المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌فصل في الميت

‌فصل في الميت

لما بين حالة الإنسان في حياته، أخذ في بيان حالته في مماته، وحالته لا تخلو عنهما.

قوله: (بوجه المحتضر) أي الذي احتضر للموت (إلى القبلة على شقه الأيمن) أي جانبه الأيمن، اعتباراً بحالة الوضع في القبر، واختار المتأخرون: الاستلقاء، لأنه أيسر لخروج الروح.

قوله: (ويذكر عنده الشهادة) وهي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لقوله عليه السلام:"لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.

والمراد به من قرب إلى الموت، حتى لا يلقن بعد الدفن كما هو مذهب الشافعي.

قوله: (ولا يؤمر بها) أي بالشهادة، احترازاً عن أن يقول: لا أقول.

قوله: (فإذا مات: غسل وكفن وصلي عليه) أما الغسل: فلأن الملائكة عليه السلام غسلوا آدم عليه السلام وقالوا لولده: "هذه سنة موتاكم".

ص: 208

وغُسِّل النبي صلى الله عليه وسلم حين مات، وفعله المسلمون بعده.

وأما التكفين: فلما روت عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية" رواه البخاري ومسلم.

وأما الصلاة عليه: فما روي عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمسلم على المسلم أربع خلال: تشميته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشهده إذا مات، ويعوده إذا مرض" رواه ابن ماجة.

تفريع: كيفية الغسل: أن يوضع الميت على سرير مجمر وتراً.

أما السرير: فلينصب ماء الغسل منه، وأما التجمير: فللتعظيم، وأما الإيتار: فلقوله عليه السلام: "إن الله وتر يحب الوتر" رواه أبو داود.

ص: 209

ويغلى الماء بسدر لزيادة التنظيف، وإن لم يوجد: فالقراح، ويعرى غير عورته، وقال الشافعي: يغسل في ثيابه. ولا يمضمض ولا يستنشق، وقال الشافعي: يستحب ذلك. وكذلك لا يسرح رأسه ولحيته، ولا يقص شاربه وظفره، خلافاً للشافعي. ولا يختن. ثم ينشف بخرقة، ثم يلف في الكفن، ويجعل على رأسه ولحيته حنوط- لأن التطييب سنة- والحنوط: عطر مركب من أنواع الطيب، وعلى مساجده: كافور، وهي الجبهة والأنف واليدان والركبتان والقدمان.

وكيفية التكفين: أن يُكفن الرجل في ثلاثة أثواب: قميص وإزار ولفافة، يبسط اللفافة ثم الإزار فوقها، ثم يقمص ويوضع على الأرض، والقميص من المنكب إلى القدم والإزار واللفافة، وقال الشافعي: كلها لفائف ولا قميص فيها.

هذا الكفن السنة، لما روينا، وكفن الكفاية: أن يقتصر على الإزار واللفافة، وكفن الضرورة: ما يوجد.

وأما كفن السنة في حق المرأة: فهو خمسة أثواب: إزار ولفافة ودرع وخمار

ص: 210

وخرقة تربط بها ثدياها فوق الأكفان عند الصدر تحت اللفافة، وكفن الكفاية: ثوبان وخمار.

والمراهق كالبالغ، وغير المراهق يكفن في خرقتين: إزار ورداء، وإن كفن في ثوب واحد: أجزأه.

وكيفية الصلاة: أربع تكبيرات من غير رفع اليد في غير الأولى، خلافاً للشافعي، يحمد الله في الأولى، ويصلي على النبي في الثانية، ويدعو له وللميت وللمسلمين في الثالثة، ويسلم في الرابعة.

وأولى الناس بالصلاة: السلطان إن حضر، وإلا فنائبه، وإلا فإمام المصر، وإلا فالقاضي، وإلا فصاحب الشرط، وإلا فخليفة الوالي، وإلا فخليفة القاضي، وإلا فإمام الحي، وإلا فالأقرب من ذوي قرابته على ترتيب العصبات: البنوة ثم الأبوة ثم الأخوة ثم العمومة، وعند الشافعي: الولي يقدم على الوالي.

قوله: (وإن لم يصل عليه: صلي على قبره، ما لم يغلب على الظن تفسخه) إقامة للواجب بقدر الإمكان.

والمعتبر في التفسخ: غالب الظن، فإن كان غالب الظن أنه يفسخ: لا يصلى عليه، وإن كان غالب الظن أنه لم يتفسخ: يصلى عليه، وإذا شك: لا يصلى عليه، وهذا الاعتبار هو الصحيح.

قوله: (ومن استهل) الاستهلال من الصبي: ما يدل على حياته من بكاء أو تحريك يد ورجل، وأن يطرف بعينه.

قوله: (غسل وصُلي عليه) لقوله عليه السلام: "إذا استهل الصبي صُلي عليه وورث" رواه ابن ماجة.

ص: 211

قوله: (وإن لم يستهل: غسل ولف في خرقة ولم يصل عليه) قيل: لا يغسل، لأنه في حكم الجزء، والمختار: أنه يغسل، لأنه نفس من وجه، وجزء من وجه، فيغسل اعتباراً بالنفوس، ولف في خرقة تكريماً لبني آدم، ولا يصلى عليه لما روينا.

قوله: (ولا يصلى على باغ وقاطع الطريق) اقتداء بفعل علي رضي الله عنه في ترك الصلاة على البغاة، وقطاع الطرق في معناهم، وقال الشافعي: يصلى عليهم.

وكذلك لا يصلى على قاتل نفسه في رواية عن أبي يوسف، لما روي عن جابر بن سمرة قال:"أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه" رواه مسلم.

قوله: (والمشي خلف الجنازة أفضل) لقوله عليه السلام: "الجنازة متبوعة وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها" رواه ابن ماجة.

وقال الشافعي: المشي أمامها أفضل.

ص: 212

قوله: (ويطيل الصمت) يعني عند المشي مع الجنازة، لأن هذه الحالة حالة الاعتبار.

قوله: (ويكره رفع الصوت بالذكر) يعني مع الجنازة، لأنه بدعة محدثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (فإذا وصلوا إلى قبره كره الجلوس قبل وضعه) أي وضع الميت عن رقاب الناس، لإمكان الحاجة إلى التعاون في الوضع.

قوله: (ويحفر القبر لحداً) لقوله عليه السلام: "اللحد لنا والشق لغيرنا" رواه أبو داود وابن ماجة.

وقال عليه السلام: "احفروا ووسعوا وأحسنوا" رواه ابن ماجة. واختلفوا في عمقه: قيل: قدر نصف القامة، وقيل: إلى الصدر، وإن زادوا فحسن.

قوله: (ويدخل الميت فيه من جهة القبلة) لأنه عليه السلام أخذ أبا دجانة من قبل القبلة.

وعند الشافعي: يسبل، وهو أن توضع الجنازة على آخر القبر حتى يكون رأسه بإزاء موضع قدمه من القبر، ثم يسل من جنازته إلى قبره.

ص: 213

قوله: (ويضجع على شقه الأيمن موجهاً إليها) أي إلى القبلة، هكذا جرت السنة.

قوله: (ويكره البناء على القبر) لأن القبر للبلى لا للبناء، ولما روي عنه عليه السلام أنه:"نهى عن تجصيص القبور" رواه ابن ماجة.

قوله: (ولا يدفن في قبر أكثر من واحد) لعدم ورود الأثر بذلك (إلا للضرورة) لأنها مستثناة.

قوله: (واتخاذ التابوت للمرأة حسن) لأنها أستر لها، ولا يتخذ للرجال، إلا أن تكون الأرض رخوة.

قوله: (والشهيد) لما بين أحكام الموتى، أخذ في بيان الشهداء.

(والشهيد: كل مسلم قتله كافر أو مسلم ظلماً قتلاً لم يجب به مال) قيد بقوله: (ظلماً) لأنه إذا قتله مسلم حقاً، مثل ما إذا قتل رجماً أو قوداً: لا يكون شهيداً.

والشرط فيه: أن يكون القاتل معلوماً، فوجب عليه القصاص، مثل من قتله قطاع الطريق، أو البغاة، أو قتل دون نفسه أو أهله أو ماله، أو قتل مدافعاً عن مسلم أو ذمي. أما إذا لم يكن القاتل معلوماً، فوجد القتيل في محلة تجب فيه الدية والقسامة: فلا

ص: 214

يكون شهيداً. وقيد بقوله: (لم يجب به مال) لأنه إذا وجب به مال: لا يكون شهيداً. إلا في قتل الوالد ولده عمداً، فإن القصاص فيه ساقط لحرمة الأبوة، ويجب المال، والولد شهيد.

قوله: (فلا يغسل دمه ولا ينزع عنه ثيابه) لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم" رواه أبو داود.

قوله: (وينزع كل ما عليه من غير جنس الكفن) كالفرو والحشو والقلنسوة والخف والسلاح، لأنها ليست من جنس الكفن.

قوله: (ويكمل كفنه) يعني إن كان ما عليه أقل من الكفن الشرعي، وينقص أيضاً إن كان زيادة على سنة الكفن.

قوله: (ثم يصلى عليه) لما روي عن عقبة بن عامر قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين" رواه البخاري.

وقال الشافعي: لا يصلى عليه.

فإن قلت: الشهيد وصف بأنه حي بالنص، والصلاة شرعت على الميت لا على الحي؟

قلت: الشهيد حي في أحكام الآخرة، فأما في أحكام الدنيا: فهو ميت، حتى يقسم ميراثه، وتتزوج امرأته، والصلاة عليه من أحكام الدنيا.

ص: 215

فإن قلت: ما شرعت إلا بعد الغسل، فسقوطه دليل على سقوطها.

قلت: غسله ليطهره، والشهادة طهرته، فأغنت عن الغسل، كسائر الموتى بعد ما غسلوا.

قوله: (وكل جريح أكل أو شرب) إلى آخره، بيان الارتثاث الذي يخرج به الميت عن حكم الشهادة: وهو أن يأكل طعاماً أو يشرب ماءً أو دواءً، أو ينام أو يعالج بدواء أوي ضمه سقف، بأن نقل إلى تحت بيت أو خيمة، أو ينقل من المعركة حياً، أو يمر عليه وقت صلاة وهو حي يعقل، أو يوصي بأمر دنياوي: فهذه الأشياء تسقط الشهادة، فيغسل، لأنه نال بها مرافق الحياة، فخف أثر الظلم، فلم يكن في معنى شهداء أحد.

وقيد بقوله: (لا لخوف وطء الخيل) لأنه إذا نقل من المعركة حياً لأجل خوف أن تطأه الخيل، لا يخرج عن كونه شهيداً، فلا يغسل، قالوا: لأنه ما نال به مرافق الحياة.

قلت: فيه نظر، لأنا لا نسلم أن الحمل من المصرع ليس بنيل راحة.

قوله: (أو مر عليه وقت صلاة وهي حي يعقل) قول أبي يوسف، وعنه: إن عاش بعد الجرح أكثر اليوم أو أكثر الليلة: يغسل، إقامة للأكثر مقام الكل.

قوله: (أو أوصى بأمر دنياوي) احتراز عما إذا أوصى بأمر أخراوي، فإنه لا يخرجه عن الشهادة، فلا يغسل.

ثم المرتث إذا غسل: فله ثواب الشهيد، كالغريق والحريق والمبطون والغريب، فإنهم يغسلون، وهم شهداء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بالصواب.

ص: 216