
وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه. وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين، حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنه.
ويدل على صحته: ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه:
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «حجابه النور»
فهذا النور هو- والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه «رأيت نورا» .
فصل
وقوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره.
وقد اختلف في مفسر الضمير في «نوره» فقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم أي مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: مفسره المؤمن، أي مثل نور المؤمن.
والصحيح: أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور: رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور، وهو وجه الكلام، يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظا ومعنى.
وهذا النور يضاف إلى الله تعالى، إذ هو معطيه لعبده، وواهبه إياه.
ويضاف إلى العبد، إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. ولهذا النور فاعل وقابل، ومحل وحامل، ومادة.
قد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل:
هو الله تعالى مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء. والقابل: العبد المؤمن. والمحل: قلبه. والحامل: همته وعزيمته وإرادته. والمادة:
قوله وعمله.
وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما؟ من نوره: ما تقربه عيون أهله، وتبتهج به قلوبهم.
وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان.
إحداهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن.
فتأمل صفة المشكاة، وهي كوّة تنفذ لتكون أجمع للضوء- قد وضع
فيها مصباح. وذلك المصباح داخل زجاجة تشبيه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا، من زيت شجرة في وسط القراح، لا شرقية ولا غربية، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح، محمية بأطرافه، تصيبها الشمس أعدل إصابة. والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وصفه في قلب عبده المؤمن، وخصه به.
والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن. والزجاجة: قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها.
وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن، ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء وبصلابته يشتد في أمر الله ويتصلب في ذات الله تعالى، ويغلظ على أعداء الله تعالى، ويقوم بالحق لله تعالى.
وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف «القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله أرقها وأصلبها وأصفاها» والمصباح هو نور الإيمان في قلبه، والشجرة المباركة: هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتّقد منها. والنور على النور نور الفطرة الصحيحة، والإدراك الصحيح ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع، والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل، بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه