الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاكرين بالزيادة، والجاحدين بالعذاب، وبأن الكفران لا يضرّ إلا أهله.
ويحتمل أن يكون المذكور هنا من تتمة كلام موسى وخطابا منه لقومه، ليخوفهم بمثل هلاك من تقدم، وهذا رأي ابن جرير، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا جديدا مستأنفا من الله لقوم موسى وغيرهم، لتذكيرهم أمر القرون الأولى.
والمقصود إنما هو العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا حاصل على التقديرين.
إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا قول الرازي، وقال ابن كثير: والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه، وقصصه عليهم، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة
(1)
.
التفسير والبيان:
ألم يأتكم خبر أقوام من قبلكم: وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل. وضمير الخطاب في {يَأْتِكُمْ} لأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وضمائر: جاءتهم رسلهم، فردوا أيديهم في أفواههم للكفار.
جاءت هؤلاء رسلهم بالمعجزات والحجج والدلائل الواضحة الباهرة القاطعة، التي تثبت صدقهم ودعواهم الرسالة عن الله، لإخراجهم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان والهداية.
{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ} أي إلا أن هؤلاء القوم عضوا أناملهم من شدة الغيظ، لما جاءهم به الرسل، أي اغتاظوا منهم وعادوهم ونفروا منهم، كما فعل العرب مع النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله سبحانه:{عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ،}
(1)
تفسير الرازي: 88/ 19، تفسير ابن كثير: 524/ 2
{قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران 119/ 3]. والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا ولم يؤمنوا. فهو-كما قال أبو عبيدة والأخفش-مثل.
{وَقالُوا: إِنّا كَفَرْنا.} . أي وقالوا للرسل: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات، أي كفرنا بدلالتها على صدق رسالتكم.
وإنا لفي شك موقع في الريبة والقلق والاضطراب مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده، وترك ما سواه.
وتساءل الرازي بقوله: فإن قيل: كيف تنازلوا إلى الشك في صحة قولهم بعد تصريحهم بالكفر برسالتهم؟ ثم أجاب بأنهم أرادوا أنهم كافرون في الواقع وبنحو جازم متيقن بدعوتهم، فإن لم نكن جازمين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
{قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} : أفي وجود الله شك؟! فإن الفطرة تقرّ بوجوده، ومجبولة على الإقرار به. وهل في تفرده بالألوهية ووجوب عبادته شك وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؟! فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى.
وأما دليل الفطرة فثابت كما
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه ابن عدي والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، أو يمجّسانه» .
وأما دليل الخلق فهو أمر حسي مشاهد، وهو ما نبّه إليه بقوله مباشرة:
{فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي كيف تشكون في الله، وهو خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق، وعلى هذا النظام المحكم البديع؟! وهو تعالى عدا كونه خالقا وهو دليل وجوده، هو كامل الرحمة لقوله:
{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي يدعوكم إلى الإيمان الكامل به، من أجل أن يغفر لكم في الدار الآخرة ذنوبكم-على أن من صلة زائدة-أو بعض ذنوبكم-على أن من تبعيضية-فهو يغفر الذنوب المتعلقة به، لا الذنوب التي لها صلة بحقوق العباد. وهذا هو الغرض الأول من الدعوة إلى الإيمان.
ويلاحظ أنه تعالى في كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب الكفار، جاء بلفظ (من) وفي كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب المؤمنين، جاء بغير لفظ (من).
مثال الحالة الأولى: قوله تعالى: {وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح 3/ 71 - 4] وقوله سبحانه: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف 31/ 46] لأنه يدعوهم إلى الإيمان الذي هو أصل الدين.
ومثال الحالة الثانية: قوله عز وجل: {قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران 31/ 3] وقوله عزت أسماؤه: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف 11/ 61 - 12] لأنه بعد توافر الإيمان لا تكون المغفرة إلا إلى المعاصي.
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} هذا هو الغرض الثاني من الدعوة إلى الإيمان، وهو الإمهال والتأخير إلى وقت محدد معين في علم الله تعالى، وهو منتهى العمر، إن حدث الإيمان، وإلا عاجلكم الهلاك والعذاب بسبب الكفر.
فالإيمان يتحقق به رحمتان أو نعمتان وهما مغفرة الذنوب والإمهال إلى نهاية الأعمار.
ثم ذكر الله تعالى ردّ تلك الأمم على رسلها من نواح ثلاث هي:
1 -
{قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا} أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم، ولما نر منكم معجزة، فما أنتم إلا مثلنا في البشرية، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصصون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا، لبعث من جنس أفضل.
2 -
{تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا} أي وأنتم تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، بهذه الدعوى التي لا دليل على صحتها.
3 -
{فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي فأتونا بأمر خارق نقترحه عليكم، أو بحجة ظاهرة تدلّ على صحة ادعائكم النبوة، فنحن لا نؤمن إلا بالحسيّات، أما خلق السموات والأرض وما فيهما من عجائب، فلا نعقلهما، ولا يصلح دليلا على صحة ما تقولون.
ثم ذكر الله ما ردّ به الأنبياء على شبهاتهم الثلاث، وهو المصادقة والتسليم للشبهتين الأولى والثانية، وإسناد الأمر إلى الله في الثالثة، فقال:{قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ.} . أي قالت الرسل للأمم: ما نحن إلا بشر مثلكم كما ذكرتم، نأكل ونشرب وننام ونمشي في الأسواق ونبحث عن الرزق، ولكن الله سبحانه يتفضل على من يشاء من عباده بالرسالة والنبوة:{اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [الأنعام 124/ 6] وقد منّ الله علينا بالرسالة.
وأما تقليدكم الآباء لمجرد كونهم آباء فهذا شيء لا يقبله العقل.
وأما طلبكم الحجة والبرهان على صدق رسالتنا، والإتيان بسلطان على وفق ما سألتم، بالرغم من المعجزات التي ظهرت لنا، فأمره إلى الله، ولا نتمكن من الإتيان بسلطان إلا بمشيئة الله وإرادته، ولا نقدر عليه.
{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي على جميع المؤمنين أن يتكلوا على الله في جميع أمورهم، لدفع شرّ عدوهم، والصبر على معاداتهم.
ثم أكدوا اعتمادهم على الله فقالوا: {وَما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ.} . أي وكيف لا نتوكل على الله الذي هدانا إلى سبيل المعرفة، وأرشدنا إلى طريق النجاة؟! وما يمنعنا من التوكل عليه، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها.