الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بوجهين أحدهما: لا نسلم إمكان الإيجاب للشيء مع الغفلة عن نقيضه؛ لأن المنع من النقيض جزء من ماهية الوجوب كما قررناه، فيستحيل وجوب الإيجاب بدونه لاستحالة وجود الشيء بدون جزئه، وإذا استحال وجوده بدونه فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك فيكون متصورا للترك لا محالة، وهذا الجواب باطل؛ لكونه في غير محل النزاع كما تقدم، الثاني: سلمنا أن النقيض قد يكون مغفولا عنه، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون منهيا عنه، فإنه ينتقض بوجوب مقدمة الواجب أي: ما لا يتم الواجب إلا به، فإنه واجب كما تقدم مع الموجب قد يكون غافلا عنه فكذلك حرمة النقيض.
المسألة السادسة:
قال: "المسألة السادسة: إذا نسخ الوجوب بقي الجواز خلافا للغزالي؛ لأن الدال على الوجوب يتضمن الجواز والناسخ لا ينافيه، فإنه يرتفع الوجوب بارتفاع المنع من الترك قيل: الجنس يتقوم بالفصل فيرتفع بارتفاعه قلنا: لا وإن سلم فتقوم بفصل عدم الحرج" أقول: إذا أوجب الشارع شيئا ثم نسخ وجوبه فيجوز الإقدام عليه عملا بالبراءة الأصلية كما أشار إليه في المحصول في آخر هذه المسألة، وصرح به غيره، ولكن الدليل على الإيجاب قد كان أيضا دالا على الجواز كما سيأتي تقريره، فدلالته على الجواز هل هي باقية أم زالت بزوال الوجوب؟ هذا محل الخلاف، فقال الغزالي: إنها لا تبقى بل يرجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من البراءة الأصلية أو الإباحة أو التحريم، وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن، هكذا جزم في المستصفى، وقال الإمام وأتباعه والجمهور: إنها باقية ومراد هؤلاء بالجواز هو التخيير بين الفعل والترك كما سيأتي، وقد صرح به المصنف في آخر المسألة وهو الذي صرح الغزالي أيضا بعدم بقائه، وعلى هذا فيكون الخلاف بينهما معنويا على خلاف ما ادعاه ابن التلمساني، وصورة المسألة أن يقول الشارع: نسخت الوجوب أو حرمة الترك أو رفعت ذلك، فأما إذ نسخ الوجوب بالتحريم، أو قال: رفعت جميع ما دل عليه الأمر السابق من جواز الفعل ومنع الترك، فيثبت التحريم قطعا. قوله:"لأن الدال" أي الدليل على بقاء الجواز أن الجواز جزء من ماهية الوجوب لا الوجوب مركب من جواز الفعل مع المنع من الترك، وإن شئت قلت: من رفع الحرج عن الفعل مع إثبات الحرج على الترك، واللفظ الدال على الوجوب دال على الجواز بالتضمن، والناسخ للوجوب لا ينافي الجواز، فإن الوجوب يرتفع بارتفاع المنع من الترك إذ المركب يرتفع بارتفاع جزئه، وإذا تقرر أنه لا ينافيه فتبقى دلالته عليه، ولك أن تقول: الدليل الرافع للمنع من الترك إن لم يرفع أيضا الجواز فلا يكون ذلك نسخا بل تخصيصا؛ لأنه إخراج لبعض ما دل عليه اللفظ وهو غير المدعى، وإن رفعه فلا كلام أيضا فالمدعى بقاؤه هو الجواز بمعنى التخيير، والذي في ضمن الوجوب هو الجواز بمعنى رفع الحرج عن الفعل، ولا يتم المدعى إلا بزيادة أخرى تأتي في الجواب عن اعتراض الغزالي، ومع ذلك أيضا فليس مطابقا
للدعوى كما سيأتي إيضاحه. قوله: "قيل: الجنس
…
إلخ" هذا يحتمل أن يكون إبطالا للدليل السابق، ويحتمل أن يكون دليلا للغزالي، وتقرير الأول أن يقال: لا نسلم أن الناسخ لا ينافي الجواز؛ لأن كل فصل فهو علة لوجود الحصة التي فيه من الجنس كما نص عليه ابن سينا1؛ لأنه يستحيل وجود جنس مجرد عن الفصول كالحيوانية مثلا، وإليه أشار بقوله: يتقوم بالفصل أي: يوجد به، ولعله من قولهم فلأن قوام أهل بيته بكسر القاف أي: الذي يقيم شأنهم، حكاه الجوهري، إذا تقرر ذلك فالجواز جنس للواجب والمندوب والمكروه والمباح، والعلة في وجوه في الواجب، وهو فصل الواجب وهو الحرج على الترك، فإذا زال الفصل زال الجواز؛ لأن المعلوم يزول بزوال علله، وفي ذلك يقوم بعضهم:
أيا من حياتي جنس فصل وصاله
…
ومن عيشتي ملزوم لازم قربه
أيوجد ملزم ولا لازم له
…
محال وجنس لم يقم فصله به
فثبت أن الناسخ ينافي الجواز. التقرير الثاني: أن يقال: الدليل على أن الجواز لا يبقى، وذلك أن كل فصل فهو علة
…
إلخ، ثم أجاب المصنف بوجهين، أحدهما وإليه أشار بقوله:"قلنا: لا" أي: لا نسلم ما قاله ابن سينا من أن الفصل علة للجنس فقد خالفه الإمام وقال: إنهما معلولان لعلة واحدة، وتقرير ذلك مذكور في الكتب الحكمية ويحتمل أن يكون المراد أنا لا نسلم أن هذا الفصل الخاص وهو الحرج على الترك، علة لهذا الجنس الخاص، وهو الجواز لأنهما حكمان شرعيان، والأحكام القديمة فلا يكون أحدهما علة للآخر، الثاني: سلمنا أنه علة له، لكن لا نسلم أنه لا يلزم من ارتفاع هذا الفصل ارتفاع الجنس؛ لأن الجواز له قيدان أحدهما: الحرج على الترك، والثاني: عدم الحرج، فإذا زال الأول خلفه الثاني، وهذا الثاني استفدناه من الناسخ؛ لأنه أثبت رفع الحرج عن الترك، فالماهية الحاصلة بعد النسخ مركبة من قيدين أحدهما: زوال الحرج عن الفعل وهو مستفاد من الأمر، والثاني: زوال الحرج عن الترك وهو مستفاد من الناسخ، وهذه الماهية هي المندوب أو المباح، هكذا ذكره في المحصول وهو معنى ما قاله المصنف، واستفدنا من كلامه أنه إذا نسخ الوجوب بقي إما الإباحة أو الندب من الأمر وناسخه لا من الأمر فقط، فينبغي أن تكون الدعوى بهذه الصيغة، وهذا الكلام هو الذي سبق الوعيد بذكره. قال صاحب الحاصل: وفي هذه المسألة بحث دقيق ولعله يشير إلى شيء من هذا أو إلى مقالة ابن سينا السابقة
1 ابن سينا هو الحسين بن عبد الله بن سينا، أبو علي شرف الملك، الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، أصله من بلخ، ومولده في إحدى قرى بخارى، نشأ وتعلم في بخارى ثم سار إلى أصفهان وصنف بها أكثر كتبه، وعاد في أواخر أيامه إلى همذان فمرض في الطريق ومات بها سنة "428هـ". من تصانيفه: المعاد، والشفاء، والسياسة والمنطق "الأعلام: 2/ 242".