الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسروق لا غير، وكان ذلك سنة آل يعقوب. {كَذلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ} أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين بالسرقة، وهذا تصريح منهم ليوسف بتفتيش أوعيتهم.
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} ففتشها. {قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ} قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لئلا يتهم. {ثُمَّ اسْتَخْرَجَها} أي السقاية أو الصواع. {كَذلِكَ كِدْنا} أي مثل ذلك الكيد (أي التدبير الخفي) كدنا ليوسف، علمناه الحيلة في أخذ أخيه وأوحينا به إليه. {ما كانَ} يوسف.
{لِيَأْخُذَ أَخاهُ} رقيقا من السرقة. {فِي دِينِ الْمَلِكِ} في قانون أو نظام أو حكم أو شرع ملك مصر؛ لأن جزاءه في ذلك النظام الضرب وتغريم مثلي المسروق، لا الاسترقاق. {إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، وهو أخذه بحكم أبيه، أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه سؤال إخوته، وجوابهم بنظامهم أو سنتهم. والاستثناء متصل من أعم الأحوال، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي لكن أخذه بمشيئة الله وإذنه.
{نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} بالعلم كيوسف. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} من المخلوقين.
{عَلِيمٌ} أعلم منه، حتى ينتهي إلى الله تعالى.
المناسبة:
الربط بين الآيات هنا واضح، إذ هي تعرض أجزاء ومشاهد قصة واحدة ذات حلقات متسلسلة، فبعد أن اتجه أولاد يعقوب إلى مصر لجلب الميرة، مزودين بوصية والدهم، وصلوا إلى مكان وجود العزيز الذي يتولى بيع الطعام للناس، فلما دخلوا عرف أخاه وضمه إليه.
التفسير والبيان:
حينما دخل أولاد يعقوب على يوسف في مجلسه الخاص ومنزل ضيافته، ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، بعد أن كانوا دخلوا القصر من أبواب متفرقة، ضم إليه أخاه واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرّفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيتخذ تدبيرا يبقيه عنده معززا مكرما.
روي أنهم قالوا له: هذا أخونا، قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم
وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يواكله، وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتا، وهذا لا ثاني له، فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه، ويشم رائحته، حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال: لي عشرة بنين، اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له:
أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل (أمهما) فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، وقال له: إني أنا أخوك يوسف، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا في الماضي، فإن الله قد أحسن إلينا، وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك
(1)
.
{فَلَمّا جَهَّزَهُمْ.} . فلما أعدّ لهم الطعام، وحمل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية (الصواع أو المكيال، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين، وقيل: من ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد.
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} ثم نادى مناد حينما عزموا على الخروج: أيتها العير أي يا أصحاب العير، إنكم قوم سارقون، فقفوا. فبهتوا وذهلوا.
فالتفتوا إلى المنادي وقالوا: أي: قال إخوة يوسف للمنادي ومن معه: أيّ شيء تفقدونه؟ فأجابوهم: نفقد صاع الملك الذي يكيل به، ولمن أتى به حمل بعير من القمح، وهذا يدل على أن عيرهم الإبل، وأنا به زعيم أي كفيل ضامن، وهذا من باب الجعالة والضمان والكفالة.
قال إخوة يوسف بعد اتهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا وجربتمونا في المرة الأولى وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا إليكم، وتحققتم منذ عرفتمونا، وشاهدتم
(1)
الكشاف: 147/ 2
سيرتنا الحسنة أنا ما جئنا لنفسد في أرض بسرقة ولا غيرها من التعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا تقتضي هذه الصفة.
فقال لهم فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التهمة عنكم؟ أي أيّ عقاب للسارق في شرعكم إن وجدنا فيكم من أخذه، وأنتم تدّعون البراءة؟ فأجابوهم: جزاؤه أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقوا، وهكذا كانت شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: أن السارق يدفع إلى المسروق منه، فيصيرا عبدا له، وهذا هو ما أراده يوسف عليه السلام.
ولهذا بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتهم، ثم استخرج السقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ويحكمون به.
قوله: {فَهُوَ جَزاؤُهُ} تقرير للحكم السابق وتأكيد له، بعد تأكيد ثقتهم وبراءتهم بأنفسهم.
{كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ} أي مثل ذلك الكيد وهو التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبرنا له في الخفاء وأوحينا إليه أن يفعله. وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة. وهو دليل على جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بما ظاهره الحيلة إذا لم يخالف نصا تشريعيا أو حكما مقررا، فهي حيلة جائزة مشروعة، لا ممنوعة محظورة، لما يترتب عليها من الخير والمصلحة، دون إلحاق ضرر بأحد، مع اطمئنان بنيامين إلى البراءة، بسبب التواطؤ السابق بينه وبين أخيه يوسف.