الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية. ورواية ابن جرير وأبي الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن عباس أنهم قالوا: سيّر بالقرآن الجبال، قطّع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا، فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:
لو سيرت لنا جبال مكة، حتى تتسع، فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض، كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى، كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل الله:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيا كما تزعم، فباعد جبلي مكة أخشبيها (جبلين فيها) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة، حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى، حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجيء في ليلة، كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن قص الله علينا ما طلبه المشركون من آيات تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أوضح أن محمدا كغيره من الرسل مع أقوامهم، طلبوا الآيات من أنبيائهم، وأجابهم الله إلى مطلبهم، ولكنهم لم يؤمنوا، فعذبوا بعذاب الاستئصال.
ولو أرادوا آية، فقد أعطيناك هذا الكتاب، وأنت تتلوه، والله قادر على كل شيء من الإتيان بما اقترحوه، ولكنه لا يحقق المقصود. ثم هددهم الله بداهية تحل بهم، ثم أتبع ذلك بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على استهزائهم به.
التفسير والبيان:
مثلما أرسلنا رسلا في الأمم الماضية، أرسلناك يا محمد في هذه الأمة لتبلغهم
رسالة الله إليهم، وما أوحيناه إليك، وقد كذّب الرسل من قبلك، فلك بهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، قال تعالى:{تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل 63/ 16] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا، حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام 34/ 6].
والخلاصة: إننا أرسلناك بكتاب تبلّغه للناس وتقرؤه عليهم، كما أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، ولما كذّب الرسل، انظر كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة.
{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ} أي والحال أن هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يقرون به، ولا يشكرون نعمه وفضله، وقالوا: إن له شريكا.
{قُلْ: هُوَ رَبِّي، لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} أي قل لهم: إن الرحمن الذي تكفرون به، أنا مؤمن به معترف، مقرّ له بالربوبية والألوهية، فهو متولي أمري وخالقي، وهو ربي لا إله إلا هو، لا رب غيره ولا معبود سواه.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي توكلت عليه في جميع أموري، وفوضتها إليه، ووثقت به.
{وَإِلَيْهِ مَتابِ} أي إليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه، أو إليه توبتي، بمعنى قوله:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر 55/ 40].
ثم بيّن الله تعالى عظمة القرآن وشأنه وتفضيله على سائر الكتب المنزلة قبله، فقال:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً.} . أي لو كان هناك في الكتب الماضية كتاب تسيّر بتلاوته الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتشقق وتجعل أنهارا
وعيونا، أو تكلم به الموتى في قبورها بإحيائهم بقراءته، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، بل هو الأولى لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله، ولا بسورة من مثله، ولأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا لاشتماله على الأدلة الكونية الدالة على وجود الصانع، والأحكام والأنظمة التي تصلح البشر وتسعدهم في الدارين. والآية مثل قوله تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} [الحشر 21/ 59].
{بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} بل مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومن يضلل الله فلا هادي له، ومن يهد الله فما له من مضل، فهو سبحانه صاحب الإرادة والأمر في إنزال الآيات، وهو القادر على كل شيء، فلو كان تحقيق طلب ما اقترحوه مناسبا مشتملا على الحكمة والمصلحة، لأنجزه تعالى، ولكن كفى بالقرآن آية لأولي الألباب، والإرادة الإلهية لم تتعلق بغير ذلك؛ لعلمه تعالى ألا فائدة في مجاراتهم، وأن قلوبهم لا تلين، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، فكان الإضلال والهداية مرتبطا بنظام السببية، أي أن الله أنزل في القرآن آيات كافية للهداية، فمن أعرض عنها ضل، فكان ترك الآيات سببا في ضلاله.
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ.} . أي ألم يعلم المؤمنون أن الله قادر لو شاء على هداية الناس أجمعين إلى الإيمان بالقرآن.
أو ألم ييأس الذين آمنوا من إيمان جميع الخلق، ويعلموا أو يتبينوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى دينه، فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ، ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن.
ثبت في الصحيح الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله
البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». والمراد: أن معجزة كل نبي انقرضت بموته، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد، لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار، قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا.} . أي لا تزال القوارع والبلايا من القتل والأسر، والسلب تصيب الكافرين في الدنيا بسبب تكذيبهم لك وتماديهم في الكفر، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف 27/ 46].
{حَتّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ} حتى ينجز الله وعده لك فيهم، بنصرك عليهم، وهو فتح مكة كما قال ابن عباس وآخرون، أو حتى ينتهي هذا العالم بالنسبة لكفار آخرين.
{إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} إن الله ينجز وعده الذي وعدك به، من النصر عليهم، ولا ينقض وعده لرسله بالنصر لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه:{فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ} [إبراهيم 47/ 14].
ثم أنزل الله تسلية لنبيه عن استهزائهم بطلب هذه الآيات، وتخفيفا عما كان يشق عليه من ذلك، وعن تكذيب بعض قومه، فقال:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ.} . أي إن كذّبك بعض قومك واستهزأ بك المشركون منهم، وطلبوا آيات منك عنادا ومكابرة، فاصبر على أذاهم، فلك في الرسل المتقدمين أسوة، ثم بين تعالى شأنه معهم فقال:{فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي أنظرتهم وأجّلتهم مدة من الزمان، ثم أوقعت بهم العذاب، فانظر كيف عقابي لهم حين عاقبتهم، كما قال
تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، ثُمَّ أَخَذْتُها، وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج 48/ 22]
وجاء في الصحيحين: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}» . والمراد بالآية أني سأنتقم من هؤلاء الكفار، كما انتقمت من أولئك المتقدمين.
ثم ذكر الله تعالى ما يكون توبيخا لهم على موقفهم وعقلهم، وما يدعو إلى التعجب منهم فقال:{أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ.} . أي إن الله مطلع على كل نفس، عالم بما يكسبونه من أعمال الخير أو الشر، ولا يخفى عليه خافية، قادر على كل شيء كما قال:{وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس 61/ 10]{وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها} [الأنعام 59/ 6]{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [هود 6/ 11].
وبما أن الله قادر على كل شيء وعالم بكل شيء، فكيف يجعلون القادر العالم كمن لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، وكيف يتخذونه ربا يطلبون منه النفع ودفع الضر؟! والمراد نفي المماثلة.
ثم أكد تعالى ما سبق بقوله: {وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ} أي واتخذوا شركاء لله، عبدوها معه، من أصنام وأوثان وأنداد.
ثم وبخهم مرة أخرى بقوله: {قُلْ: سَمُّوهُمْ} أي صفوهم لنا، وأعلمونا بهم، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا، فإنهم لا حقيقة لهم، وليسوا أهلا للعبادة لعدم نفعهم وضرهم.
{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} أي بل أتخبرونه بشركاء معبودين لا وجود لهم؛ لأنه لو كان لها وجود في الأرض، لعلمها؛ لأنه لا تخفى عليه
خافية. وهذا نفي لوجودها. والاستفهام: استفهام توبيخ.
{أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي بل أتسمونهم شركاء بظن من القول أنهم ينفعون ويضرون، أم بباطل من القول، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر، وسميتموها آلهة كما قال تعالى:{إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ، ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} [النجم 23/ 53].
والخلاصة: إن آية {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ.} . حجاج للمشركين وتوبيخ لهم وتعجيب من عقولهم، ويقصد منه نفي الدليل العقلي والدليل النقلي على استحقاق تلك الشركاء للعبادة {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} أي لا فائدة من هذا النقاش أو الحجاج معهم، فإنهم قوم زيّن لهم كفرهم وكيدهم: وهو ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى:{وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ} [فصلت 25/ 41].
{وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} أي وصرفوا عن سبيل الحق وسبيل الله والدين القويم، بما زين لهم من صحة ما هم عليه.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ.} . أي ومن يخذله الله لكفره وعصيانه، فما له من أحد يوفقه إلى الهداية وسلوك طريق النجاة والسعادة، مثل قوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} [المائدة 41/ 5] وقوله سبحانه: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ، فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [النحل 37/ 16].
ثم ذكر الله تعالى جزاءهم فقال: {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} أي لهم