الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى بالأدلة المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى أصلا، وطلب من رسوله أن يعجب من حال قومه الذين عبدوا الأصنام، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه دعا أن يجعل مكة بلد أمان واستقرار، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكن بعض ذريته عند البيت الحرام ليعبدوه وحده بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وأنه شكر الله تعالى على منحه بعد الكبر واليأس من الولد ولدين هما إسماعيل وإسحاق، وأنه طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يوجد الحساب.
والخلاصة: إن إبراهيم عليه السلام هو القدوة والنموذج لعبادة الله عز وجل، فليقتد به من ينتمون إليه.
التفسير والبيان:
هذا تذكير من الله تعالى واحتجاج على مشركي العرب بأن مكة البلد الحرام إنما وضعت منذ القدم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم عليه السلام تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن والاستقرار في ظلّ التوحيد، فقال:{رَبِّ اجْعَلْ.} . أي واذكر يا محمد لقومك حين دعا إبراهيم بقوله: ربي اجعل مكة بلدا آمنا أي ذا أمن واستقرار، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، وقد أجاب الله دعاءه، فجعله آمنا للإنسان والطير والنبات، فلا يقتل فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يعضد شجره، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت 67/ 29] وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} [آل عمران 97/ 3].
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.} . أي وباعدني يا رب وبني من عبادة الأصنام، واجعل عبادتنا خالصة لك على منهج التوحيد. وهذا دليل على أنه ينبغي لكل
داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. وقد استجاب الله دعاه في بعض ذريته دون بعض. وكان هذا الدعاء حين ترك هاجر وابنه إسماعيل، وهو رضيع، في مكة، قبل بناء البيت الحرام.
ثم ذكر أنه افتتن بعبادة الأصنام كثير من الناس فقال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ.} . أي يا رب إن الأصنام كانت سببا في ضلال كثير من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن. وقد أضيف الإضلال إلى الأصنام؛ لأنها كانت سببا في الضلال عند عبادتها، وذلك بطريق المجاز، فإن الأصنام جمادات لا تفعل.
{فَمَنْ تَبِعَنِي.} . أي فمن صدقني في ديني واعتقادي، وسار على منهجي في الإيمان بك وبتوحيدك الخالص، فإنه مني، أي على سنتي وطريقتي، مثل «من غشنا فليس منا» أي ليس على سنتنا، ومن عصاني فلم يقبل ما دعوته إليه من التوحيد لك وعدم الشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة.
وهذا صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة غير الكفار؛ لأنه عليه السلام تبرأ في مقدمة هذه الآية عن الكفار بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} ، ولأنه أيضا بقوله:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه، فإنه ليس منه، ولا يهتم بإصلاح شؤونه، ولأن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، فكان قوله:{وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} شفاعة في العصاة غير الكفار.
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام:
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ.} . الآية، وقول عيسى عليه السلام:
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} الآية، ثم رفع يديه، ثم قال:«اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله تعالى: اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك
أعلم، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال الله تعالى: اذهب إلى محمد، فقال له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك.
ثم دعا إبراهيم بدعاء ثان بعد بناء البيت الحرام لقوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} . وبعد الدعاء الأول الذي كان قبل بناء البيت، فقال:{رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ.} . أي يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه، بواد لا زرع فيه وهو وادي مكة، عند بيتك المحرم أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إليه شوقا ومحبة، وتحن وتميل إلى رؤيته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال:{مِنَ النّاسِ} فاختص به المسلمون.
وارزق ذريتي من أنواع الثمار الموجودة في سائر الأقطار، ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع، فاجعل لهم ثمارا يأكلونها.
وقد استجاب الله دعاءه، كما قال:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنّا} [القصص 57/ 28] وتحقق فضل الله ورحمته وكرمه، فبالرغم من أنه ليس في البلد الحرام:«مكة» شجرة مثمرة، فإنه تجبى إليها ثمرات ما حولها من البلاد، من أنواع ثمار الفصول الأربعة، استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
{لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي وارزقهم من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نعمتك، أو رجاء أن يشكروك بإقامة الصلاة وكثرة العبادة. وفيه إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو للاستعانة بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.
{رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ.} . أي أنت تعلم قصدي في دعائي، وهو التوصل إلى رضاك والإخلاص لك، وأنت أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وتعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، فلا حاجة لنا إلى الطلب، وإنما ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك.
{وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ.} . أي ولا يغيب عن الله شيء في الأرض أو في السماء، فكله مخلوق له، وهو عالم به. وهذا من كلام الله عز وجل، تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله:{وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل 34/ 27] أو من كلام إبراهيم، يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة من شيء في كل مكان. و {مِنْ} للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم حمد إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.} . أي الحمد والشكر كله لله الذي أعطاني ومنحني الولد بعد الكبر والإياس من الولد، أعطاني ولدين هما إسماعيل وأمه هاجر وإسحاق وأمه سارّة. وقدم إسماعيل؛ لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. وقيل: لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.
وقوله: {عَلَى الْكِبَرِ} لأن المنة بهبة الولد في هذه السن أعظم؛ إذ الظفر بالحاجة وقت اليأس من أعظم النعم، ولان الولادة في تلك السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم.
{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ} أي إن الله ربي سامع دعائي وقولي، ومجيب من دعاه، وعالم بالمقصود، سواء صرحت به أو لم أصرح. وقال هذا لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض، لا على وجه الإيضاح والتصريح.
ومناسبة قوله: {رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي.} . لقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.} . هو لمراعاة الأدب الجم مع الله تعالى، فهو عليه السلام كان يريد أن يطلب من الله إعانة زوجه هاجر وابنه إسماعيل بعد موته، ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل ذكر أنك يا رب تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم نوّه بحال ذريته بعد موته، فكان هذا دعاء لزوجه وابنه بالخير والمعونة بعد موته، على سبيل الرمز والتعريض.
وذلك-كما قال الرازي-يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة أفضل من الدعاء،
قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه أنه قال فيما رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطيت السائلين» .
ثم دعا بما يكون دليلا على شكر الله فقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ.} . أي رب اجعلني مؤديا صلاتي على أتم وجه، محافظا عليها، مقيما لحدودها.
واجعل بعض ذريتي كذلك مقيمي الصّلاة؛ لأن {مِنْ} للتبعيض.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عنوان الإيمان، ووسيلة تطهير النفوس من الفحشاء والمنكر.
{رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ} أي اقبل يا رب دعائي، أو عبادتي في رأي ابن عباس بدليل قوله تعالى:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} [مريم 48/ 19]. و
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة وغيرهم عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} .
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي.} . أي ربنا استرني وتجاوز عن ذنوبي وذنوب والدي وذنوب المؤمنين كلهم يوم يثبت ويوجد الحساب فتحاسب عبادك على أعمالهم