الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
ويكون قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ مطابقا لقوله تعالى «أَطْفَأَهَا اللَّهُ» ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه: هو تركهم في الظلمات والحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم صم بكم عمي.
وهذا التقدير- وإن كان حقا- ففي كونه مرادا بالآية نظر. فإن السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وموقد نار الحرب لا نور له. ويأباه قوله تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسن: هو المنافق، أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال:
فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه. وقال تعالى في حق الكفار: 2: 171 صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فسلب العقل عن الكفار، إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين، لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.
فصل
[سورة البقرة (2) : آية 19]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها. فذهب نوره، وبقي في الظلمات حائرا تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا، وبنصيب أصحاب الصيّب، وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى سفل. فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب. لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد
وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك، مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد، والشجر والدواب، فإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب.
فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق، ولوازم ذلك: من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب. وهذه حال أكثر الخلق، إلا من صفت بصيرته. فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق، والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة، وملامة اللوام، ومعاداة من يخاف معاداته. لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون، وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء حال الضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه.
والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبلغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.
وقال الزمخشري: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من تشبيه الكفر بالظلمة وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة من الأفزاع من البلايا
والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوي صيب.
والمراد: كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة، فلقوا منها ما لقوا.
قال: والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه: أن المثلين جميعا من جهة التمثيلات المتركبة، دون المفرقة، لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه فيه.
وهذا القول الفحل، والمذهب الجزل، بيانه: أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها عن بعض، لم يأخذ بحجزة ذاك. فتشبهها بنظائره، كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها. كقوله تعالى: 62: 5 مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الغرض: تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة. وتساوي الحالين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأحمال ولا يشعر من ذلك إلا بما يزيده من الكد والتعب، وكقوله تعالى: 18: 45 وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالافراد غير منوبة بعضها ببعض، وتصييرها شيئا واحدا فلا كذلك، لما وصف من وقوع المنافقين في ضلالتهم، وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، فشبه حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل. وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة، مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.
قال: فإن قلت أي المثلين أبلغ؟.
قلت: الثاني. لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر، وفظاعته.
وكذلك أفرادهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.