الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّفسير والبيان:
فيما نقصّه عليك، أو فيما يتلى عليك صفة الجنّة ونعتها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنّة التي وعدها الله للمتّقين، ذات أنهار تجري في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، كما قال تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} [محمّد 15/ 47].
{أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} أي ما يؤكل فيها من الفواكه والمطاعم والمشارب لا ينقطع، ولا يفنى، وكذلك ظلّها دائم لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد:{لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الدّهر 13/ 76]. وفي الصّحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه: قالوا:
يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال:«إنّي رأيت الجنّة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا» .
وبعد وصف الجنّة بهذه الصّفات الثلاث، قال تعالى:{تِلْكَ عُقْبَى.} .
أي تلك الجنّة هي عاقبة ومصير أهل التّقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنوبهم، كما قال تعالى:{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} [الحشر 20/ 59].
والمراد أن ثواب المتّقين منافع خالصة عن الشّوائب موصوفة بصفة الدّوام.
والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين.
ثم ذكر الله تعالى انقسام أهل الكتاب فئتين من القرآن، فقال: {وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ} أي والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنّصارى قسمان: فالقائمون بمقتضاه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن الكريم؛ لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، والبشارة به، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة 121/ 2]، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وجماعة من النّصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
ومن الأحزاب، أي ومن جماعة أهل الكتاب الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي، والسيد والعاقب أسقفيّ نجران وأتباعهم، من ينكر بعض ما جاءك من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.
وأمام هذا الانقسام في الرأي بين اليهود والنّصارى بالنّسبة للقرآن الكريم ذكر تعالى طريق النّجاة والسّعادة، فقال:{قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ.} . أي قل يا محمد: إنّما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، فإلى سبيله وطاعته وعبادته أدعو الناس، وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء والحساب.
وذلك كقوله تعالى: {قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران 64/ 3].
والآية تشير إلى مبدأ التّوحيد ورفض الشّرك، كما تشير إلى مبدأ البعث والحساب والجزاء يوم القيامة.
{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك أنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا
بلسان قومك، ليسهل عليهم فهمه وحفظه. وهذا دليل على أن كلّ رسول أرسل بلغة قومه، كما قال تعالى:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم 4/ 14].
وأراد بالحكم: أنه يفصل بين الحقّ والباطل، ويحكم في الأمور، مبيّنا الحلال والحرام، والشّرائع والأنظمة المؤدية إلى سعادتي الدّنيا والآخرة.
ثم قال تعالى على سبيل الافتراض: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.} . أي ولئن اتّبعت آراءهم وجاملتهم، كالتّوجّه إلى قبلتهم في بيت المقدس بعد تحويلها إلى البيت الحرام، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا تعريض بهم على طريقة:(إياك أعني واسمعي يا جارة) وهو وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدّين الحقّ، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع الكفار، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. والخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: الأمة.
ثمّ ردّ الله تعالى على طعن المشركين على النّبي صلى الله عليه وسلم بتعدّد الزّوجات، فقال:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً.} . أي وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا، يأكلون الطّعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزّوجات، ولهم ذريّة وأولاد، قال تعالى:{قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} [الكهف 110/ 18]، و
في الصّحيحين عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي» ، و
روى الإمام أحمد والتّرمذي عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من سنن المرسلين: التّعطّر، والنّكاح، والسّواك، والحناء» .
أما تعدّد زوجات النبي بعد سنّ الأربع والخمسين-وهي سنّ تضعف فيه عادة
الرغبة إلى النّساء-فكان من أجل نشر الدّعوة الإسلامية، وما تقتضيه المصلحة في التّأليف بين القبائل العربية، وضرب المثل في الأخلاق والعدل بين الزّوجات والرّأفة ببعض النّساء تعويضا عن زوجها الذي فقدته في الجهاد أو غيره.
ثمّ ردّ الله على طعنهم بعجزه عن تلبية ما اقترحوه من آيات فقال:
أي وما صحّ لرسول ولم يكن في وسعه أن يأتي قومه بمعجزة أو خارق للعادة، إلا إذا أذن له فيه، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وقد جاءكم القرآن الكريم معجزة خالدة على ممر الزّمان، فيه تحدّ وإفحام يثبت كونه من عند الله تعالى.
{لِكُلِّ أَجَلٍ.} . لكلّ حادث وقت معيّن وزمن محدد، فالآيات تأتي في وقتها لحكمة وفي زمن يعلمه الله، وكلّ شيء عنده بمقدار:{إِنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر 49/ 54]، فقوله تعالى:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} أي لكلّ مدّة كتاب مكتوب، مثل قوله تعالى:{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام 67/ 6]. وقال الزّمخشري: لكل وقت حكم يكتب على العباد، أي يفرض عليهم ما يقتضيه صلاحهم، والشّرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات. فشرائع الأنبياء السّابقين كموسى وعيسى عليهما السلام، ثمّ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم جاءت فيما يناسب عصورها، وأعمار النّاس وآجالهم وأرزاقهم وحدوث أعمالهم لها أوقات محددة لا تتقدّم ولا تتأخّر كما قال تعالى:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف 34/ 7].
{يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.} . أي ينسخ الله ما شاء وما يستصوب نسخه من الشّرائع، ويثبت بدله ما أراد إثباته وما رأى المصلحة في إثباته، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أو يتركه غير منسوخ.
أو يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به.