الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني تفسير (مجاهد) رحمه الله تعالى
قدّم الباحث (أحمد إسماعيل نوفل) بحثا قيما لنيل شهادة الدكتوراة، وذلك حول (مجاهد: المفسّر والتفسير)، تحدّث فيه عن شخصية مجاهد، وبيئته وعصره، وعن شخصيته العلمية، وعن شيوخه ومن روى عنهم، وعن تلاميذه والذين رووا عنه، وعن طرق الرواية عنه، وعن طريقة مجاهد في التفسير، وعن منهجه في علوم القرآن، وعن منهجه في تفسير آيات الأحكام، وآيات العقيدة، وما إلى هنا لك.
وقد عاش المفسر مجاهد حياة حافلة بالجهاد: جهاد القلم وجهاد العلم، وكان ذلك بين (21 - 104 هـ) فرحمه الله.
ولمزيد من تعميم الفائدة، ننقل بعض ما حرّره الباحث:
7 -
يردّ (مجاهد) الآيات إلى بعضها بعض، ويفسّرها بنظائرها، مثال ذلك: في تفسيره لقول الله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ)(1) قال: الظالم لنفسه: أصحاب المشأمة، والمقتصد: أصحاب اليمين، والسابق بالخيرات:
السابقون، وذلك تفسيرا لها بالآية الكريمة:(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (2).
(1) فاطر: 32.
(2)
الواقعة: 8 - 10.
8 -
وفي تفسير قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(1).
قال (مجاهد): هم الذين قال الله عز وجل فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(2).
9 -
لكن (مجاهد) يذهب في تأويل بعض الآيات مذهبا لم يسبقه أحد إليه.
مثال ذلك: عند تأويله للآيات المتعلقة بمسخ بني إسرائيل قردة خاسئين، أو قردة وخنازير، وذلك في قوله تعالى:(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(3).
وفي قوله سبحانه: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)(4).
فقد رأى (مجاهد) فيها رأيا لعلّه لم يسبق به على الإطلاق، وذلك حين قال: أن مقصد الآيات التمثيل لا حقيقة المسخ!.
قال (مجاهد): (إن المسخ لم يقع على أجسامهم بل على قلوبهم، فبقوا أناسيّ لهم نفوس القردة).
ومراد الآية على هذا عنده: (التمثيل كما مثل الذين حملوا التوراة في موضع آخر:- (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
(1) البقرة: 246.
(2)
النساء: 77.
(3)
البقرة: 65.
(4)
المائدة: 60.
أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1) - بمثل الحمار يحمل أسفارا.
10 -
ويلاحظ الباحث أن (مجاهد) يهتمّ بالتفسير العملي، فهو يلجأ في كثير من الأحيان إلى تجسيد المعنى وبتشخيصه من الواقع العملي للحياة، وذلك بهدف تقريب المعنى، وإعطاء المدلول الواقعي للنصّ القرآني.
ففي تفسيره لكلمة (الرّان) يقول:
قال تعالى: (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)(2) أي: الذنوب تحيط بالقلوب، كالحائط المبني على الشيء المحيط، كلما عمل ذنبا ارتفعت حتى تغشى القلب، حتى تكون هكذا ثم قبض يده، ثم قال: هو الرّان.
11 -
وكثيرا ما يهتمّ (مجاهد) أثناء تفسيره للآيات القرآنية بالأمور الوعظية، مثال ذلك:
عند تعليقه على قصة داود عليه السلام، يقول:(أوحى الله إلى داود: اتق، لا يأخذك الله على ذنب لا ينظر فيه إليك، فتلقاه حين تلقاه، وليست لك حجّة).
ويقول: (يبعث داود وذكر خطيئته ووجله منها في قلبه، منقوشة في كفّيه، فإذا رأى أهاويل الموقف، لم يجد منه متعوّذا ولا محرزا إلا برحمة ربه وقربه، فيشير إليه هاهنا، وأشار بيمينه إلى جنبه، فذلك قوله عز وجل: (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)(3)(4).
(1) الجمعة: 5.
(2)
البقرة: 81.
(3)
ص: 40.
(4)
حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: 3/ 292.
12 -
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)(1)
يقول: (إذا أراد أحدكم أن ينام، فليستقبل القبلة، ولينم على يمينه، وليذكر الله، وليكن آخر كلامه عند منامه: لا إله إلا الله، فإنها وفاة لا يدري لعلها تكون منيّته
…
) (2).
13 -
ومن تفسيراته الوعظية، قوله عند الآيات التي تتحدث عن قصر الأعمار وإنذارات الموت، قوله:
(ما من مرض يمرضه العبد إلا رسول ملك الموت عنده، حتى إذا كان آخر مرض أتاه ملك الموت، فقال: أتاك رسول، بعد رسول، فلم تعبأ به، وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا!!)(3).
14 -
ويهتم (مجاهد) بالأخبار الواردة في أسباب النزول، وفي ذلك فوائد جمّة، مثال ذلك:
في تفسيره لقول الله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(4).
أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير عن (مجاهد) قال: سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله هذه الآية (5).
وقال النيسابوري: عن ابن عباس، ومجاهد أن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! ما أومن بك حتى تفجر
(1) الأنعام: 60.
(2)
صفة الصفوة لابن الجوزي: 2/ 211.
(3)
حلية الأولياء: 3/ 289.
(4)
البقرة: 108.
(5)
تفسير الطبري: 2/ 491.
لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة) فأنزلت (1).
15 -
وفي تفسيره لقوله تعالى: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)(2).
قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه فأسأله عنها حتى انتهى إلى هذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
…
).
فقال ابن عباس: إن هذا الحيّ من قريش كانوا يتزوجون النساء ويتلذّذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا
يفعلون بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في ذلك (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ
…
) قال: إن شئت مقبلة، وإن شئت مدبرة، وإن شئت باركة، وإنما يعني موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت .. (3).
16 -
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)(4).
قال مجاهد: كان جماع قبائل الأنصار بطنين: الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن، حتى منّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم وألّف بينهم بالإسلام، قال: فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس، فلم يزل يذكرهما أيامهما، والعداوة التي بينهم حتى استبّا ثم اقتتلا، قال: فنادى هذا قومه، وهذا قومه،
(1) غرائب القرآن للنيسابوري: 1/ 405.
(2)
البقرة: 223.
(3)
فتح الباري شرح صحيح البخاري: 8/ 191.
(4)
آل عمران: 100.
فتخرجوا بالسلاح، وصفّ بعضهم لبعض.
قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا، ووضعوا السلاح، فأنزل الله هذه الآية (1).
17 -
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(2).
قال مجاهد وغيره: قتل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من بني سليم، وبين النبي وبين قومهما موادعة، فجاء قومهما يطلبون الدية، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وابن عوف فدخلوا على كعب بن الأشرف، وبني النضير، يستعينهم في عقلهما- في الدّية-، فقالوا: يا أبا القاسم قد آن لنا أن تأتينا وتسألنا في حاجة.
ثم قال بعضهم: إنكم لم تجدوا محمدا أقرب منه الآن، فمن يظهر البيت، فيطرح عليه صخرة، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية (3).
18 -
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(4).
قال مجاهد: عن ابن عباس قال: لما انصرف المشركون عن قتلى أحد، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى منظرا ساءه ورأى حمزة رضي الله عنه قد شقّ بطنه واصطلم- جدع- أنفه وجدعت أذناه، فقال: «لولا أن
(1) تفسير الطبري: 7/ 59.
(2)
المائدة: 11.
(3)
أسباب النزول للواحدي: 110.
(4)
النحل: 25.
يحزن النساء أو يكون سنة بعدي، لتركته حتى يبعثه الله من بطون السّباع والطيّر، ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا منهم».
ثم دعا ببردة فغطى بها وجهه، فخرجت رجلاه، فجعل على رجله شيئا من الإذخر ثم قدّمه وكبّر عليه عشرا، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلّى عليه سبعين صلاة، وكان القتلى سبعين، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى:(لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) فصبر ولم يمثّل بأحد (1).
19 -
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(2).
قال (مجاهد): جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتصدّق وأصل الرّحم ولا أصنع ذلك إلا لله سبحانه وتعالى، فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرّني ذلك وأعجب به، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا، فأنزل الله هذه الآية.
وعن (مجاهد) أيضا: قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله! أتصدّق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله وأحبّ أن يقال لي خيرا، فنزلت (3).
20 -
وفي تفسيره لقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(4).
(1) أسباب النزول للواحدي: 163.
(2)
الكهف: 110.
(3)
تفسير القرطبي: 11/ 70، الدر المنثور للسيوطي: 4/ 255.
(4)
لقمان: 34.
قال مجاهد: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلدنا جدبة محل فأخبرني متى ينزل الغيث، وأخبرني أين أموت، فأنزل الله هذه الآية، وهنّ مفاتيح الغيب (1).
…
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 11/ 70، الدر المنثور للسيوطي: 4/ 504.