الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة:
{لَظَلُومٌ كَفّارٌ} صيغة مبالغة على وزن فعول وفعّال.
المفردات اللغوية:
{السَّماواتِ} جمع سماء، ولا نعرف حقيقتها، ولكن كل ما علا الإنسان وأظله فهو سماء.
{رِزْقاً لَكُمْ} الرزق: كل ما ينتفع به، ويشمل المطعوم والملبوس. {وَسَخَّرَ} ذلل أو أعد ويسّر. {الْفُلْكَ} السفن. {بِأَمْرِهِ} بإذنه أو بمشيئته إلى حيث توجهتم. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ} جعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم. {دائِبَيْنِ} دائمين في الحركة أو السير، والإنارة والإصلاح، لا يفتران. {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} يتعاقبان، فالليل للنوم والسكن فيه والنهار للمعاش وابتغاء الفضل. {وَآتاكُمْ} أعطاكم. {ما سَأَلْتُمُوهُ} بلسان الحال، على حسب مصالحكم.
{نِعْمَتَ اللهِ} إنعامه، وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. {لا تُحْصُوها} لا تطيقوا حصرها. {إِنَّ الْإِنْسانَ} الكافر. {لَظَلُومٌ كَفّارٌ} أي كثير الظلم لنفسه بالمعصية وإغفال شكرها، وكثير الكفر أو الجحود لنعمة ربه.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أوصاف أحوال السعداء والأشقياء، أتبعه بالأدلة الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته ووحدانيته، ليدل على وجوب شكر الصانع الموجد لها، ويقرّع الكافرين الذين أعرضوا عن التفكر في تلك النعم.
التفسير والبيان:
يعدد الله تعالى في هذه الآيات نعمه على خلقه، ويشير إلى دلائل وجوده وقدرته، وهي عشرة أدلة:
1 -
{خَلَقَ السَّماواتِ} : الله هو الذي خلق السموات سقفا محفوظا، وزيّنها بزينة الكواكب.
2 -
وخلق الأرض فراشا وما فيها من المنافع الكثيرة لكم أيها الناس.
3 -
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ} : أي السحاب مطرا أحيا به الأرض بعد موتها، وأنبت به الشجر والزرع، وأخرج به ما يحتاجه الإنسان من الأرزاق للأكل والعيش، بواسطة الثمار والزروع المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، كقوله تعالى:{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّى} [طه 53/ 20].
4 -
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} : أي وذلل لكم السفن، بأن ألهمكم صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجري في البحر من بلد لآخر للركوب والحمل، بإذن الله ومشيئته.
5 -
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ} : أي فجر لكم ينابيع الأنهار، وشقّ الأرض من مسافة إلى مسافة، للشرب وسقي الزروع والأشجار والبهائم وغيرها من المنافع.
7، 6 - {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ}: أي ذللهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة، لا يفتران ليلا ولا نهارا لإصلاح حياة الإنسان والنبات وغيرهما كما قال تعالى:{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس 40/ 36].
9، 8 - {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ}: أي جعلهما يتعاقبان، ويتعارضان، فمرة يطول الليل كما في الشتاء، ومرة يطول النهار كما في الصيف، ويقصر الآخر، وبالعكس، والنهار للسعي والكسب والمعاش وشؤون الدنيا، والليل للنوم والسبات والسكن فيه كما قال تعالى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [الأعراف 7/ 54] وقال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان 29/ 31] وقال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص 73/ 28].
10 -
{وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم أيها البشر سؤلكم من كل ما شأنه أن يسأل، ويحتاج إليه، وينتفع به، سواء سألتموه أو لم تسألوه، أو أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا، والخطاب لجنس البشر؛ لأن الله خلق لكم ما في الأرض جميعا، وترك استخراجها واختراع ما يكتشف منها لعقولكم بمقتضى تطور العقل البشري، وتقدم الحياة المدنية، وبالتدريج، وقد وصل الإنسان في القرن العشرين إلى قمة الاكتشاف والابتكار في مختلف المجالات، معتمدا على طاقات البخار والهواء والنفط والكهرباء والذرة وغيرها.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها} أي إن أردتم تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تطيقوا حصرها لكثرتها. والنعمة هنا قائمة مقام المصدر، بمعنى الإنعام، كالنفقة والإنفاق، ويدل ذلك على العموم؛ لأن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.
والمقصود من الجملتين الأخيرتين: {وَآتاكُمْ.} . {وَإِنْ تَعُدُّوا} الإخبار عن عجز العباد عن تعداد النعم، فضلا عن القيام بشكرها.
فبعد أن ذكر الله تعالى تلك النعم العظيمة، أبان أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع ما لا يتأتى معه الإحصاء، بقوله:{وَآتاكُمْ.} . ثم ختم الكلام بقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا} ليبين أنه آتى العباد من كل ما احتاجوا إليه، مما لا تصلح الأحوال والمعيشة إلا به. قال طلق بن حبيب رحمه الله تعالى: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفّي، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربنا» وقال
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها» .
{إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} أي إن الإنسان يظلم النعمة بإغفال شكرها، شديد الكفران لها، والمراد بالإنسان هنا الجنس، فلا يراد به الواحد، بل يراد به الجمع، أي توجد فيه هذه الخلال، وهي الظلم والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها.
ويلاحظ أنه تعالى قال هنا: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ} وقال في سورة النحل [18]: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} والفرق بين الخاتمتين: أن الكلام هنا مناسب لتعداد قبائح الإنسان من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، وأما في سورة النحل فيناسب ما ذكر في الآية من تعداد فضائل الله على الإنسان، ومنها اتصافه بالمغفرة والرحمة، تحريضا على الرجوع إليه
(1)
.
وقال الرازي عن الفرق بين الآيتين: كأنه تعالى يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة، فأنت الذي أخذتها، وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها، وهما كوني غفورا رحيما. والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم، أعلم عجزك وقصورك، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء
(2)
.
(1)
البحر المحيط: 428/ 5 - 429
(2)
تفسير الرازي: 130/ 19 - 131