الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث هل فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله
؟
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء فيه تعهّد الله بحفظه وبيانه، قال الله تعالى:(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (1).
وفي القرآن الكريم بيان واضح لإحدى وظائف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تبيين معاني القرآن الكريم، قال تعالى:(* يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)(2) وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(3).
وبالتالي فالسنة النبوية شقيقة القرآن الكريم، فما جاء مجملا في القرآن فصّلته السنّة، وما جاء عاما خصصته السنة، وما جاء مطلقا قيدته السنة، وهكذا.
فالقرآن الكريم وحي من الله تعالى، بنصّه ومعانيه، أمّا السنة فهي وحي من الله من جهة معانيها، بينما نصوصها فهي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
(1) القيامة: 17 - 19.
(2)
المائدة: 67.
(3)
النحل: 44.
يُوحى) (1) وقول رسول الله فيما رواه الإمام مسلم: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» .
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود «ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» .
ويفهم من هذا الحديث وغيره أن الله تعالى أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وأذن له في شرح ما في هذا القرآن وتفصيله، وعلق الإمام القرطبي على هذا الحديث بقوله: فقوله: «أوتيت الكتاب ومثله معه» معناه أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي من البيان مثله، أي أذن أن يبين ما في الكتاب، فيعم ويخص، ويزيد عليه، ويشرح ما في الكتاب، فيكون في وجوب العمل به ولزوم قبوله كالظاهر المتلو من القرآن.
ويحتمل وجها آخر: وهو أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أعطي من الظاهر المتلو، كما قال تعالى:(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (2).
وأما قوله: «يوشك رجل شبعان
…
إلخ» فالمقصود منه التحذير من مخالفة السنّة التي سنّها الرسول صلى الله عليه وسلم وليس لها ذكر في القرآن، كما هو مذهب الخوارج والروافض الذين تعلّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنن التي ضمنت بيان الكتاب فتحيّروا وضلّوا.
(1) النجم: 3 - 4.
(2)
النجم: 3 - 4.
روى الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضره جبريل بالسنّة التي تفسير ذلك.
وروي عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن (1).
لكن: هل فسر الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن كله؟
هناك جدل بين العلماء في هذه المسألة، وقد أراحنا الشيخ محمد حسين الذهبي في البحث عن ذلك، حيث قال:
اختلف العلماء في المقدار الذي بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن لأصحابه:
فمنهم من ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه كل معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية (2).
ومنهم من ذهب إلى القول: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبيّن لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل، وعلى رأس هؤلاء: الخويّيّ (ت: 637 هـ) والسيوطي (ت: 911 هـ)(3).
وقد استدلّ كل فريق على ما ذهب إليه بأدلة نوردها ليتضح لنا الحق، ويظهر الصواب.
- أدلة من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن كل معاني القرآن:
(1) للتوسع يراجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 38 - 39.
(2)
قال في الصفحة التاسعة من كتابه مقدمة في أصول التفسير: يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه.
(3)
قال الإمام الخويّيّ: أما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، وللتوسّع في ذلك يراجع البرهان للزركشي: 1/ 17.
وقرر السيوطي مثل ذلك بقوله: الذي صح من ذلك قليل جدا بل أصل المرفوع منه في غاية القلة. للتوسع يراجع الإتقان في علوم القرآن: 2/ 228.
أولا: قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(1).
والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه، وقد بين الرسول ألفاظه كلها، فلا بدّ أن يكون قد بيّن كل معانيه أيضا، وإلا كان مقصرا في البيان الذي كلف به من الله.
ثانيا: ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي (ت: 72 هـ-) أنه قال:
(حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا).
ولهذا كانوا يبقون مدة طويلة في حفظ السورة، وقد ذكر الإمام مالك في الموطأ: أن ابن عمر أقام على حفظ البقرة ثماني سنوات، والذي حمل الصحابة على هذا، ما جاء في كتاب الله تعالى من قوله:
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ)(2) وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(3) وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام يقصد منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، والقرآن أولى بذلك من غيره.
فهذه الآثار تدل على أن الصحابة تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم معاني القرآن كلها، كما تعلموا ألفاظه.
ثالثا: قالوا إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب
(1) النحل: 44.
(2)
ص: 29.
(3)
يوسف: 2.
أو الحساب ولا يشرحوه، فكيف بكتاب الله الذي فيه عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة؟
رابعا: ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجة عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من آخر ما نزل آية الربا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها:
وهذا يدل بالفحوى على أنه يفسر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية، لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه (1).
- أدلة من قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبيّن لأصحابه إلا القليل من معاني القرآن:
استدلّ أصحاب الرأي بما يأتي:
أولا: ما أخرجه البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسّر شيئا من القرآن إلّا آيا بعدد، علّمه إياهن جبريل (2).
ثانيا: قالوا إن بيان النبي صلى الله عليه وسلم لكل معاني القرآن متعذر ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل، ولم يأمر الله نبيّه بالتنصيص على المراد في جميع آياته لأجل أن يتفكر عباده في كتابه (3).
ثالثا: قالوا: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه كل معاني القرآن، لما كان لتخصيصه ابن عباس رضي الله عنهما بالدعاء له بقوله:«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» فائدة، لأنه يلزم من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كل معاني القرآن استواؤهم في معرفة تأويله، ولا معنى لتخصيص ابن عباس بهذا الدعاء؟ (4).
(1) للتوسّع يراجع: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 2/ 205.
(2)
للتوسّع يراجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1/ 31، تفسير الطبري: 1/ 21.
(3)
للتوسّع يراجع: الإتقان للسيوطي: 2/ 175.
(4)
للشيخ محمد متولي شعراوي في كتابه: الإسلام عقيدة وشريعة: 19 - 20 كلام رائع: (لم يفسّر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، لأنه لو فسره لكان يجب أن يفسّره بما-