الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبيه». {يُسْقى} أي الجنّات وما فيها. {الْأُكُلِ} ما يؤكل، فمنها الحلو ومنها الحامض، ومنها الثّمر ومنها الحبّ، وغير ذلك من الاختلاف شكلا وقدرا ورائحة وطعما، وهو من دلائل قدرته تعالى {إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور {لَآياتٍ} لدلالات {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبّرون ويستعملون عقولهم بالتفكّر.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن أكثر النّاس لا يؤمنون، أعقبه ببيان ما يدلّ على التّوحيد والمعاد، بالاستدلال بأحوال السّموات وأحوال الشّمس والقمر، وبأحوال الأرض: جبالها وأنهارها، وبأحوال النّبات من زروع وثمار وأشجار مختلفة الطّعوم والرّوائح والألوان.
وبعد أن بيّن الله تعالى أن القرآن حقّ، بيّن أن من أنزله قادر على الكمال، فانظروا في مصنوعاته لتعرفوا كمال قدرته.
التّفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه: أنه الذي خلق السّموات بغير أعمدة، لا نشاهدها بالعين، فهي لا عمد لها أصلا، وقوله:{تَرَوْنَها} مؤكد معنى كونها بغير عمد، لأن المراد إثبات وجود الله تعالى وقدرته، فلو كان لها أعمدة، فلا يكون في الآية دلالة على وجود الله تعالى، فهي تقوم بقدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره، وتقوم في الفضاء بإبقائه تعالى، حتى ولو قيل بتوازن قانون الجاذبية بين النّجوم والكواكب، فإن ذلك بخلق الله تعالى.
ثم استوى الله تعالى على عرشه استواء يليق به، والعرش شيء مخلوق، نؤمن به كما أخبر القرآن، وهو أعظم من السّموات والأرض،
جاء في الحديث:
في رواية: «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل» .
وسخّر الشّمس والقمر، أي ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما لمنافع خلقه، من دوران وضياء، وظهور واختفاء، جاء في آيات أخرى ما يبيّن دورة الشّمس حول نفسها، وحركة القمر حول الأرض، فقال تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس 38/ 36 - 40].
وكلّ من الشّمس والقمر وغيرهما من الكواكب السّيارة يجري لأجل مسمّى، أي لمدة معيّنة هي نهاية الدّنيا ومجيء القيامة، أو لمدة محددة يتمّ فيها دورانه، فالشّمس تتمّ دورتها في سنة، والقمر يتمّ دورته في شهر.
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي إنّ الله تعالى يدبّر أمر الكون ويصرفه على وفق إرادته ومقتضى حكمته، فيحيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويغني ويفقر، ويهيء الأسباب للنّتائج والمسببات، ويسيّر الأفلاك في نظام دقيق ثابت لا يخطئ ولا يتغيّر.
{يُفَصِّلُ الْآياتِ} أي يبيّن الدّلائل الدّالّة على وجوده تعالى ووحدانيته وقدرته وحكمته وعلمه ورحمته.
{لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي يوضح الآيات والدّلالات الدّالة على أنه لا إله إلا هو، وأنه قادر على أن يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه أولّ مرة، رجاء أن تتيقّنوا وتتحقّقوا، أو لتعلموا علم اليقين القاطع الذي لا شكّ فيه أنّ الله قادر على البعث والإعادة، والحساب والجزاء، وإحياء الموتى من القبور في أي مكان دفنوا في البرّ أو البحر أو في أجواف الحيوان.
فالذي قدر على خلق السّموات والأرض وما بينهما وما فيهما، ودبّر نظام الكون والحياة وأمور الخلق بدقة فائقة، لا يبعد عليه ولا يعجزه البعث الجديد، وإعادة الأرواح إلى أجسادها، ثم حساب أصحابها على ما قدّموا في دار الدّنيا.
هذه هي الأدلّة السّماوية على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، أتبعها بالأدلّة الأرضيّة، وهي:{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} أي والله تعالى هو الذي جعل الأرض متّسعة، منبسطة للحياة، ممتدة في الطول والعرض، ليتمكّن الإنسان والحيوان من التّنقل فيها بسهولة، والانتفاع بخيراتها النّباتية والمعدنية كقوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً} [النّبأ 6/ 78]. ولا يمنع انبساط الأرض للحياة في أجزائها أنها غير كروية أو مسطّحة في حجمها الكلي، فقد أشار القرآن الكريم لكرويتها في آيات أخرى منها:{يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزّمر 5/ 39] والتّكوير: اللف على الجسم المستدير، فهي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها.
وأرساها بجبال راسيات شامخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، لسقاية ما فيها من الثّمرات المختلفة الألوان والأشكال والطّعوم والرّوائح.
وجعل فيها من كلّ صنف من أصناف الثّمار زوجين اثنين أي ذكرا وأنثى، فالشّجر والزّرع لا ينتجان الثّمر والحبّ إلا من عضوين: ذكر وأنثى، وجعل أيضا من كلّ ثمر صنفين، إما من حيث الطّعم كالحلو والحامض، أو من حيث اللون كالأسود والأبيض، أو الطّبيعة كالحار والبارد.
ونظير الآية قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً} [النّبأ 6/ 78 - 8].
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} أي يغطي الله ضوء النّهار بظلمة الليل، ويطرد ظلام الليل بنور النّهار، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} [النّبأ 9/ 78 - 11]، وقال تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً} [النّمل 86/ 27]، وقال تعالى:{وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الرّوم 23/ 30].
ثم نبّه الله تعالى في ختام الآية إلى وجوب التّفكّر في تلك الآيات السّماوية والأرضية، فقال:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في مخلوقات الله وعجائب خلقه وآلائه وحكمه لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها ويعتبر بعظمتها، فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه، وإرادته، مما لا يوجد له مثيل في الكون، وذلك يستوجب تخصيصه بالعبادة، والخضوع لسلطانه، والتّزام أوامره.
ومن الآيات الأرضية اختلاف أجزاء الأرض بالطبيعة والماهية، وهي مع ذلك متجاورة فقال تعالى:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ.} .، أي وفي الأرض أجزاء يجاور بعضها بعضا، ويقرب بعضها من بعض، وهي مع تجاورها مختلفة متغايرة الخواص، فمنها طيب ينبت ما ينفع النّاس، ومنها سبخة مالحة لا تنبت شيئا، ومنها صالح للزّرع دون الشّجر وبالعكس، ومنها الرّخوة ومنها الصّلبة، وتختلف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه صفراء، وهذه بيضاء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه مرملة، وهذه سميكة، وهذه رقيقة، والكلّ متجاورات، وهي مختلفة الصّفات، مما يدلّ على وجود الخالق المختار، الذي لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
وفيها بساتين من أعناب، وزروع متفاوتة من حبوب مختلفة لتوفير غذاء الإنسان والحيوان، ونخيل صنوان وغير صنوان، والصّنوان: ذو الأصول أو الجذوع المجتمعة في منبت واحد كالرّمان والتّين وبعض النّخيل، وغير الصّنوان:
ما كان على أصل أو جذع واحد كسائر الأشجار.
جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه التّرمذي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «أما شعرت أن عمّ الرّجل صنو أبيه» . وقال البراء رضي الله عنه: الصّنوان هي النّخلات في أصل واحد، وغير لصّنوان: المتفرّقات.
ويظهر التّفاوت العجيب في بقاع الأرض وأصناف النّبات في أن الأرض