الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطهارة
أقول: ابتدأ المصنف في بيان الكتب العشرة التي اختارها، فإن قلت: لم قال: كتاب الطهارة، ولم يقل باب الطهارة؟
قلت: لأن الباب عبارة عن النوع، والكتاب معناه: الجمع في اللغة، فكأنه يجمع الأنواع التي تحته وهي: الوضوء والغسل وأحكام المياه والآبار والأسار ونحوها.
فإن قلت: لم قال كتاب الطهارة ولم يقل كتاب الطهارات؟
قلت: الطهارة مصدر يتناول القليل والكثير، فلا يحتاج إلى الجمع.
فإن قلت: لم قال كتاب الطهارة ولم يقل كتاب الوضوء؟
قلت: الطهارة تطلق على الوضوء والغسل وطهارة المكان والثوب والبدن، وطهارة الآبار ونحوها.
والوضوء لا يطلق إلا على غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس.
فإن قلت: لم قدم كتاب الطهارة على الصلاة؟
قلت: لأنها شرط الصلاة، والشرط دائماً بقدم على المشروط، إذ وجوده يتوقف على وجود الشرط.
والطهارة مصدر من طهر الشيء بفتح الطاء وضمها: هي النظافة مطلقاً، وفي الشرع: النظافة عن النجاسات.
قوله: (الماء على ثلاثة أقسام):
أقول: إنما قدم بحث المياه على الوضوء والغسل لأنه آلة لهما، وهما يحصلان
به، فلا بد من أن يقدم الآلة أولاً ليكون المكلف على الاستعداد، ثم قدم الماء المطلق على سائر أقسام الماء وهي:
المقيد، والمستعمل، والمختلط، والمعتصر، والمتغير، ونبيذ التمر، والمكروه، والمشكوك، والنجس، لأن الطهارة تحصل به بطريق الأصالة، بخلاف بواقيه، فإن بعضها لا يجوز استعماله: كالنجس، وبعضها يجوز عند عدم المطلق: كالمكروه، وبعضها بالجمع بالتراب: كالمشكوك.
قوله: (طاهر وطهور) أي القسم الأول: طاهر وطهور، أي طاهر في نفسه وطهور لغيره.
قوله: (وهو الماء الباقي على أوصاف خلقته) هذا حد الماء الطاهر والطهور، وهو الماء الذي يسميه الفقهاء: ماء مطلقاً، وهو ما يكون باقياً على أوصاف خلقته التي خلقه الله تعالى عليها من غير أن يتغير طعمه ولونه وريحه، وذلك كماء السماء والعيون والآبار والأنهار والبحار والحياض والغدران ونحوها.
قوله: (ومنه ما يقطر من الكرم) أي من الماء الطاهر والطهور ما يقطر من الكرم أيام الربيع، لأنه يخرج من غير علاج.
وذكر في المحيط: أنه لا يتوضأ بماء يسيل من الكرم، لكمال الامتزاج.
قوله: (والمتغير بطاهر) أي ومنه المتغير، أي من الطاهر والطهور: الماء الذي تغير بالشيء الطاهر كالصابون والزعفران، والحرض ونحوها، ولكن بشرطين:
الأول: أن لا يغلبه بالأجزاء، أشار إليه بقوله:(ما لم يغلبه بالأجزاء).
الثاني: أن لا يجدد له اسم آخر، أشار إليه بقوله:(ولم يجدد له اسم آخر) لأنه إذا جدد له اسم آخر: لا يبقى ماء: كالمرق وماء الباقلا والخل وسائر الأشربة.
واعلم أن المراد من الغلبة بالأجزاء هو: أن يخرج الماء من الصفة الأصلية وهي الرقة، بأن يثخنه إلى أن يجعله ثخيناً، لا أن يكون من حيث الوزن أكثر كما يتوهمه بعض الناس، نص عليه في شروح الهداية.
ويعضده أيضاً قول قاضي خان: "أن التوضي بماء الزعفران وزردج العصفر يجوز إن كان رقيقاً والماء غالب، فإن غلبت الحمرة وصار متماسكاً لا يجوز".
ويقويه قول أبي يوسف في الأمالي: "إذا اختلط الصابون بالماء وغلب عليه وأثخنه: لا يجوز التوضي به، وإذا كان رقيقاً لكن علاه بياض الصابون: يجوز
التوضي به. وكذلك إذا طبخ الآس والبابونج في الماء، فإن غلب على الماء حتى يقال ماء البابونج أو ماء الآس: لا يجوز التوضي به". وههنا تفريعات أخر ذكرتها في شرحي المستجمع، فمن رامها فعليه بذيله.
قوله: (وطاهر فقط) أي القسم الثاني من الأقسام الثلاثة:
ماء طاهر في نفسه فقط، يعني غير طهور لغيره (وهو كل ماء أزيل به حدث أو أقيمت به قربة) وهو الماء المستعمل، وسبب استعمال الماء: أحد الأمرين عند أبي يوسف، وهما: إزالة الحدث والتقرب، وهو أن يتوضأ وهو على الوضوء قصداً للقربة، وعند محمد: السبب التقرب فقط.
وفي حكمه ثلاث روايات عن أبي حنيفة: في رواية: نجس مغلظ، وبها أخذ الحسن، وفي رواية: نجس مخفف، وبها أخذ أبو يوسف، وفي رواية: طاهر غير طهور، وبها أخذ محمد، وهو أحد قولي الشافعي، وهو الصحيح وعليه الفتوى.
قوله: (ونجس) أي القسم الثالث من أقسام الثلاثة: ماء نجس (وهو ماء قليل وقعت به نجاسة وإن لم تغيره) لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة" رواه أبو داود. ولو لم يكن الماء منجساً لم يكن للنهي فائدة.
والقلتان: تتنجس بوقوع النجاسة فيها، خلافاً للشافعي، والحديث الذي ورد فيها: ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره.
وهي خمس قرب كل قربة خمسون منا.
قوله: (وكثير وقعت فيه نجاسة) عطف على قوله: (وهو ماء قليل) فيكون هذا أيضاً داخلاً في حكم القسم الثالث: وهو النجس، فتقدير الكلام: القسم الثالث: ماء نجس، وهو ماء قليل وقعت فيه نجاسة وإن لم تغيره، وماء كثير وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصافه وهي: اللون والطعم والرائحة، سواء كان هذا الماء الكثير جارياً أو واقفاً. فافهم.
فرع: إذا ألقي الكلب الميت في النهر والماء يجري، ينظر: إن كان للماء الذي يجري من جانب الكلب قوة الجريان، أو كان الماء يجري على أعلى الكلب: فالماء طاهر. وإن كان جميعه يجري على جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان: فالماء نجس.
قوله: (والكثير: عشر في عشر9 لما بين حكم الماء الكثير أولاً شرع في بيان حده: وهو عشر في عشر بذراع المساحة، وهو ذراع الملك: وهو كسرى أنو شروان، وهو سبع قبضات بإصبع قائمة، لأنه من الممسوحات، وذراع المساحة فيها أليق، وقيل بذراع الكرباس توسعة للناس، لأنه ست قبضات: أربع وعشرون إصبعاً، وهو اختيار المصنف، والأصح أنه يعتبر في كل زمان ومكان ذراعهم، نص عليه في الكافي والمحيط.
قوله: (في عمق) بدون الواو، وجار ومجرور وقعت حالاً من قوله:(والكثير) وقوله: (بذراع الكرباس) صفة لقوله: عشر في عشر، والمبتدأ كثيراً ما يقع منه الحال، فتقدير الكلام: والماء الكثير حال كونه مستقراً في عمق عشرة أذرع كائنة في عشرة أذرع مثلها مذروعة بذراع الكرباس.
قوله: (لا تظهر الأرض بالغرف) جملة وقعت صفة لقوله: (عمق) فافهم.
وقيل في حد العمق: قدر ذراع، وقيل: قدر شبر، وقيل: قدر أربع أصابع مفتوحة، وعن البزدوي: بما يبلغ الكعب.
قوله: (والقليل ما دونه) أي الماء القليل ما دون الكثير، وهو ما دون العشر في العشر، مثل تسعة في تسعة وما دونها.
قوله: (والجاري) أي الماء الجاري (ما يذهب بتبنة أو ورق) نص عليه صاحب تحفة الفقهاء، وقيل: ما يعده الناس جارياً، وهو المختار.
قوله: (والواقف ما دونه) أي الماء الواقف ما دون الجاري وهو: ما لا يذهب بتبنة ولا ورق.
قوله: (والنجاسة كل خارج من أحد السبيلين) وهما القبل والدبر، وأطلق الخارج ليعم البول والغائط والدودة ونحوها. فإن قلت: كيف يقول المصنف: (والنجاسة كل خارج من أحد السبيلين) ونحن نجد خارجاً من أحدهما وهو غير نجس: كالريح
الخارجة من الذكر وفرج المرأة، فإنه لا ينقض الوضوء فلا يكون نجساً، حتى إذا كانت سراويلها مبتلة لا ينجسها؟
قلت: هذا نادر، والحكم للغالب، ولأنه لا وجود له في الحقيقة، ولأنه اختلاج، على أن فيه رواية عن محمد: أنه يجب فيه الوضوء، فحينئذ يكون نجساً.
قوله: (وغيره) أي غير الإنسان، أي النجاسة كل خارج من أحد السبيلين من الإنسان، وكل خارج من أحد السبيلين من غير الإنسان، وهو يتناول جميع الدواب والوحوش والطيور، لكن استثني منه الحمام والعصفور: فإن خرءهما طاهر، لأنه لا يستحيل إلى نتن وفساد، على أن المسلمين أجمعوا على اقتناء الحمامات في المساجد مع الأمر بتطهيرها. وفيه خلاف الشافعي.
فإن قلت: المراد من قوله: (والنجاسة كل خارج) مغلظة أو مخففة؟ قلت: المراد من الخارج من الإنسان: مغلظة مطلقاً، وفي غيره تفصيل وخلاف، لأنها لا تخلو إما أن تكون مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل.
أما الأرواث: فنجاستها مغلظة عند أبي حنيفة سواء كانت مما يؤكل أو مما لا يؤكل، وعندهما: مخففة مطلقاً، وعند زفر: إن كانت مما تؤكل: فهي مخففة، وإن كانت مما لا تؤكل: مغلظة.
وعند مالك: الأرواث طاهرة.
وأما الأخراء جمع خرء: فإن كانت مما تؤكل: فهي طاهرة، إلا خرء البط والدجاج والأوز، وإن كانت مما لا تؤكل: فنجاستها مخففة عند أبي حنيفة، ومغلظة عندهما على رواية الهندواني، وعلى رواية الكرخي: عند محمد مغلظة، وعندهما: طاهرة.
وأما الأبوال: فإن كانت مما لا يؤكل: فهي مغلظة بالاتفاق، وإن كانت مما يؤكل: فعند أبي حنيفة مغلظة، وعند أبي يوسف: مخففة، وعند محمد: طاهرة، حتى لا يجوز شرب بول نحو الغنم عند أبي حنيفة مطلقاً، ويجوز عند أبي يوسف للتداوي، ويجوز عند محمد مطلقاً. وعلى هذا مسائل وتفريعات كثيرة لا يتحملها هذا المختصر، يخرجها الفطن الذكي.
قوله: (والدم والقيح والصديد) عطف على قوله: (كل خارج).
قوله: (إذا سال إلى محل الطهارة) يعني بعدما خرج إذا سال إلى موضع يلحقه حكم التطهير (يكون نجساً) حتى إذا لم يسل إلى هذا الموضع: لا يكون نجساً، فلا ينقض الوضوء، حتى قيل: إذا ظهر الدم ونحوه على قرحة ورفعه بقطنة من غير سيلان: لا ينقض الوضوء، ولو ألقاه في البئر أو في الطعام: لا ينجسه.
قوله: (إما للوضوء وإما للغسل) تفصيل لمحل الطهارة، لأنها لا تخلو عن هذين الأمرين، أما محل الطهارة للوضوء: فهي الأعضاء الأربعة، وأما محل الطهارة للغسل: فجميع البدن.
قوله: (في الجملة يؤدي معنى مطلقاً) يعني الدم ونحوه إذا خرج وسال إلى محل الطهارة: يكون نجساً وناقضاً، سواء كان السيلان قليلاً أو كثيراً، وسواء كان السيلان
إلى محل الطهارة من الوضوء، أو إلى محل الطهارة من الغسل، أو يكون المعنى: أن الدم ونحوه إذا سال إلى محل يجب تطهيرها في الجملة، يعني في الحدث أو في الجنابة، حتى لو نزل الدم من الرأس إلى قصبة الأنف: ينقض الوضوء، لأنه يجب غسل تلك المحل في الجملة، يعني في الغسل، وإن لم يجب في الوضوء.
والبول إذا نزل إلى قصبة الذكر: لا ينقض الوضوء، لأنه لم يجب غسل تلك المحل في الجملة، لا في الوضوء، ولا في الغسل. هذا ما سنح به خاطري في هذا المقام فافهم.
قوله: (والخمر) عطف على ما قبله، لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] أي نجس. وللخمر أحكام منها: أن قليلها وكثيرها حرام بالإجماع، ومنها: أنه يكفر مستحلها، ومنها: أن نجاستها مغلظة كالبول، ومنها: أنه لا قيمة لها في حق المسلم، حتى لا يضمن متلفها ولا غاصبها، ويحرم بيعها، ومنها: أن الحد يتعلق بنفس شربها، سواء سكر بها أو لم يسكر، ومنها: أن الطبخ لا يحلها.
قوله: (والقيء ملء الفم) ولما كان هذا حدثاً لقول علي رضي الله عنه: "أو دسعة تملأ الفم" حين عد الأحداث، كان نجساً، يقال: دسع: إذا قاء ملء الفم.
قوله: (وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور) كالصقر والعقاب والبازي والشاهين ونحوها (ينجس الماء) لإمكان التحامي عنه بتغطية الأواني (ولا ينجس الثوب) لأنها تذرق من الهواء (إلا إذا فحش) والفحش: شبر في شبر عند البعض، وقيل: ذراع في ذراع، وقيل: أكثر من النصف.
وعن أبي حنيفة: ما يستفحشه الناس.
والصحيح: ربع الثوب، لأن الربع يقوم مقام الكل في كثير من الأحكام، كحلق ربع الرأس في الإحرام، وكشف ربع العورة.
واختلفوا في كيفية اعتبار الربع: فقيل: ربع كل الثوب، وقيل: ربع أدنى ثوب تجوز فيه الصلاة كالمئزر، وقيل: ربع الموضع الذي أصابه، مثل ربع الكم أو الذيل أو الدخريص.
قوله: (وخرء الفأرة وبوله معفو عنه في الطعام والثوب) لعدم إمكان التحامي عنه، لأن الفأرة غالباً تخرج في الليالي وتدخل المضائق، بخلاف الماء فإن حفظه ممكن.
وخرء دود القز: نجس، وعن محمد: لا بأس ببولها، وبول الخفافيش وخرؤها ليس بشيء، كذا في الإيضاح.
قوله: (ودم البق والبراغيث والسم: عفو) لأنه ليس بدم حقيقة.
وعن أبي يوسف في قول ضعيف: أن دم السمك: نجس، ودم الحلمة والأوزاغ: نجس، ودم الكبد والطحال: طاهر.
فرع: ذبح شاة بسكين، ثم مسح السكين على صوفها أو على شيء، وذهب أثر الدم: تطهر، حتى لو قطع بها بطيخاً يكون طاهراً، كذا في النوازل.
قوله: (وشعر الميتة وكل جزء منها لا حياة فيه) كالعظم والقرن والظلف والحافر والمخلب والمنقار: (طاهر) لعدم حلول الحياة فيها، فانتفت علة التنجيس، وكذلك الصوف والوبر والشعر، وفي العصب: روايتان، وعند الشافعي: الكل نجس، وعند مالك: العظم نجس والشعر طاهر.
قوله: (وشعر الخنزير وسائر أجزائه: نجس) لقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. والضمير يرجع على الخنزير، فتكون جميع أجزائه نجساً.
قوله: (ورخص الخرز بشعره) لأن خرز النعال والأخفاف الرفيعة لا يتأتى إلا به، فكان فيه ضرورة.
وعن أبي يوسف: أنه يكره، لأن الخرز يتأتى بغيره. والأول: هو الظاهر، لأن الضرورة تبيح لحمه، فالشعر أولى، ثم لا حاجة إلى شرائه، لأنه يوجد مباح الأصل، وقال الفقيه أبو الليث:
"إن كانت الأساكفة لا يجدون شعر الخنزير إلا بالشراء: ينبغي أن يجوز لهم الشراء، ولا بأس للأساكفة أن يصلوا مع شعر الخنزير، وإن كان أكثر من قدر الدرهم، ولو وقع في الماء القليل: أفسده عند أبي يوسف، خلافاً لمحمد".
والخرز: الخياطة، من خرز يخرز من باب ضرب يضرب.
قوله: (والفيل طاهر) الأصح أنه مثل سائر السباع حتى يكون سؤره نجساً، ويطهر جلده بالدباغ، ولحمه بالذكاة، ويجوز استعمال شعره وعصبه، ويجوز بيع عظمه والانتفاع به في نحو مقابض السكين والسيف، وهذا عندهما، وعند محمد: هو مثل الخنزير، فلا يجوز استعمال جزء منه أصلاً، وإطلاق المصنف بقوله:(والفيل طاهر) في حق غير الأكل، فافهم.
قوله: (وكل إهاب دبغ طهر) لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" رواه مسلم ولفظه "إذا دبغ الإهاب فقد طهر".
وقوله: (كل إهاب) يتناول جميع جلد يحتمل الدباغ، وأما ما لا يحتمله مثل جلد الحية الصغيرة.
والفأرة: لا يطهر بالدباغ كاللحم. وعند محمد: لو أصلح مصارين الشاة الميتة، أو دبغ المثانة: طهرت، وقال أبو يوسف: هي كاللحم.
والدباغة حقيقية: كالدباغة بشيء له قيمة: كالعفص والقرظ والشث. وحكمية: كالتشميس والتتريب والإلقاء في الريح، فبعد الدباغة: يحكم بطهارته، وجوز الصلاة عليه، وشرب الماء فيه، في الفصلين جميعاً.
خلافاً للشافعي في الفصل الأخير.
قوله: (إلا جلد الخنزير لنجاسته، وجلد الآدمي لكرامته) وإنما قدم الخنزير على الآدمي: لأن الموضع موضع عدم الطهارة، فكان تأخير الإنسان أولى فافهم. قوله:(وسؤر الآدمي طاهر) لأن المسئر طاهر، ولا فرق بين الطاهر والجنب، والحائض والنفساء، والصغير والكبير، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى. والسؤر: بقية الماء الذي يبقيها الشارب. قوله: (إلا حال شرب الخمر) يعني في حال شرب الخمر: سؤره
نجس، لأن الخمر نجس، فيلاقي الماء فينجسه، فإن بلع ريقه ثلاث مرات: طهر فمه عند أبي حنيفة رضي الله عنه، لأن المائع غير الماء: مطهر عنده من غير اشتراط صب عنده، وكفى لشارب الخمر إهانة وذلاً: أن يكون سؤره حال شرب الخمر كسؤر الخنزير والكلب.
قوله: (وسؤر الفرس وما يؤكل لحمه طاهر) لأن المسئر طاهر، وحرمة الفرس لكونه آلة للجهاد، لا لنجاسته كالآدمي، ألا يرى أن لبنه حلال بالإجماع؟ وإنما أفرد الفرس بالذكر: لأنه غير داخل فيما يؤكل لحمه على قول أبي حنيفة، وإن كان طاهراً عنده أيضاً، ولكنه غير مكول، لأن الطهارة لا تستلزم الأكل، كالآدمي والطين.
قوله: (وسؤر الخنزير والكلب وسباع البهائم: نجس) لأن المسئر نجس، وعند مالك: سؤر الخنزير والكلب طاهر، وعند الشافعي: سؤر سباع البهائم طاهر.
قوله: (وسؤر الهرة
…
إلى آخره) أما سؤر الهرة: فمكروه عند أبي حنيفة ومحمد، والقياس أن يكون نجساً، لأن المسئر نجس، ولكنه سقطت النجاسة بعلة الطواف، وبقيت الكراهة، وعند أبي يوسف: لا يكره، وأما سؤر الدجاجة المخلاة: فلعدم تحاميها من النجاسة، حتى لو كانت محبوسة في مكان طاهر بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت رجلها: لا يكره، وكذلك الإبل الجلالة والبقر الجلالة، وأما سؤر الحية والعقرب والفأرة: فالأصل فيه أن يكون نجساً، لكنها من الطوافات، فسقط التنجيس للحرج، وبقيت الكراهة.
وأما سؤر سباع الطير: مثل الحدأة والبازي والصقر ونحوها: فالقياس تنجسه، اعتباراً بلحمها، ولكن الاستحسان طهره لشربها بمنقارها، وهو عظم لا يحتمل النجاسة كالسيف، وإذا ثبت طهارته: كره، لأنها لا تتحامى من النجاسة.
قوله: (وسؤر البغل والحمار: مشكوك في طهوريته) وسبب الشك: تعارض الخبرين في إباحة لحم الحمار، وحرمته، ومعنى الشك: التوقف فيه، فلا يطهر النجس ولا ينجس الطاهر.
وأما البغل: فهو متولد من الحمار فيكون مثله، وقيل: الشك في طهارته، وروى الكرخي عن أصحابنا: أن سؤرهما نجس.
فإن قلت: القاعدة في تعارض الخبرين: اللذين أحدهما محرم والآخر مبيح: أن يغلب المحرم على المبيح، ولم يغلب المحرم على المبيح ها هنا؟
قلت: نعم لكن لم يفعل ها هنا مثل ذلك للضرورة، لما أن الحمير تربط في الأفنية، ويحتاج إليها للركوب والحمل، وتشرب في الآنية.
فإن قلت: كيف يطلق الشك على حكم من أحكام الشرع، والشارع لا يخفى عليه شيء؟
قلت: هذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى الشارع فالأشياء كلها مبينة لا شك فيها ولا خفاء. وأما لبن الحمار: فقد نص أنه طاهر، وفي شرح الجامع الصغير لفخر الإسلام: أن لبن الأتان طاهر ولا يؤكل، وفي ظاهر الرواية: أن لبنها نجس.
قوله: (فإن لم يجد غيره) أي غير سؤر البغل والحمار (يتوضأ به ويتيمم) ليخرج عن العهدة بيقين، وأيهما قدم جاز.
وقال زفر: لابد أن يتوضأ أولاً، ثم يتيمم، ليكون عادماً للماء حقيقة.
قلنا: المقصود دخول الطهارة بيقين، فيجب الجمع دون الترتيب والله أعلم.