الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذين يجحدون قدرته ورحمته، ويجهلون حكمة الله في عباده. أما المؤمنون فلا ييأسون من رحمة الله وتفريجه الكروب، وإزالته الشدائد. قال ابن عباس رضي الله عنهما:«إن المؤمن من الله على خير، يرجوه في البلاء، ويحمده في الرخاء» .
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1 -
لم يتغير موقف أولاد يعقوب العشرة في حال الصغر والكبر معا، وظلوا على حقدهم وحسدهم وكراهيتهم لأخويهما: يوسف وبنيامين، وقد فهم هذا من محاولة تبرئة أنفسهم بأنهم على منهج وطريقة وسيرة تختلف عن منهج وسيرة أخويهم، فأخواهما مختصان بهذه الطريقة واحتراف السرقة، لأنهما من أم أخرى.
والحق أن سرقة يوسف كانت رضى لله، وكانت على ما يبدو في حال الصغر، والصغير غير مكلف، ولم يكن وضع الصواع في رحل بنيامين منه إنما كان من غيره.
2 -
لم يقابلهم يوسف بالإساءة والتصريح عما في نفسه، وإنما أسرّ في نفسه مقالتهم، وقولهم هو:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} وقيل: إنه أسرّ في نفسه على طريقة الإضمار قبل الذكر قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} ثم جهر فقال: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ} .
3 -
استعطفوه لإطلاق سراح أخيهم بنيامين أو قبول الفداء عنه بأخذ أحدهم بدله، بحال أبيه الشيخ الكبير أي كبير القدر، ولم يريدوا كبير السن، لأن ذلك معروف من حال الشيخ، واستعطفوه أيضا بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم.
وأما عرضهم أخذ البدل عنه فهو إما مجاز، لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل المتهم، وإنما هو مبالغة في استنزاله، كما تقول لمن تكره فعله:
اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك، ولكنك مبالغ في استنزاله.
وإما أن يكون قولهم: {فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ} حقيقة، من طريق الكفالة بالنفس، ليصل بنيامين إلى أبيه، ويعرف جلّية الأمر، والكفالة بالنفس جائزة على التحقيق في المذاهب الإسلامية الأربعة، حتى عند الشافعي على الراجح.
وعلى كل حال كما أن الاستعباد للسارق في شرع إسحاق ويعقوب جائز، كذلك العفو وأخذ الفداء كان جائزا أيضا.
4 -
رفض يوسف عليه السلام أخذ البدل، ووصف ذلك بأنه ظلم.
5 -
تشاور أولاد يعقوب فيما يفعلون أمام الميثاق الذي أخذه عليهم أبوهم مؤكدا باليمين بالله، وتذكروا تفريطهم السابق بيوسف، فقرر أكبرهم في السن أو في الرأي والعقل وهو شمعون أو يهوذا أو روبيل البقاء في مصر، حتى يأذن له أبوه بالرجوع إليه، لاستحيائه منه، أو يحكم الله له بالمضي مع أخيه إلى أبيهما.
وهذا دليل على أن التناجي والمشاورة في أمر ما مطلوب شرعا.
وقد ذكر القاضي عياض في «الشفا» أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه الآية:
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. إذ أن هذه الجملة تضمنت معاني كثيرة، يعبر عنها اليوم بجمل كثيرة لعقد اجتماع سري، وتشاور فيه، ومداولة فيما يجابهون به أباهم، وكيفية بيان الحادث له.
6 -
اتفق أولاد يعقوب بمشورة كبيرهم الذي بقي في مصر على مصارحة أبيهم بما حدث من واقعة السرقة، وشهادتهم في الظاهر عليها، حيث أخرج الصواع
من متاع بنيامين، وجهلهم بالمغيب، فلم يعلموا وقت أخذ الميثاق عليهم أنه يسرق، ويصير أمرهم إلى ما آل إليه، من الاستعباد أو الاسترقاق، عملا بما هو المقرر من جزاء في شريعتهم.
وعلى كل حال فإنهم لما تفكروا في الأصوب ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على نحو ما حدثت.
7 -
تضمنت آية {وَما شَهِدْنا إِلاّ بِما عَلِمْنا} جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها، فتصح شهادة المستمع والمعاين والأعمى والأخرس إذا فهمت إشارته، وكذلك تصح الشهادة على الخط إذا تيقن الشاهد أن الخط خط الكاتب أو خط فلان، فكل من حصل له العلم بشيء، جاز أن يشهد به، وإن لم يشهده المشهود عليه، قال الله تعالى:{إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف 86/ 43]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن زيد بن خالد الجهني: «ألا أخبركم بخير الشهداء: خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» .
وقد شهد أولاد يعقوب بما رأوه حين إخراج الصواع من رحل أخيهم، فغلب على ظنهم أنه هو الذي أخذ الصواع.
وأما شهادة المرور بأن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا، فالصحيح أنه إذا استوعب القول، جاز أداء الشهادة عليه.
وإذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره، ردّت، لأنه ادّعى باطلا، فأكذبه العيان ظاهرا.
والخلاصة: أن الشهادة تكون بالاعتماد على الحواس الظاهرة، أما حقيقة الغيب فلا يعلمها إلا الله تعالى.
8 -
استعان أولاد يعقوب لإقناع أبيهم بصدق قولهم بسؤال أناس من أهل
مصر، وسؤال قوافل الطعام التي كانت معهم من قوم من الكنعانيين، وهذا يدل على أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم: أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد كلام، وقد فعل هذا نبينا صلى الله عليه وسلم
فيما رواه البخاري ومسلم- بقوله للرجلين اللذين مرّا، وهو مع صفية يردّها من المسجد:«على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» . فقالا: سبحان الله! وكبر عليهما، فقال:«إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا» .
ثم إنهم بالغوا في التأكيد والتقرير فقالوا: {وَإِنّا لَصادِقُونَ} يعني سواء نسبتنا إلى التهمة، أو لم تنسبنا إليها، فنحن صادقون.
9 -
الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل والرضا والتسليم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين عليهم السلام. قال يعقوب في واقعتي يوسف وبنيامين:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} إلا أنه قال في واقعة يوسف: {وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ} وقال في واقعة بنيامين: {عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} .
10 -
قول يعقوب {عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} صادر عن علمه بالوحي أو بالإلهام أو بسؤال ملك الموت أن يوسف عليه السلام لم يمت، وإنما غاب عنه خبره. والذين تمنى إحضارهم ثلاثة: كبير أولاده ويوسف وبنيامين.
11 -
تجدد مصاب يعقوب وحزنه على يوسف بغياب ولدين آخرين هما أكبر أولاده وأصغرهم، فأسف أسفا شديدا، والأسف: شدة الحزن على ما فات، وعمي فلم يعد يبصر بعينيه ست سنين من البكاء، الذي كان سببه الحزن.
ولكن الله العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة هيأ لجمع الأسرة كلها.
12 -
إن الحزن ليس بمحظور إذا اقترن بالصبر والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، فذلك من طبع الإنسان وعاطفته، وإنما المحظور هو السخط على القضاء والقدر، والولولة، وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي،
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان:
«تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» .
وبناء عليه لما سمع يعقوب عليه السلام كلام أبنائه، ضاق قلبه جدا، وأعرض عنهم، وفارقهم، ثم طلبهم أخيرا وعاد إليهم.
13 -
أشفق أولاد يعقوب على أبيهم، ورقوا، وذكروا له مخاطر الاستمرار في حال الحزن، وهي إما المرض المضعف القوة، وإما الهلاك والموت، وهذا أمر واقعي مطابق لأحوال الناس.
14 -
كانت شكاية يعقوب وحزنه ولجوءه بالدعاء إلى الله وحده، لا إلى أحد من الخلق، وهذا هو المطلوب شرعا في كل شاك حزين.
15 -
إن نبي الله يعقوب يعلم مالا يعلم غيره من الناس بما عند الله من رحمة وإحسان وتفريج كرب، ويعلم أيضا أن رؤيا يوسف صادقة، وأنه وزوجته وأبناؤه سيسجدون له، تصديقا لرؤياه السابقة وهو صغير.
16 -
تيقن يعقوب عليه السلام حياة ابنه يوسف إما بالرؤيا، وإما بإخبار ملك الموت إياه بأنه لم يقبض روحه، وهو أظهر، فعاد يكلم أولاده باللطف، وطلب منهم الذهاب إلى مصر للبحث عن يوسف وأخيه.
17 -
لا يقنط من فرج الله إلا القوم الكافرون، وهذا دليل على أن الكافر يقنط في حال الشدّة، وعلى أن القنوط من الكبائر، أما المؤمن فيرجو دائما فرج الله تعالى.