الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثيرا من الآيات الدّالة على وجود الصانع ووحدانيته، ولكن لا يلتفت إليها أولئك المشركون، وإنّما يعرضون عنها.
وحسم الحقّ تعالى الموقف، فأبان أن سبيل دعوة النّبي صلى الله عليه وسلم هو الدّعوة إلى التّوحيد، ورفض الشّرك بمختلف أشكاله وأنواعه.
التّفسير والبيان:
ذلك المذكور من قصة يوسف بدءا من رؤياه الرؤيا وإلقائه في الجبّ إلى أن أصبح حاكم مصر الفعلي، وبيان موقف إخوته منه، وحال أبيهم يعقوب عليه السلام، هو من أخبار الغيب الّتي لم يطّلع عليها النّبي صلى الله عليه وسلم ولم يرها هو وقومه، والخطاب له، وهي وحي من الله تعالى إليه، لتثبيت فؤاده، وصبره على أذى قومه وإعراضهم عن دعوته.
والمقصد الإخبار عن الغيب، فيكون معجزا، لأنه صلى الله عليه وسلم ما طالع الكتب، ولم يتتلمذ لأحد، ولم يكن حاضرا معهم، فإخباره بهذه القصة الطويلة من غير تحريف ولا غلط إعجاز.
{وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ.} . بمثابة الدّليل على كونه من الغيب، أي وما كنت حاضرا عندهم، ولا مشاهدا لهم، حين عزموا على إلقائه في الجبّ، وهم يمكرون به وبأبيه، ولكنّا أعلمناك به وحيا إليك، وإنزالا عليك، كقوله تعالى في قصّة مريم:{وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:
44/ 3]، وقوله سبحانه:{وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ} إلى قوله تعالى: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا} [القصص 44/ 28 - 46]، وقوله عز وجل:{وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} [القصص 45/ 28].
وبالرّغم من هذه الأخبار المعجزة التي فيها عبرة وعظة لم يؤمن أكثر النّاس، كما قال تعالى:{وَما أَكْثَرُ النّاسِ.} . أي وليس أكثر النّاس بمصدّقين بدعوتك ورسالتك، ولو حرصت وتهالكت على إيمانهم، لتصميمهم على الكفر وعنادهم.
والمراد بالآية العموم، كقوله تعالى:{وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرّعد 1/ 13]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أهل مكة. ووجه اتصال الآية بما قبلها على قول ابن عباس: أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التّعنّت، واعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا ذكرها، فربّما آمنوا، فلمّا ذكرها أصرّوا على كفرهم، فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى قوله تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص 56/ 28]
(1)
.
ومعنى الحرص: طلب الشّيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد، وجواب {لَوْ} محذوف؛ لأن جواب {لَوْ} لا يكون مقدّما عليها، فلا يجوز أن يقال: قمت لو قمت.
ثم نفى تعالى أن يكون للمشركين عذر بعدم الإيمان بدعوتك فقال:
{وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.} . أي ما تسأل منكري نبوّتك يا محمد على هذا النّصح والدّعاء إلى الخير والرّشد من أجر، أي من جعل ولا أجرة، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه، فما عليهم إلا الاستجابة لدعوتك، لأنك لا تقصد إلا اتّباع أمر ربّك ونصحهم الخالص.
{إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} أي ما هذا القرآن الذي أرسلك به ربّك إلا تذكير وموعظة لكلّ العالمين من الإنس والجنّ، به يتذكّرون وبه يهتدون، وينجون به في الدّنيا والآخرة. وهذا دلّ على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
(1)
تفسير الرّازي: 223/ 18
والسّبب في أن أكثر النّاس لا يؤمنون أنهم في غفلة عن التّفكّر في الدّلائل الدّالّة على وجود الصانع وتوحيده، فقال:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ.} . أي وكم من آية دالّة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته في السّموات والأرض من كواكب ثابتة وسيّارة وجبال وبحار، ونبات وشجر، وحيوان وحي وميت، وثمار متشابهة ومختلفة في الطّعوم والرّوائح والألوان والصّفات، يمرّ على تلك الآيات ويشاهدها أكثرهم، وهم غافلون عنها، لا يتفكّرون بما فيها من عبر وعظات، وكلّها تشهد على وجود الله تعالى ووحدانيته.
وفي كلّ شيء له آية
…
تدلّ على أنه واحد
والآية هنا: الدّليل على وجود الله تعالى وتوحيده.
وأما علماء الفضاء والفلك فدأبهم الرّصد المادي كرصد الحركة أو الثّبات، واستنباط القوانين العلمية، لكنهم لا يفكرون غالبا في الخالق الموجد، وفي عظمة المدبّر والمقدّر.
{وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ.} . أي وما يكاد يقرّ أكثر المشركين بوجود الله، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان 25/ 31] إلا وتراهم يقعون في الشّرك، لإشراكهم مع الله الأصنام والأوثان في العبادة.
فكلّ عبادة أو تقديس وتعظيم لغير الله شرك،
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد: من
كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشّركاء عن الشّرك».
وروى التّرمذي وحسّنه ابن عمر: «من حلف بغير الله فقد أشرك» أي حلف بغير الله قاصدا تعظيمه مثل الله فقد أشرك.
وروى أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر، قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:
الرّياء، يقول الله تعالى يوم القيامة: إذا جاز النّاس بأعمالهم، اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدّنيا، فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء؟».
وروى أحمد عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها النّاس، اتّقوا هذا الشّرك، فإنه أخفى من دبيب النّمل» ثم بيّن للصحابة كيف يتّقى الشّرك الخفي، فقال:«قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه» .
ثم هدد الله تعالى المشركين بالعقاب فقال: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ} أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتشملهم، أو يأتيهم يوم القيامة فجأة، وهم لا يحسون ولا هم يشعرون بذلك، وهذا كالتأكيد لقوله:
{بَغْتَةً} .
ونظير الآية قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} [النّحل 45/ 16 - 47].
وقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ. أَوَ