المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل هذا الفصل آخر الكتاب الذي يختم به قوله: (ويحرم التسبيح والتكبير - منحة السلوك في شرح تحفة الملوك

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ ‌فصل هذا الفصل آخر الكتاب الذي يختم به قوله: (ويحرم التسبيح والتكبير

‌فصل

هذا الفصل آخر الكتاب الذي يختم به

قوله: (ويحرم التسبيح والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند عمل محرم) كما إذا سبح أو كبر أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس الفسق أو اللهو، على أنه يعمل عمل الفسق: فهو حرام يأثم فيه، وكذلك التاجر إذا فتح متاعه لمشتريه، وسبح الله تعالى، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد بذلك إعلام المشتري جودة متاعه، وكذلك الفقاعي يقول عند فتح كوز الفقاع: لا إله إلا الله، أو يقول: صل على النبي، أو يقول: صلى الله على محمد، لأنه يأخذ بذلك ثمناً ويرغب المشترين.

قوله: (ولو أمر العالم بذلك) أي بالتسبيح أو التكبير أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (أهل مجلسه عند الوعظ والتذكير، أو أمر الغازي عند المبارزة: حل) لأنه يذكر للتفخيم والتعظيم.

قوله: (والتسبيح في مجلس الفسق بنية مخالفتهم) بأن يكون على وجه الاعتبار، أو على أنهم يشتغلون بالفسق وهو يشتغل بالتسبيح.

(وفي السوق بنية تجارة الآخرة) بأن يكون نيته أن الناس يشتغلون بأمور الدنيا، وهو يشتغل بالتسبيح (حسن) وبذلك يؤجر عليه.

قوله: (وهو) أي التسبيح في السوق بنية تجارة الآخرة (أفضل من التسبيح في غير السوق) أراد به من التسبيح مرة واحدة، أو بسبب أنه ينوي بذلك تجارة الآخرة.

قوله: (والترجيع في قراءة القرآن: حرام في المختار، على القاري والسامع) لأن فيه تشبيهاً بفعل الفسقة في حال فسقهم، وهو التغني، وليس هذا كان في الابتداء، وقيل: لا بأس، لقوله عليه السلام:"ليس منا من لم يتغن بالقرآن".

ص: 486

قوله: (وكذا في الأذان) أي وكذا الترجيع في الأذان: حرام على المؤذن والسامع، لأنه محدث.

قوله: (وكره أبو حنيفة قراءة القرآن عند القبور، وقال محمد: لا يكره وينتفع به الميت) وهذا هو المختار: لورد الآثار بقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص،

ص: 487

والفاتحة، ونحو ذلك عند القبور، ولا يكره التسبيح والتهليل ونحوهما أيضاً.

أما زيارة القبور: فهي جائزة، لقوله عليه السلام:"نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم وأبو داود.

ويقول الزائر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" أخرجه أبو داود.

وعن ابن عباس: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور أهل المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، ويغفر الله لنا ولكم، أنتم لنا سلف ونحن بالأثر" أخرجه مسلم والنسائي.

ويكره الجلوس على القبر، لقوله عليه السلام:"لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها" أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي.

ص: 488

وقال عليه السلام: "لأن يجلس أحدكم على جمر فيحرق ثيابه فيخلص إلى جلده: خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.

قوله: (ويجب منع الصوفية الذين يدعون الوجد والمحبة: عن رفع الصوت وتمزيق الثياب عند سماع الغناء لأن ذلك) أي رفع الصوت وتمزيق الثياب (حرام عند سماع القرآن، فكيف عند الغناء الذي هو حرام) خصوصاً في هذا الزمان الذي اشتهر فيه الفسق، وظهرت فيه أنواع البدع، واشتهرت فيه طائفة تحلوا بحلية العلماء، وتزيوا بزي الصلحاء، والحال أن قلوبهم مليء من الشهوات والأهواء الفاسدة، وهم في الحقيقة ذياب نعوذ بالله من شرهم.

فالعجب منهم نهم يدعون محبة الله، ويخالفون سنة رسوله، لأنهم يصفقون بأيديهم، ويطربون وينعرون ويصعقون، وكل ذلك جهل منهم، فمن ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله: فهو كذاب.

وكتاب الله يكذبه، فلا شك في أنهم لا يعرفون ما الله ولا يدرون ما محبة الله، وهم قد يصورون في أنفسهم الخبيثة صورة معشقة وخيالاً فاسداً، فيظهرون بذلك وجداً عظيماً، وبكاءً جسيماً، وحركات مختلفة، وبعبعة عظيمة، والأزباد تنزل من أفواههم، حتى أن الجهال والحمقى من العامة يعتقدونهم ويلازمونهم، وينسبون أنفسهم إليهم، ويتركون شريعة الله وسنة رسوله.

فما هم إلا في الدعاوى الفاسدة، والأقوال الكاسدة، أعاذنا الله وإياكم من شر هؤلاء الطائفة، ومن شر الجنة والناس.

قوله: (اعلم أيها الأخ العزيز) أقول: لما ختم المصنف الكتاب الذي وعده لبعض إخوانه في الدين، نبه على نصيحة عظيمة بقوله:(وفقك الله وإيانا .. إلى آخره) وتوفيق الله لعباده: أن يجعل جميع أقوالهم وأفعالهم موافقة لمحبته ورضاه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ويرشدهم إلى منهج قويم.

ومفعول "اعلم": قوله: "إن سعادة الدنيا فانية) وكلمة "إن" باسمها وخبرها قد

ص: 489

سدت مسد مفعولي "اعلم" وقوله: "وفقك الله .. إلى آخره) جملة دعائية معترضة، ولا شك أن سعادة الدنيا فانية، لأنا نعلم بعين اليقين فناء الخلق وتغيرات الزمان، ونعلم بعلم اليقين: أن سعادة الآخرة باقية، لما أن الله تعالى أخبر في كتابه الكريم في مواضع كثيرة: بأن عز الآخر وسعادتها باقية.

والعجب من العاقل كيف يختار الدنيا الفانية على الآخرة الباقية؟ مع أنها ملعونة في لسان الشارع، وهو قوله عليه السلام:"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً" رواه ابن ماجة.

ولكن الحرص المركب من الشهوة والهوى جذبه إلى ذلك وأحبه إياها، ولو كانت دار الدنيا في الحقيقة من ذهب، ودار الآخرة من خزف، لكنا العاقل يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف فاني والآخرة ذهب باقي.

وقوله: (وسعادة الآخرة) جواب عن سؤال مقدر، فإنه لما قال أولاً:(وسعادة الآخرة باقية) فكأن السائل يقول: بأي شيء تحصل سعادة الآخرة؟ فقال: (وسعادة الآخرة إنما تحصل بتقوى الله) والتقوى: اجتناب محارم الله تعالى، (وهي) أي التقوى:(وصية الله تعالى لجميع الأمم) كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]، أي ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتقوا الله، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لستم بها مخصوصين، لأنهم بالتقوى يسعدون عنده وبها ينالون النجاة في العاقبة.

والتقوى أصل الخير كله، فعليك أيها الأخ بالتقوى والاستعداد للقاء الله عز وجل ونعيم الآخرة، والاستعداد إلى لقاء الله تعالى يكون بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وبذكر الموت والاستعداد له، قال عليه السلام:"أكثروا ذكر هادم اللذات" يعني الموت.

ص: 490

وقال عليه السلام: "من احب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". فقيل: يا رسول الله كراهية لقاء الله في كراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال:"إنما ذلك عند موته إذا بشر برحمة الله تعالى ومغفرته: أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإذا بشر بعذاب الله: كره لقاء الله فكره الله لقاءه".

وقال عليه السلام: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها ثم تمنى على الله عز وجل" الأحاديث رواها ابن ماجة.

والمصنف كما بدأ كتابه بجزء من القرآن الكريم، ختم كذلك بجزء من القرآن الكريم تبركاً في الابتداء والانتهاء، إذ ليس شيء أفضل مما يتبرك به سوى القرآن، فإنه كلام من جلت قدرته وعظمت هيبته، وتنزه عن الحدوث والزوال، وتقدس عن الشريك والأمثال، وتفرد بالبقاء، وتعالى عن الفناء، وهو مولانا ونعم النصير وهو على كل شيء قدير.

قال مصنفه: وهذا آخر ما كتبناه من شرح الكتاب، بعون الله الملك الوهاب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

ووافق الفراغ منه في نهار الأربعاء سلخ شهر ذي القعدة الحرام عام ثمان وأربعين وثمانمائة.

ص: 491