الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس أسباب اختلاف المفسرين في عهد التابعين
كما هو معلوم، فالخلاف بين الصحابة في التفسير كان قليلا جدا، وذلك لرجوعهم في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وزاد الاختلاف في عهد التابعين أكثر، ويعود ذلك إلى عدة أسباب: أهمها:
1 -
أن يعبّر كل واحد من المفسّرين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدلّ على معنى في المسمّى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمّى، مثاله:
في تفسير قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(1).
قال بعضهم (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) هو اتباع القرآن، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عليّ رضي الله عنه عند الترمذي:«ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو من فوق الصراط، وداع يدعو على رأس الصراط، قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والدّاعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن» .
(1) الفاتحة 6.
ومنهم من قال: هو اتباع السنّة والجماعة، ومنهم من قال: هو طريق العبودية، ومنهم من قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقيل غير ذلك.
فهذه كلها أقوال لا منافاة بينها ولا تباين، بل كلها متفقة في الحقيقة، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، وهو طاعة الله ورسوله، وهو طريق العبودية لله، فالذات واحدة، وكلّ أشار إليها ووصفها بصفة من صفاتها.
2 -
أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحدّ المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه.
مثال ذلك ما نقل في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)(1).
فبعضهم فسّر السابق بمن يؤدي الزكاة المفروضة مع الصدقة، والمقتصد بمن يؤدّيها وحدها، والظالم بمانع الزكاة.
فكلّ من المفسرين ذكر فردا من أفراد العام على سبيل التمثيل لا الحصر، لتعريف المستمع أن الآية تتناول المذكور، ولتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يكون أسهل من التعريف بالحدّ المطابق، والعقل السليم يتفطّن للنوع بذكر مثاله، وهذا الاختلاف في ذكر المثال لا يؤدّي إلى التباين والتناقض في الأقوال، إذ من المعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيّع للواجبات والمنتهك للحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يتناول من تقرّب بالحسنات مع الواجبات.
(1) فاطر: 32.
3 -
أن يكون اللفظ محتملا للأمرين أو الأمور، وذلك إما لكونه مشتركا في اللغة، كلفظ (قَسْوَرَةٍ) الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد.
4 -
أن يعبّروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة، فإن الترادف قليل في اللغة ونادر أو معدوم في القرآن، وقلّ أن يعبّر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي إلى جميع معناه، وإنما يعبّر عنه بلفظ فيه تقريب لمعناه، فمثلا إذا قال قائل:(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً)(1).
المور: الحركة، فذلك تقريب للمعنى، لأن المور حركة خفيفة سريعة.
كذلك إذا قال: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ)(2).
أي: أعلمنا، لأن القضاء إليه في الآية أخصّ من الإعلام، فإن فيه إنزالا وإيحاء إليهم.
5 -
أن يكون في الآية الواحدة قراءتان أو قراءات، فيفسّر كل منهم على حسب قراءة مخصوصة؛ فيظن ذلك اختلافا، وليس باختلاف.
مثال ذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من طرق، في قول الله تعالى:(لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا)(3).
إن معنى سكّرت: سدّت، ومن طريق أخرى عنه: أن سكّرت بمعنى أخذت وسحرت.
ثم أخرج عن قتادة أنه قال: «من قرأ (سكّرت) مشددة، فإنما يعني سدّت، ومن قرأ (سكرت) مخففة، فإنه يعني سحرت.
ومثلها: الاختلاف الوارد عن ابن عباس وغيره في تفسير قوله
(1) الطور: 9.
(2)
الإسراء: 4.
(3)
الحجر: 15.
تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ)(1) هو هو الجماع أو الجسّ باليد؟
إذا:
ظاهر الأمر أن هناك تعارضا في تفسير التابعين، لكن الحقيقة أنه ليس إلا اختلاف عبارة، أو اختلاف تنوّع (2).
…
(1) النساء: 43.
(2)
للتوسّع يراجع: التفسير والمفسرون: 1/ 136 - 139، الإتقان: 3/ 183، مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية: 6 - 13.