الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول مدخل إلى التفسير قبل عهد التابعين
شاء الله تعالى أن يكون كل رسول من الجماعة التي يرسل إليها، مصداق ذلك قوله تعالى:(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) (1).
وبالتالي، فكانت الرسالات والكتب السماوية بلغة الأقوام التي أرسلت إليها، وذلك كي يفهمها الناس ويفقهون مراد الله منها، قال تعالى:(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2).
والإعجاز في المسألة أن الله تعالى جعل معجزة كل نبي من الأنبياء تتحدى ما اشتهر به قومه، مثال ذلك:
أن معجزة موسى عليه السلام كانت تدور في فلك السحر، حيث كان قومه مشهورين به
…
يتباهون بالتفنّن به.
أما معجزة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم فهي المعجزة الخالدة الباقية إلى يوم الدّين، حيث كان العرب قد أبدعوا في مجالات الشعر والأدب ..
فتحدّاهم الله تعالى بالقرآن، لذلك وقفوا أمام فصاحته وبلاغته بكل
(1) الإسراء: 94 - 95.
(2)
إبراهيم: 4.
خشوع، مثال ذلك ما حدث مع الوليد بن المغيرة:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له.
فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم! إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لم؟
قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له.
قال: فماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده منّي، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وو الله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (1)، وإنه لمثمر أعلاه مغدق (2) أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال: دعني حتى أفكّر، فلما فكّر قال: هذا سحر يؤثر يأثره (3) عن غيره.
فأنزل الله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَ
(1) أي: الحسن والرّونق.
(2)
أغدقت الأرض: أخصبت.
(3)
أثر الحديث: نقله ورواه عن غيره.
عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (1).
لذلك وعلى الرغم من قوة العرب البلاغية وفصاحتهم و
…
، فقد عجزوا أمام فصاحة وبلاغة كتاب الله تعالى.
وما كان من الكثيرين منهم إلا أن أعلنوا إسلامهم .. وساروا في موكب الدعوة إلى الله تعالى فتذوقوا بيان القرآن، وفهموا مراميه ومقاصده.
إلا أنهم كانوا يعودون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستفسروا عن بعض دلالات الآيات.
وكما هو معلوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بأسرار القرآن، ومن وظائفه ومهامه تبليغ وبيان ما في القرآن (2).
لكنه صلوات الله عليه لم يفسر القرآن كله، إنما فسّر بما يزيل الشبهات ويوضح المعاني.
وقد جمعت الأحاديث النبوية التي تدور في فلك التفسير- وهي قليلة- فما فهمه الصحابة الكرام من القرآن فقد ساروا عليه، ولكن
(1) المدثر: 11 - 25، وتفصيلات القصة في سيرة ابن هشام: 1/ 283، مستدرك الحاكم: 2/ 506، دلائل البيهقي: 2/ 200.
(2)
مثال ذلك قوله تعالى: (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: 44].
ومثاله قوله سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105].
إذا: من المهمّات الأساسية للنبي صلى الله عليه وسلم تفسير الأمور المشتبهة، مصداق ذلك قوله تعالى:(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 151].
بعضهم لم يفهم بعض القضايا التي وردت في القرآن، ولم يسألوا عنها.
ثم كان عهد الصحابة الأكارم، فساروا على النهج ذاته.
حيث اتفقوا على أن أفضل ما يفسّر القرآن هو القرآن، قال الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه:( .. إن أصح الطرق في ذلك- أي في تفسير القرآن- أن يفسّر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر .. )(1).
مثل ذلك قوله تعالى: (* وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)(2) فسرتها الآية التالية: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(3).
مثال آخر قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ)(4).
جاء تفسير المحرمات على اليهود في موضع آخر، وذلك في قوله تعالى:(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(5).
ثم إن الصحابة الكرام اعتبروا أن خير ما يفسر القرآن بعد القرآن هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فتناقلوا كل ما ورد عنه من تفسير وبيان لبعض آيات القرآن.
(1) مقدمة في أصول التفسير: 93.
(2)
الأنعام: 59.
(3)
لقمان: 34.
(4)
النحل: 118.
(5)
الأنعام: 146.
مثال ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت الآية:
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(1) شق ذلك على الصحابة، فقالوا: يا رسول الله؟ وأينا لا يظلم نفسه؟ قال:
ومثاله ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قلت: أليس يقول الله تعالى: (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)(4)؟
قال: «ليس ذاك الحساب، وإنما ذاك العرض» (5).
ومثاله: ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ (6)«ألا وإن القوة الرمي، ألا وإن القوة الرمي، إلا وإن القوة الرمي» (7).
ولكن بعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، نشأ في الإسلام جيل من أبناء الصحابة وغيرهم من العرب لم يحضروا نزول الوحي، ولم يتعرفوا على أسباب النزول، ودخل عدد كبير من غير العرب في دين الإسلام.
كل ذلك أدى إلى ظهور الحاجة الماسّة؛ ليتصدر أعلام الصحابة لتفسير بعض الآيات التي لم يفسّرها النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) الأنعام: 82.
(2)
لقمان: 13.
(3)
سنن الترمذي: 4/ 227، مسند الإمام أحمد: 1/ 378.
(4)
الانشقاق: 8.
(5)
صحيح البخاري: 1/ 34.
(6)
الأنفال: 60.
(7)
صحيح مسلم: 6/ 52.
ولهذا نجد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يرسل كبار الصحابة إلى البلاد التي فتحها المسلمون وذلك بهدف التعليم وبنحو ذلك، مثال ذلك: إرساله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى العراق، وقد كتب رسالة إلى العراقيين، جاء فيها:( .. إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما، ووزيرا، وإنهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب بدر، وقد جعلت عبد الله بن مسعود على بيت مالكم، فتعلّموا منهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله ابن مسعود على نفسي .. )(1).
أجل!
فالصحابة الكرام عايشوا فترة تنزّل القرآن الكريم، ففهموا أسباب نزوله، حتى إن واحدا منهم، وهو عبد الله بن مسعود كان يقول:
والذي لا إله غيره ما نزلت آية من الكتاب إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تطاله المطايا لأتيته!
.. ومع كل ذلك كان ابن مسعود يوجّه الناس إلى اتباع ما كان عليه الصحابة الكرام، معللا ذلك بقوله:
«من كان منكم متأسّيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم).
وهذا ما فهمه الإمام الشافعي، حيث أكّد على أخذ الأمور الدينية مما ورد عن الصحابة الأكارم، وذلك في قوله:
( .. وهم- أي الصحابة- فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به حكم، وآراؤهم لنا أحمد
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد: 6/ 7 - 8.
وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا) (1).
لذلك اعتبر العلماء كل ما ورد عن الصحابة في التفسير- مما لا مجال للرأي فيه- في حكم الحديث المرفوع (2).
…
(1) للتوسّع يراجع: علوم الحديث لابن الصلاح: 263.
(2)
للتوسّع يراجع: نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، لابن حجر:53.