الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيضرب {الْحُسْنى} الجنة {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} وهم الكفار {لافْتَدَوْا بِهِ} من العذاب {أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ} المؤاخذ بكل ما عملوه، لا يغفر منه شيء، أو المناقشة في الحساب، بأن يحاسب الإنسان بذنبه، لا يغفر منه شيء {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} مرجعهم النار {وَبِئْسَ الْمِهادُ} المستقر والفراش هي، والمخصوص بالذم محذوف.
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ.} . الهمزة للإنكار، أي فيؤمن ويستجيب كالحمزة {كَمَنْ هُوَ أَعْمى} عمى القلب لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كأبي جهل، والمراد لا يستويان، ولا يتشابهان {يَتَذَكَّرُ} يتعظ {أُولُوا الْأَلْبابِ} أصحاب العقول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى وجود دعوتين: دعوة الحق، ودعوة الباطل، وأن دعوة الله هي دعوة الحق ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل، ولما شبه تعالى المؤمن والكافر والإيمان والكفر، بالبصير والأعمى، والنور والظلمات، ذكر مثلا آخر للإيمان والكفر، وأبان مثلا للحق وأهله، والباطل وحزبه، فجعل مثل الحق وأهله في ثباته وبقائه بالماء النازل من السماء فينفع الأرض والناس، وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه، واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وجعل مثل الباطل في اضمحلاله وفنائه وسرعة زواله وانعدام منفعته بزبد السيل الذي يرمي به، وزبد المعدن الذي يطفو فوقه إذا أذيب.
التفسير والبيان:
اشتملت الآية الأولى على مثلين للحق وهو القرآن أو الإيمان في ثباته وبقائه ونفعه، والباطل وهو الكفر في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ.} ..
أي أنزل الله تعالى من السحاب مطرا، فأخذ كل واد بحسبه صغرا وكبرا، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها في استيعاب الإيمان سعة وضيقا، فحمل السيل
المتجمع من ذلك المطر زبدا عاليا طافيا فوقه، وهذا هو المثل الأول للحق والباطل أو الإيمان والكفر.
ثم ذكر تعالى المثل الثاني: {وَمِمّا يُوقِدُونَ.} . أي ومثل الحق أو الإيمان كالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ونحوها الذي يستخلص من التراب والشوائب، بواسطة السبك في النار، ليجعل حلية أو آنية أو سلاحا أو متاعا ينتفع به، ويعلوه الخبث والشوائب الطافية عند الانصهار، وهو مثل الباطل.
{كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ} أي المذكور مثل الحق والباطل إذا اجتمعا، فالحق في استقراره ونفعه كالماء المستقر النافع والمعدن النقي الصافي، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السيل على جوانبه، وخبث المعدن عند انصهاره، فالباطل لا دوام له أمام الحق.
ثم ذكر الله تعالى اضمحلال الباطل وذهابه بقوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ.} . أي أن الزبد الطافي فوق الماء يتبدد ويزول ويذهب في جانبي السيل، ويعلق على حافتيه، فتنسفه الرياح، وأما النافع من الماء والمعدن فيبقى مستقرا في الأرض، أما الماء فنشربه ونسقي به الزرع، وأما المعدن فنستفيد منه إما بالحلي أو بصناعة الأواني والأسلحة والأمتعة، كما قال تعالى عن الحديد:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ} [الحديد 25/ 57].
{كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ} أي أنه تعالى كما بيّن لكم هذه الأمثال، فكذلك يضربها بيّنات، لإيضاح الفوارق بين أصول الاعتقاد الجوهرية من الإيمان والكفر، والحق والباطل.
والخلاصة: إن القرآن الكريم الذي تجسد فيه الحق ونور الإيمان مثله في إحياء القلوب به مثل الماء الذي يحيي الأرض بعد موتها، ومثل المعدن النقي
الصافي الذي يحقق منافع كثيرة للناس. وأما الكفر وضلالات الشرك وباطل اعتقاد المشركين، فهو عديم النفع سريع الزوال، يتبدد فورا، فهو كرغوة الماء وغثاء السيل الذي يضمحل وتعصف به الرياح، وخبث المعدن الذي يستبعد ويلقى جانبا.
وما ضرب هذا المثل الرائع إلا لخير الإنسان، الذي عليه أن يقدر مآل أمره، وما ينتظره من سعادة وشقاوة في المعاد، فإذا كان يوم القيامة وعرض الناس وأعمالهم على ربهم، فيزيغ الباطل ويتلاشى، وينتفع أهل الحق بالحق.
وقد ضرب الله تعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين من النار والماء، فقال تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ.} .
[17] ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [19].
وضرب سبحانه للكافرين في سورة النور مثلين، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ} [39] والسراب يكون في شدة الحر، ثم قال:
{أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.} . [40].
وجاء في السنة أمثال مشابهة، فشبّه النبي صلى الله عليه وسلم أحوال المنتفعين بسنته بأحوال أراض ثلاث سقط عليها الماء،
ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لأتمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وهذا مثل مائي يشبه المثل الذي ضربه الله تعالى للمنافقين.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلّم عن النار، فتغلبوني، فتقتحمون فيها» وهذا مثل ناري أبان فيه النبي صلى الله عليه وسلم حرصه على إبعاد أمته من النار، وتساقط بعضهم فيها كتساقط الفراش، وهو كالمثل الذي ضربه الله للمنافقين.
ثم أبان الله تعالى مستأنفا الكلام مصير أهل الحق وأهل الباطل، ومآل السعداء والأشقياء، ترغيبا وترهيبا، فقال:{لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا.} . أي الجنة للذين أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم الجزاء الحسن ونعيم الجنة والثواب العظيم، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس 26/ 10] وقال: {وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً} [الكهف 88/ 18].
{وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا.} . أي والذين لم يطيعوا الله ورسوله، لا ينفعهم في الآخرة الفداء بجميع ما في الدنيا وضعف ما فيها، أي لا يمكنهم في الدار الآخرة أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا، ومثله معه. ولو كان لهم ذلك لافتدوا به، ولكن لا يتقبل الله منهم؛ لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا، أي فداء وتوبة.
أولئك الذين لم يطيعوا الله لهم سوء العذاب في الدار الآخرة، ويناقشون على كل ما قدموه، لا يغفر منه شيء، ومن نوقش الحساب عذب، ومرجعهم إلى النار وبئس المستقر مستقرهم. وفي هذا تهويل شديد، وتخويف عظيم، لغفلتهم من اتباع أوامر ربهم، وتقربهم إليه، وانغماسهم في شهواتهم.