الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شياطينهم. {فِي الْأَصْفادِ} في القيود أو الأغلال، جمع صفد. {سَرابِيلُهُمْ} قمصهم، جمع سربال وهو القميص. {مِنْ قَطِرانٍ} لأنه أبلغ لاشتعال النار، والقطران: أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران، ووحشة لونه، ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. والقطران: دهن يتحلب من شجر العرعر والتوت، كالزفت، تدهن به الإبل حال الجرب، ويقال له: الهناء، تهنأ به الإبل الجربي، أي تطلي. {وَتَغْشى} تعلو وتحيط بها.
{لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ} متعلق بقوله: {وَبَرَزُوا} ، فتجازى كل نفس مجرمة أو مطيعة بما فعلت في الدنيا من خير أو شر. {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} يحاسب جميع الخلق، في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث ورد بذلك. {هذا} القرآن. {بَلاغٌ لِلنّاسِ} أي أنزل لتبليغهم، وهو كفاية في العظة والتذكير. {وَلِيَعْلَمُوا} بما فيه من الحجج. {أَنَّما هُوَ} أن الله إله واحد.
{وَلِيَذَّكَّرَ} وليتعظ. {أُولُوا الْأَلْبابِ} أصحاب العقول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وبعد أن حكى عن إبراهيم أنه طلب من الله أن يصونه من الشرك وأن يوفقه لصالح الأعمال، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة، ذكر ما يدل على وجود يوم القيامة بقوله:{وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ} وما يدل على صفة يوم القيامة بقوله:
{تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ.} . إلخ.
التفسير والبيان:
ولا تحسبن يا محمد أن الله إذا أنظر الناس وأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم، ويعده عليهم عدا. والمقصود من الآية إثبات وجود يوم القيامة بطريق التنبيه على أنه تعالى سينتقم للمظلوم من الظالم.
وهو وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم صورة، فالمراد به أمته، بأسلوب «إياك أعني واسمعي يا جارة» . وفيه تسلية للمؤمنين، وتهديد للظالمين بأن الله يحصي
عليهم أعمالهم ويعلم بها، وسيجزيهم على ظلمهم في الوقت المناسب، فعقابهم آت لا محالة؛ لأن العلم بالظلم الصادر منهم موجب لعقابهم.
ثم بيّن الله تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بالصفات التالية:
1 -
أنه تشخص فيه الأبصار، أي أنه يمهلهم ويؤخرهم ليوم شديد الهول، ومن شدة أهواله تظل الأبصار فيه مفتوحة لا تطرف ولا تغمض، من شدة الفزع والحيرة والدهشة. ثم وصف كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال:
2 -
{مُهْطِعِينَ} أي أنهم يأتون من قبورهم إلى المحشر مسرعين بالذل والمهانة، كما قال تعالى:{مُهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ} [القمر 8/ 54] وقال سبحانه:
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} إلى قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.} . [طه 108/ 20 - 111] وقال عز وجل: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً.} . [المعارج 43/ 70].
3 -
{مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} أي رافعي رؤوسهم، ينظرون في ذل وخشوع، ولا يلتفتون إلى شيء.
4 -
{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم، بل تظل أبصارهم شاخصة مفتوحة تديم النظر، لا يطرفون ولا يغمضون، لكثرة ما هم فيه من شدة الهول والفزع، والمراد من هذه الصفة دوام الشخوص.
5 -
{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ} أي وقلوبهم خاوية خالية لا شيء فيها من القوة، مضطربة، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار خالية من الخواطر؛ لعظم الحيرة، ومن كل رجاء وأمل؛ لما تحققوه من العقاب، وخالية من كل سرور؛ لكثرة الحزن.
ووقت حصول هذه الأوصاف عند المحاسبة؛ لأنه تعالى ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب.
ثم ذكر تعالى مقالة هؤلاء المعذبين حين رؤية الهول، فقال:{وَأَنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ.} ..
أي وخوّف أيها النبي الناس جميعا من أهوال عذاب يوم القيامة، حين يقول الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب هلعا وجزعا:{رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي ردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى وقت آخر قريب العودة إليك، نتدارك فيه ما فرطنا في الدنيا، من إجابة دعوتك إلى التوحيد وإخلاص العبادة لك، واتباع رسلك فيما أرسلتهم به، مثل قوله تعالى:{لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ} [المنافقون 10/ 63] وكقوله: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ.} .
[المؤمنون 99/ 23 - 100].
فرد الله تعالى عليهم موبخا لهم بقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.} . أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة حينما كنتم في الدنيا: أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، أي كنتم تنكرون البعث والحساب، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى، كقوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل 38/ 16] فذوقوا هذا العذاب بذلك الإنكار.
{وَسَكَنْتُمْ.} . أي والحال أنكم أقمتم في الظلم والفساد، وصاحبتم الظالمين لأنفسهم، وسرتم سيرتهم، بالرغم من أنه تبين لكم، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق، وعاينتم آثار عذابهم، وظهر لكم أن عاقبتهم آلت إلى الوبال والخزي والنكال، وضربنا لكم الأمثال، وهو ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة، كما قدر على الابتداء،
وقادر على التعذيب المؤجل، كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فلم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر، فكيف تطلبون العودة والتأخير للتوبة؟! وقد فات الأوان.
ثم بيّن الله تعالى تشابه أحوالهم مع أحوال السابقين، فقال:{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} أي إن هؤلاء الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم لم تتغير حالهم عن حال من سبقهم، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، {وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ} أي وعند الله العلم بمكرهم، أو جزاؤهم، فكل شيء معلوم منهم، ومكتوب ومسجل عليهم، وسيجازيهم عليه الجزاء العادل، ويحاسبهم الحساب الشديد.
ثم ذكر الله تعالى وقت انتقامه فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.} . أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً} [نوح 22/ 71] فمحال أن تزول الجبال بمكرهم، والمراد بالجبال آيات الله وشرائعه؛ لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما ضر أنفسهم، وعاد وبال ذلك عليهم. والمقصود تصغير مكرهم وتحقيره وتهوينه، فليس من شأنه إزالة الآيات وإبطال النبوات الثابتة ثبوت الجبال، والجبال لا تزول، ولكن العبارة مجاز عن تعظيم الشيء ووصفه كيف يكون.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده، بل هو منجز لهم ما وعدهم به، والمراد تثبيت أمته على الثقة بوعد ربه بنصرهم وتعذيب الظالمين، كما قال: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ} [المجادلة 21/ 58] وقال: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} [غافر 51/ 40] وآية {فَلا تَحْسَبَنَّ} هنا هي تقرير وتأكيد لهاتين الآيتين، أي من نصرتكم في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
{إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ} أي إن الله ذو عزة وقدرة لا يعجزه ولا يمتنع عليه شيء أراده، وشاء عقوبته، وهو ذو انتقام ممن كفر به وجحده، أو أشرك معه إلها آخر. وهذه خاتمة مناسبة للآية، تؤكد الحرص على إنجاز الوعد للرسل.
ثم ذكر تعالى وقت انتقامه فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.} . أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر، وأما السموات فتتبدد كواكبها وشمسها وقمرها.
جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ، ليس فيها معلم لأحد» .
وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} :
أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط».
واختلف العلماء في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسيّر عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت
(1)
،
(1)
الأمت: المكان المرتفع والتلال الصغار، والانخفاض والارتفاع.
قال ابن عباس: هي تلك الأرض، وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها.
وقيل: يخلق بدلها أرضا وسموات أخر، عن ابن مسعود وأنس:«يحشر الناس على أرض بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئته»
(1)
.
والعلماء يقررون أن الأرض والكواكب كانت كتلة ملتهبة في الفضاء، ثم انفصلت عنها الشمس والكواكب السيارة، ثم الأرض، ثم الأقمار. وستنحل هذه المجموعة، وتكون سموات غير هذه السموات، وأرض غير هذه الأرض.
{وَبَرَزُوا لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ} أي وخرجت الخلائق جميعها من قبورهم انتظارا لحكم الله الوحد، الذي قهر كل شيء وغلبه، كما قال تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ} [غافر 16/ 40] وفي هذا تهويل وتخويف.
ولما وصف الله تعالى نفسه بكونه قهارا، أبان عجز الناس وذلتهم أمامه، وذكر من صفاتهم:
1 -
كون المجرمين مقرنين في الأصفاد، أي ترى يا محمد المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود، فيجمع بين النظراء أو الأشكال، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى:{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} [الصافات 22/ 37] وقال: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير 7/ 81] أي تقرن نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين وقال:{فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ} [الشعراء 94/ 26].
2 -
{سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ} أي قمصهم من القطران، والمراد أن جلود أهل النار تطلي بالقطران، حتى تصبح كالسرابيل، ليحصل بسببها أربعة أنواع
(1)
الكشاف: 185/ 2
من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.
3 -
{وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ} أي تحيط النار بأجسامهم، وإنما ذكرت الوجوه؛ لأنها أشرف الأعضاء وأعزها، مثل قوله تعالى:{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ، وَهُمْ فِيها كالِحُونَ} [المؤمنون 104/ 23] وقوله: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [الزمر 24/ 39] وقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر 48/ 54].
ثم بين الله تعالى سبب الجزاء فقال: {لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} أي أنه تعالى فعل كل ذلك ليجزي يوم القيامة كل شخص بما يليق بعمله وكسبه، من خير أو شر، فيعاقب المجرمين أو الكفار على كفرهم ومعصيتهم، ويثيب المؤمنين على إيمانهم وطاعتهم، كما قال تعالى:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم 31/ 53].
ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} أي إنه تعالى يحاسب جميع العباد بسرعة وهي في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما جاء في الحديث، ولا يظلم الناس ولا يزيد في عقابهم الذي يستحقونه، وهو سريع الإنجاز؛ لأنه يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى:{ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} [لقمان 28/ 31]، وهو سريع الإحصاء.
ثم قال تعالى: {هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ} أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ وكفاية في الموعظة، كما قال تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام 19/ 6] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن.