الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين أولاد يعقوب أنفسهم، وبينهم وبين يوسف، وبينهم وبين أبيهم، لعودتهم إليه دون ولدين آخرين: وهما أكبر أولاده «روبيل أو يهوذا» وأصغر أولاده وهو بنيامين. ولم يجد أبناء يعقوب سبيلا للدفاع إلا الحجة الساذجة السطحية وهو تأكيد حادثة السرقة من أخيهم كما سرق أخوه يوسف من قبل، وقالوا:
هذه الواقعة عجيبة أن «راحيل» ولدت ولدت ولدين لصين، ثم قالوا: يا بني راحيل، ما أكثر البلاء علينا منكم، فقال بنيامين: ما أكثر البلاء علينا منكم، ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة، ثم تقولون لي هذا الكلام، قالوا له: فكيف خرج الصواع من رحلك؟ فقال: وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم
(1)
.
التفسير والبيان
قال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من وعاء بنيامين، بعد أن نفوا السرقة نفيا باتا، والتزموا على أنفسهم استعباد من وجد في رحله: إن يسرق بنيامين، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهما من أصل واحد، ومرادهم التنصل إلى العزيز من التشبه بالأخوين، وتأنيب أخيهم على ما فعل.
وهذا يعني أن الطبائع والعادات والأخلاق تورث، وأن الحقد والكراهية والحسد عندهم ما يزال موجودا لديهم.
ونسبة السرقة إلى يوسف في أصح الروايات ما روى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال: سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره بذلك إخوته. وقال سعيد بن جبير عن قتادة: كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره.
وروى محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول
(1)
تفسير الرازي: 183/ 18
ما دخل على يوسف من البلاء-فيما بلغني-أن عمته ابنة إسحاق، وكانت أكبر ولد إسحاق، وكانت عندها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكان من اختبأها ممن وليها، كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته، وكان لها به وله، فلم تحب أحدا حبها إياه، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات، تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام، فأتاها، فقال: يا أخية، سلّمي إليّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة، قالت: فو الله، ما أنا بتاركته، ثم قالت: فدعه عندي أياما، أنظر إليه، وأسكن عنه، لعل ذلك يسليني عنه.
فلما خرج من عندها يعقوب، عمدت إلى منطقة إسحاق، فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: فقدت منطقة إسحاق عليه السلام، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف، فقالت: والله، إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب، فأخبرته الخبر، فقال لها: أنت وذلك، إن كان فعل ذلك، فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، قال:
فهو الذي يقول إخوة يوسف، حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} .
{فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} أي فأخفى في نفسه مقالتهم هذه، أو أخفى الجملة أو الكلمة التي بعدها وهي قوله:{أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً.} ..
{وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ} أي لم يظهر ما في نفسه من مؤاخذتهم بمقالتهم، بل صفح عنهم.
{قالَ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} أي وقال لهم في نفسه دون إعلان لهم: أنتم شر مكانا ومنزلة ممن تتهمونه بالسرقة، إذا أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم، وطرحتموه في البئر، بقصد الهلاك والتخلص منه.
{وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ} أي والله عالم بما تذكرون وما تصفونه به.
وهذا من قبيل الإضمار قبل الذكر، وهو كثير في اللغة والقرآن والحديث.
ثم استعطفوه واستشفعوا لديه لعله يأخذ أحدهم مكانه، فالفداء أو العفو أيضا جائز في شرعهم:{قالُوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} أي قالوا: يا أيها العزيز، إن له أبا شيخا هرما متعلقا به، فهو يحبه حبا شديدا، ويتسلى به عن ولده الذي فقده، أو هو كبير القدر والمقام جدير بالرعاية والمجاملة والعناية.
فخذ أحدا منا بدله، يكون عندك عوضا عنه، إنا نراك من المحسنين لنا في ميرتنا وضيافتنا، أو من العادلين المنصفين، القابلين للخير، أو من عادتك الإحسان مطلقا، فأحسن إلينا.
فأجابهم: {قالَ: مَعاذَ اللهِ.} . أي نعوذ بالله معاذا أو نستعيذ بالله أن نأخذ غير من وجدنا الصواع عنده، كما قلتم واعترفتم، ولم يقل: إلا من سرق، تحاشيا للكذب، إنا إذا أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم، فهو أخذ بريء بمتهم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم. والمقصود الحقيقي من هذا الكلام بيان أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه، كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي. وهو رد قوي لهم، متضمن الاستعاذة من رأيهم، لأنه ظلم. ثم جاء دور حوارهم مع بعضهم.
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا.} . أي فلما يئس إخوة يوسف من إطلاق سراح أخيهم بنيامين الذي التزموا لأبيهم برده إليه، وعاهدوا على ذلك، انفردوا عن الناس يتناجون فيما بينهم ويتشاورون في أمرهم. قال كبيرهم في السن أو في العقل والرأي وهو روبيل أو يهوذا الذي أشار بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله: إن هذا الأمر عظيم، ألم تذكروا أخذ أبيكم موثقكم لتردّنه إليه، إلا أن يحاط بكم، وألم
تعلموا أيضا تفريطكم في الماضي بأخيكم يوسف وإضاعته عن أبيكم، مما جعله رهين الحزن والأسى عليه؟! {فَلَنْ أَبْرَحَ..} . فلن أغادر أرض مصر أبدا، وأترك بنيامين فيها، حتى يأذن لي أبي في العودة إليه، أو يحكم الله لي بأن يمكنني من أخذ أخي أو بالخروج من مصر، وهو خير الحاكمين، فلا يحكم أبدا إلا بالحق والعدل.
هذا قراره الشخصي، وأما رأيه فيما يقولون لأبيهم فهو {اِرْجِعُوا.}. أي عودوا إلى أبيكم وقولوا له: يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك، فاسترقه العزيز القائم بأمر الحكم في مصر، على وفق شريعتنا التي أخبرناه بها، وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمناه وشاهدنا من إخراج الصواع من وعاء بنيامين، وما كنا للغيب حافظين، أي وما علمنا أنه سيسرق ويسترق حين أعطيناك الموثق، أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف، وفي الجملة: حقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ.} . أي واسأل يا أبانا عما حدث أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، فقد اشتهر أمر هذه السرقة فيهم، واسأل أصحاب العير الذين كانوا يأتون بالميرة (الطعام) معنا. وهذا مبالغة منهم في إزالة التهمة عن أنفسهم، لأنهم مشكوك فيهم، وكانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام. ثم أكدوا صدقهم بقوله:{وَإِنّا لَصادِقُونَ} فيما أخبرناك به من أنه سرق، وأخذوه بسرقته، وهذا مقال كبيرهم، ثم ذكر تعالى مقال أبيهم:
{قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ.} . أجابهم أبوهم بما يدل على عدم تصديقهم فيما قالوا، كما أجابهم حين جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب:{بَلْ سَوَّلَتْ.} .
بل زينت لكم أنفسكم أمرا آخر أردتموه، وكيدا جديدا فعلتموه؟ وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم!
فأمري الاعتصام بالصبر الجميل وهو الذي لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، وإنما أرضى بقضاء الله وقدره، وأشكو إلى الله وحده، ثم ترجى أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وبنيامين، وروبيل الذي أقام بمصر، ينتظر أمر الله فيه: إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، فقال:{عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.} . أي لعل الله الذي أطلب منه إرجاع أولادي الثلاثة أن يعيدهم إلي جميعا، وقد كان ملهما أن يوسف لم يمت، إنه هو العليم بحالي من الكبر والحزن، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره، فما بعد الشدة إلا اليسر، وما بعد الكرب إلا الفرج.
{وَتَوَلّى عَنْهُمْ.} . وأعرض يعقوب عن بنيه كارها لما قالوا ووصفوا، وقال متذكرا حزن يوسف القديم: يا حزني ويا أسفي على يوسف، والأسف: أشد الحزن والحسرة، فجدد له حزن الابنين الحزن الدفين. وهو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأن المصاب فيه دائم متجدد لم ينس مع تقادم العهد.
{وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ.} . أي أصيبت عيناه بسبب الحزن بغشاوة بيضاء، حجبت البصر والرؤية فأصبح كظيما أي ساكتا لا يشكو أمره إلى مخلوق، كاظما غيظه على أولاده. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف، إلى حين لقائه، ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
والجزع البالغ والحزن الشديد أمر إنساني عند الشدائد والمصائب، وهو غير مذموم شرعا إذا اقترن بالصبر، وضبط النفس، حتى لا يخرج إلى مالا يحسن، ولقد
بكى رسول صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال فيما رواه الشيخان:«إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» .
وإنما الجزع المذموم: ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور
والوجوه، وتمزيق الثياب.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه بكى على ولد بعض بناته، وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: ما نهيتكم عن البكاء، وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح، وصوت عند الترح» .
وقال الحسن البصري حينما بكى على ولد أو غيره: «ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب» .
وعند ما شاهد أولاد يعقوب ما حدث لأبيهم، رقوا له، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه: والله لا تزال تذكر يوسف، حتى تصير مريضا ضعيف القوة، أو تموت، أي إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف.
فأجابهم عما قالوا: {إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم حزني، إنما أشكو همّي الشديد وأسفي وما أنا فيه إلى الله وحده داعيا له وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي، وأعلم من الله ما لا تعلمون، أي أرجو منه كل خير، لأني أعلم من صنعه وإحسانه ورحمته وحسن ظني به أن يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. روي أنه رأى ملك الموت في منامه، فسأله، هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا والله، هو حيّ فأطلبه. وقال ابن عباس في قوله تعالى:{وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ.} . يعني رؤيا يوسف أنها صدق، وأن الله لا بد أن يظهرها.
{يا بَنِيَّ، اِذْهَبُوا.} . يا أولادي اذهبوا إلى مصر، وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين. والتحسس يكون في الخير، والتجسس يكون في الشر، فهو قد ندبهم على الذهاب إلى مصر للتعرف على أخبار إخوتهم، وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله أي من فرجه وتنفيسه الكرب، ولا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون أي