الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول الفرق بين التفسير والتأويل
على الرغم من أن العرب الذين أنزل فيهم القرآن الكريم، كانوا على مستوى رفيع من التذوّق اللغوي، وذلك من خلال اهتمامهم بالشّعر والبلاغة ونحو ذلك، على الرغم من ذلك فإنما احتيج إلى شرح وتأويل للقرآن الكريم، قال الإمام السيوطي:(إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه، أما دقائق معانيه، فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر، مع سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر، كسؤالهم لما نزل قوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)(1).
فقالوا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟! ففسّره النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلّ عليه بقوله:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(2).
وكسؤال عائشة رضي الله عنها عن الحساب اليسير، فقال:«ذلك العرض» .
وكقصة عديّ بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود وغير ذلك، مما سألوا عن آحاد منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه،
(1) الأنعام: 82.
(2)
لقمان: 13.
وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلّم، فنحن أشدّ الناس احتياجا إلى التفسير، ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبل بسط الألفاظ الوجيزة، وكشف معانيها، وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض) (1).
وهكذا فمسألة تفسير القرآن وتأويله شرف كبير يؤتيه الله من شاء من خلقه، دليل ذلك قوله تعالى:(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(2).
وفسّر الحكمة حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه بقوله:
المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
ومن طريق آخر قال ابن عباس: يعني تفسير القرآن، فإنه قد قرأه البرّ والفاجر.
وزاد أبو الدرداء فقال: الحكمة هي: قراءة القرآن والفكرة فيه.
قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك أن شرف الصناعة إمّا بشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميتة، وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة الكناسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح، وإما لشدّة الحاجة إليها كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون في أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام
(1) الإتقان في علوم القرآن: 4/ 170.
(2)
البقرة: 269.
صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب، فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات.
وعلق الحافظ السيوطي على ذلك بقوله:
إذا عرف ذلك، فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث، أما من جهة الموضوع، فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، وأما من جهة الغرض، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقة التي لا تفنى، وأما من جهة شدة الحاجة، فلأن كل كمال ديني أو دنيوي، عاجلي أو آجلي، مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتابة الله تعالى (1).
واختلف العلماء في التفسير والتأويل، فمنهم من قال: إنها بمعنى واحد، ومنهم من قال: بل إنهما مختلفان في المعنى.
قال العلامة ابن منظور: (الفسر) البيان، فسر الشيء يفسر بالكسر ويفسره بالضم فسرا، وفسره: أبانه، والتفسير مثله.
ثم قال: الفسر: كشف المغطى، والتفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل (2).
وفي الاصطلاح: عرّفه العلامة الزركشي (ت: 794 هـ) بقوله: هو علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه (3).
(1) للتوسّع يراجع: الإتقان في علوم القرآن: 4/ 173.
(2)
لسان العرب: 6/ 361.
(3)
البرهان في علوم القرآن: 2/ 287.
وعرفه بعضهم بأنه: علم نزول الآيات، وشئونها، وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (1).
وأما التأويل فعرّفه ابن منظور بقوله: الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع، وأول الشيء: رجعه، وألت عن الشيء:
ارتددت، وفي الحديث الشريف:«من صام الدهر فلا صام ولا آل» أي ولا رجع إلى خير .... ثم قال: وأوّل الكلام وتأوّله: دبره وقدره، وأوله: فسّره (2).
أما عن الفرق بين التفسير والتأويل: ففي ذلك اختلاف وجهات نظر:
قال بعضهم: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية (3).
وقال الراغب الأصفهاني: التفسير أعمّ من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا.
والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها، والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل.
فالتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة
(1) الإتقان في علوم القرآن: 2/ 174.
(2)
لسان العرب: 13/ 34.
(3)
الإتقان: 2/ 173.
والوصيلة، أو في تبيين المراد وشرحه، كقوله تعالى:(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(1).
وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها، نحو قوله تعالى:(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)(2) وقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها)(3).
وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عاما، ومرة خاصا، نحو الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة.
والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة، وإما لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو لفظ وجد، المستعمل في الجدة والوجد والوجود (4).
وقال الماتريدي:
التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فتفسير بالرأي وهو المنهي عنه، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله (5).
وعلّل الزركشي سبب الاختلاف فقال: وكان السبب في اصطلاح كثير على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط، ليحيل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط (6).
…
(1) البقرة: 43.
(2)
التوبة: 37.
(3)
البقرة: 189.
(4)
مفردات ألفاظ القرآن: 402.
(5)
للتوسع يراجع: الإتقان 2/ 173.
(6)
البرهان للزركشي: 2/ 291.