المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الكسب والأدب - منحة السلوك في شرح تحفة الملوك

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌كتاب الكسب والأدب

‌كتاب الكسب والأدب

أقول: هذا عاشر الأبواب العشرة التي رتبها المصنف، والذي يختم به هذا الكتاب. والكسب: مصدر من كسب يكسب، وهو: اسم لعمل يجر العامل إلى نفسه نفعاً، أو يدفع عن نفسه ضراً عاجلاً أم آجلاً، فإن عمل للأجرة: يسمى كسباً، لما فيه من جلب منفعة أو دفع مضرة آجلاً.

والسنة إنما تسمى كسباً: لأن فاعلها يجر إلى نفسه منفعة عاجلة أو يدفع عن نفسه مضرة حالة.

والأدب: التخلق بالأخلاق الحميدة والخصال المرضية.

قوله: (طلب الكسب لازم) أما شرعية الكسب: فبقوله تعالى: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] يعني بالتجارة: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة: 267] أي بالزراعة. وقوله عليه السلام: "الحرفة أمان من الفقر" ولأن في ترك الكسب تعطلاً وتبطلاً، وأنه مذموم شرعاً، لقوله عليه السلام:"إن الله يبغض الصحيح الفارغ". وأما لزومه: فلأنه سبب إلى إقامة ما هو فرض، وهو قوته، وقوت عائلته، وقضاء دينه، لما يجيء الآن.

قوله: (كطلب العلم) أي كما أن طلب العلم لازم، لقوله عليه السلام:"طلب العلم فريضة على كل مسلم" رواه ابن ماجة.

ص: 465

قوله: (وهو) أي طلب الكسب (أنواع أربعة):

قوله: (فرض) أي أحدها: فرض (وهو كسب أقل الكفاية) لنفسه وعياله وقضاء دينه، لأنه سبب يتوصل به إلى إقامة الفروض، فيكون فرضاً، ألا ترى إلى ما جاء من وعيد شديد في الدين، وهو قوله عليه السلام:"إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها: أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء" رواه أبو داود.

وأن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، لقوله عليه السلام:"إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" رواه الترمذي والنسائي.

قوله: (ومستحب) أي الثاني: مستحب (وهو كسب الزايد على أقل الكفاية) ليواسي به فقيراً، أو يصل به قريباً، لأنه سبب يتوصل به إلى إقامة ما هو مستحب، فيكون مستحباً، لقوله عليه السلام:"الساعي على الأرملة والمسكين: كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يقوم الليل ويصوم النهار"، وقوله عليه السلام:"الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي القرابة اثنان: صلة وصدقة" رواهما ابن ماجة.

قوله: (وهو) أي الكسب المستحب (أفضل من نفل العبادة) لأن منفعة العبادة تخصه، ومنفعة الكسب يتعدى إلى غيره، وقد قال عليه السلام:"خير الناس من ينفع الناس"

ص: 466

وقال عليه السلام: "تباهت العبادات، فقالت الصدقة: أنا أفضلها".

قوله: (ومباح) أي القسم الثالث: مباح (وهو كسب الزايد على ذلك) أي على ما يواسي به الفقير، ويصل به القريب، للتنعم والتجمل والترفه، حتى يبنى البنيان، وينقش الحيطان ويشتري السراير والغلمان، لقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]. وقوله عليه السلام: "المال الصالح للرجل الصالح".

وقيل: هذا مكروه، لأنه ربما يكون سبباً للطغيان والعصيان والتكاثر والتفاخر، وذلك حرام شرعاً.

قوله: (وحرام) أي القسم الرابع: حرام (وهو كسب ما أمكن) للتفاخر والتكاثر والأشر والبطر، وإن كان من حل، لأنه سبب يتوصل به إلى إقامة ما هو مكروه فيكون مكروهاً.

قوله: (وأفضل الكسب: الجهاد) لأن منفعته عامة، لما فيه من الاستغنام من حل، ودفع شر الكفرة، وإطفاء نارهم عن المسلمين (ثم التجارة) لأن منفعة التاجر تحدث كل ساعة وتتكرر كل وقت، فيحصل بها كفايته الوقتية، فكانت أعم نفعاً، فتكون

ص: 467

أفضل من الزراعة، لأن منفعة الزراعة تكون في الأحيان مرة (ثم الزراعة) لأنها سعي لقوما الأبدان المحترمة، فإن قوامها بالمطعوم والملبوس، وذا: إنما يحصل بالزراعة، لأنها سبب أيضاً من الأسباب.

قوله: (والعلم أيضاً أنواع أربعة: فرض) أي النوع الأول فرض (وهو تعلم ما يحتاج إليه لأداء الفرائض) فإنه لا تتهيأ إقامة الفرائض إلا بعد العلم بصحتها وفسادها، فيكون فرضاً: كالطهارة، والسعي إلى الجمعة، ولمعرفة الحلال والحرام في أحوال نفسه، فإنه إذا لم يميز الحلال من الحرام: ربما يقع في الحرام.

قوله: (ومستحب) أي الثاني: مستحب (وهو تعلم الزائد على ما يحتاج إليه ليعلمه من يحتاج إليه) لقوله عليه السلام: "أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علماً ثم يعلمه أخاه المسلم" رواه ابن ماجة.

ولذلك صار هذا القسم أفضل من نفل العبادة.

قوله: (ومباح) أي الثالث: مباح (وهو تعلم الزائد على ذلك للزينة والكمال) لأن بذلك تحصل الكمالات الإنسانية، وشدة المعرفة بكلام الله وكلام رسوله: الدالين على ذاته وصفاته.

قوله: (وحرام) أي الرابع: حرام (وهو أن يتعلم ليباهي به العلماء ويماري به السفهاء) لقوله عليه السلام: "من طلب العلم ليماري به السفهاء وليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه: فهو في النار" رواه ابن ماجة وقال عليه السلام: "من تعلم علماً ممن يبتغي به

ص: 468

وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا: لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها، رواه أبو داود.

قوله: (ويجب على العالم تعليم غيره إذا طلب منه) لقوله عليه السلام: "ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه: إلا أتى يوم القيامة ملجماً بلجام من نار" رواه ابن ماجة. وفي رواية أبي داود: "من سئل عن علم فكتمه: ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".

قوله: (إلا أن يبلغ) أي المتعلم (إلى المرتبة الأولى) وهو التعلم بقدر ما يحتاج إليه: لأداء الفرائض، ومعرفة الحلال والحرام، ولا يجب عليه أكثر من ذلك.

قوله: (ولا يجب على العالم أن يجيب عن كل ما يسأل عنه) لأن الفتوى والتعلم فرض كفاية، فإذا قام به البعض يسقط عن الباقين، حتى إذا علم أن ما يسأل عنه لا يعلمه غيره: يجب عليه الجواب، لأنه حينئذ يكون فرض عين لتعينه لذلك.

قوله: (ولو طلب كافر من مسلم أن يعلمه القرآن أو الفقه: فلا بأس به) أي بالتعليم (رجاء أن يطلع على محاسنه فيسلم) لأن النبي عليه السلام: كان يقرأ القرآن على المشركين رجاء أن يقفوا على كونه معجزاً فيؤمنوا.

هذه المسألة ذكرها محمد في السير الكبير.

ص: 469