المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد - نهاية السول شرح منهاج الوصول

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌ترجمة البيضاوي صاحب منهاج الوصول إلى علم الأصول

- ‌ترجمة الإسنوي: صاحب نهاية السول شرح منهاج الوصول

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌تعريفات:

- ‌الباب الأول في الحكم:

- ‌الفصل الأول: تعريفه

- ‌الفصل الثاني: تقسيماته

- ‌التقسيم الأول:

- ‌التقسيم الثاني:

- ‌التقسيم الثالث:

- ‌التقسيم الرابع:

- ‌التقسيم الخامس:

- ‌التقسيم السادس:

- ‌الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه

- ‌الفصل الأول: في الحكم

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفصل الثاني: في المحكوم عليه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌الفصل الثالث: في المحكوم به

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الكتاب الأول: في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في اللغات

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الفصل الخامس:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسالة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسالة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌الفصل السادس

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفرع الثالث:

- ‌الفرع الرابع:

- ‌الفرع الخامس:

- ‌الفرع السادس:

- ‌الفصل السابع:

- ‌الفصل الثامن:

- ‌الفصل التاسع:

- ‌الباب الثاني: في الأوامر والنواهي

- ‌الفصل الأول: في لفظ الأمر

- ‌الفصل الثاني: في صيغته

- ‌الفصل الثالث: في النواهي

- ‌الباب الثالث: في العموم والخصوص

- ‌الفصل الأول: في العموم

- ‌الفصل الثاني: في الخصوص

- ‌الفصل الثالث: في المخصص

- ‌الباب الرابع: في المجمل والمبين

- ‌الفصل الأول: في المجمل

- ‌الفصل الثاني: في المبين

- ‌الفصل الثالث: في المبين له

- ‌الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الأول: في النسخ

- ‌الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ

- ‌خاتمة في النسخ:

- ‌الكتاب الثاني: في السنة

- ‌الباب الأول: الكلام في أفعاله

- ‌الباب الثاني: في الأخبار

- ‌الفصل الأول: فيما علم صدقه

- ‌الفصل الثاني: فيما علم كذبه

- ‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

- ‌الكتاب الثالث: في الإجماع

- ‌الباب الأول: في بيان كونه حجة

- ‌الباب الثاني: في أنواع الإجماع

- ‌الباب الثالث: في شرائطه

- ‌الكتاب الرابع: في القياس

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في بيان أنه حجة

- ‌الباب الثاني: في أركانه

- ‌الفصل الأول: في العلة

- ‌الفصل الثاني: في الأصل والفرع

- ‌الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها

- ‌الباب الأول: في المقبولة

- ‌الباب الثاني: في المردودة

- ‌الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح:

- ‌الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

- ‌الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة

- ‌الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

- ‌الباب الأول: في الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الاجتهاد

- ‌الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

- ‌الباب الثاني: في الإفتاء

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد، والنظر في طرفين في وجوب الأول العمل به دل عليه السمع وقال ابن سريج والقفال والبصري: دل العقل أيضا وأنكره قوم لعدم الدليل أو للدليل على عدمه شرعا أو عقلا وأحاله آخرون، واتفقوا على الوجوب في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية". أقول: شرع في القسم الثالث من أقسام الخبر، وهو الذي لا يعلم صدقه ولا كذبه، وله ثلاثة أحوال أحدها: أن يترجح احتمال صدقه كخبر العدل. والثاني: عكسه كخبر الفاسق.

والثالث: أن يتساوى الأمران كخبر المجهول ولم يتعرض للقسمين الآخرين لعدم وجوب العمل بهما كما سيأتي وأشار إلى الأول بقوله: فيما ظن صدقه، فإن ظن الصدق من لوازم رجحان احتماله. وعرفه بقوله: وهو خبر العدل الواحد، واحترز بالعدل عن القسمين الأخيرين، وبالواحد عن المتواتر، فإن خبر الواحد في اصطلاحهم عبارة عما ليس بمتواتر، سواء كان مستفيضا وهو الذي زادت رواته على ثلاثة كما جزم به الآمدي وابن الحاجب، أو غير مستفيض وهو ما رواه الثلاثة أو أقل، ومقصود الفصل منحصر في طرفين، الأول: في وجوب العمل به وقد اختلفوا فيه؛ فذهب الجمهور إلى أنه واجب، لكن قال أكثرهم: وجوبه الدليل السمعي فقط. وقال ابن سريج والقفال الشاشي وأبو الحسين البصري: دل على وجوبه العقل والنقل، وأنكر قوم وجوب العمل به. ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: ذلك الدليل المانع له شرعي، وقال بعضهم: عقلي، وإلى هذين المذهبين أشار بقوله: شرعا أو عقلا، وذهب آخرون إلى أن ورود العمل به مستحيل عقلا. واعلم أن كلام المحصول يوهم المغايرة بين هذا المذهب وما قبله فتابعه المصنف، والذي يظهر أنه متحد به فتأمله، ويقوي الاتحاد أن صاحب الحاصل والتحصيل وغيرهما من المختصرين لكلام الإمام لم يغايروا بينهما، واقتصروا على الأول إلا أن يفرق بينهما، بأن الأول في الإيجاب والثاني في الجواز. قوله:"واتفقوا" أي: اتفق الكل على وجوب العمل بخبر الواحد في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية؛ كإخبار طبيب أو غيره بمضرة شيء مثلا، وإخبار شخص عن المالك أنه منع من التصرف في ثماره بعد أن أباحها، وشبه ذلك من الآراء والحروب ونحوها، وهذه العبارة التي ذكرها المصنف ذكرها صاحب الحاصل، وعبر في المحصول بقوله: ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا يعلم صحته كما في الفتوى والشهادة والأمور الدنيوية. هذا لفظه وبين العبارتين فرق لا يخفى. قال: "لنا وجوه، الأول: أنه تعالى أوجب الحذر بإنذار طائفة من الفرقة، والإنذار الخبر المخوف، والفرقة ثلاثة، والطائفة واحد أو اثنان، قيل: لعل للترجي قلنا: تعذر فيحمل على الإيجاب لمشاركته في التوقع، قيل: الإنذار الفتوى قلنا: يلزم تخصيص الإنذار، والقوم بغير المجتهدين والرواية ينتفع بها المجتهد وغيره، قيل: فيلزم أن يخرج من كل ثلاثة واحد، قلنا: خص النص فيه. الثاني: أنه لو لم يقبل لما علل بالفسق؛ لأن ما بالذات لا يكون بالغير، والتالي باطل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . الثالث: القياس على الفتوى والشهادة. قيل: يقتضيان شرعا خاصا والرواية عاما، ورد بأصل الفتوى قيل: لو جاز لجاز اتباع الأنبياء والاعتقاد بالظن، قلنا: ما الجامع؟ قيل: الشرع يتبع المصلحة، والظن لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة، قلنا: منقوض بالفتوى والأمور الدنيوية". أقول: احتج المصنف على وجوب العمل بخبر الواحد بثلاثة أوجه، الأول: قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ

ص: 264

وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] ووجه الاستدلال أن الله تعالى أوجب الحذر، أي: الانكفاف عن الشيء، بإنذار طائفة من الفرقة، ويلزم منه وجوب العمل بخبر الواحد. أما كونه تعالى أوجب الحذر فلقوله تعالى:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ولعل الترجي ممتنع في حق الله تعالى؛ لأنه عبارة عن توقع حصول الشيء الذي لا يكون المتوقع عالما بحصوله ولا قادرا على إيجاده. وإذا كان الترجي ممتنعا فتعين حمل اللفظ على لازم الترجي وهو الطلب أي: الإيجاب إطلاقا للملزوم وإرادة للازم، فإنه مجاز محقق والأصل عدم غيره، فإن قيل: يكون الترجي باقيا على حقيقته ولكنه مصروف عن الله تعالى إلى الفرقة المتفقهة أي: تنذر قومها إنذار من يرجو حذرهم، وحينئذ فلا إيجاب. سلمنا لكن لا نسلم أن طالب المحمول عليه وهو الطالب المتحتم فقد يكون على سبل الندب قلنا: الحذر إنما يتحقق عند المقتضي للعقاب، وهو من خصائص الوجوب، وأما كون الإنذار بقول طائفة من الفرقة، فبناه المصنف على أن المتفقهين هم الطائفة النافرة حتى يكون الضمير في قوله تعالى:{لِيَتَفَقَّهُوا} ، {وَلِيُنْذِرُوا} راجعا إليه، وهو قول لبعض المفسرين، وفيه قول آخر حكاه الزمخشري ورجحه غيره: أن المتفقهين هم المقيمون لينذروا النافرين إن عادوا إليهم. ووجه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إنزال الوعيد الشديد في حق المتخلفين عن غزوة تبوك، كان إذا بعث جيشا أسرع المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن استماع الوحي والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ويقعد الباقون؛ ليتفقهوا، وينذروا النافرين إذا رجعوا إليهم. وعلى هذا فلا حجة؛ لأن الباقين كثيرون، وأما كونه يلزم منه وجوب العمل بخبر الواحد فلأن الإنذار هو الخبر الذي يكون فيه تخويف، والفرقة ثلاثة فتعين أن تكون الطائفة النافرة منها واحدا أو اثنين؛ لأنها بعضها، وحينئذ فيكون الإنذار حصل بقول واحد أو اثنين فينتج ذلك كله وجوب الحذر بقول واحد أو اثنين، وهو المدعى، وفيما قاله في الفرقة والطائفة نظر. فقد قال الجوهري: والفرقة طائفة من الناس، هذا لفظه. وقال الشافعي رحمه الله تعالى في صلاة الخوف وهو من أهل هذا الشأن: إن الطائفة أقلها ثلاثة. ونقله أيضا عنه القفال في الإشارة، نعم في صحاح الجوهري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة} أي: واحد فصاعدا. قوله: "قبل

إلخ" أي: اعتراض القائل بأنه لا يجب العمل بخبر الواحد على استدلالنا بهذه الآية بثلاثة أوجه، أحدها: أن لعل مدلولها الترجي لا الوجوب، والجواب أنه لما تعذر الحمل على الترجي حملناه على الإيجاب لمشاركته للترجي في الطلب كما تقدم إيضاحه مع ما يرد عليه، لكن تعليل المصنف بقوله: لمشاركته في التوقع لا يستقيم؛ لأنهما لو اشتركا في التوقع لكان المانع من حمل لعل على حقيقتها موجودا بعينه في الإيجاب. الثاني: لا نسلم أن المراد بالإنذار في الآية هو الخبر المخوف مطلقا بل المرد به الفتوى، وقول الواحد فيها مقبول اتفاقا كما تقدم، وإنما

ص: 265

قلنا: إن المراد الفتوى؛ وذلك لأن الإنذار هنا متوقف على التفقه، إذ الأمر بالتفقه إنما هو لأجله، والمتوقف على التفقه إنما هو الفتوى لا أحد، وأجاب المصنف بأنه يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص الآية من وجهين أحدهما: تخصيص الإنذار بالفتوى مع أنها عامة فيه وفي الرواية. الثاني: تخصيص القوم من قوله تعالى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} بالمقلدين؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا في فتواه، بخلاف ما إذا حمل الإنذار على الرواية أو على ما هو أعم، فإنه ينتفي التخصيصات، أما تخصيص الإنذار فواضح، وأما القوم فلأن الرواية ينتفع بها المجتهد في الأحكام، وينتفع بها المقلد في الانزجار، وحصول الثواب في نقلها لغيره وغير ذلك. الثالث: لو كان المراد بالفرقة ثلاثة لكان يجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد؛ لأن لولا للتخصيص تقديره: هلا خرج وليس كذلك إجماعا. وأجاب المصنف بأن هذا النص الذي في لزوم خروج واحد من كل ثلاثة قد خص بالإجماع، ولا يلزم من تخصيص النص فيه تخصيصه في قبول رواية الواحد. قوله:"الثاني" أي: الدليل الثاني على وجوب العمل بخبر الواحد، وتقريره من وجهين ذكر أصلهما في المحصول أحدهما ولم يذكر المصنف سواه: أنه لو لم يقبل خبر الواحد لما كان عدم قبوله معللا بالفسق؛ وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته، وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره؛ لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير، إذ لو كان معللا بالغير لاقتضى حصوله به، مع كونه حاصلا قبل ذلك أيضا لكونه معللا بالذات، وذلك تحصيل للحاصل وهو محال. والثاني: وهو امتناع تعليله بالفسق باطل لقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له، والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل، فثبت أن خبر الواحد ليس مردودًا. وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول واجب العمل به؛ لأن القائل قائلان. التقرير الثاني: أن الأمر بالتبيين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط حجة، فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا؛ لأن الظن يعمل به هنا، والقول بالواسطة منتف كما تقدم. قوله:"الثالث" أي: الدليل الثالث على وجوب العمل بخبر الواحد القياس على الفتوى والشهادة، والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة. وفرق الخصم بأن الفتوى والشهادة تقتضيان شرعا خاصا ببعض الناس، والرواية تقتضي شرعا عاما للكل ولا يلزم من تجويزنا للواحد أن يعمل بالظن الذي قد يخطئ ويصيب، أن يجوز ذلك للناس كافة، ورده المصنف بشرعية أصل الفتوى، فإن اتباع الظن فيها لا يختص بمسألة ولا بشخص، وقد يقال: الرواية أكثر عموما؛ لأنها تقتضي الحكم على المجتهدين والمقلدين، وأما الفتوى فخاصة بالمقلدين، وقد استدل في المحصول أيضا على التمسك بخبر الواحد، بأنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الرسل بتبليغ الأحكام، وبإجماع الصحابة على

ص: 266

العمل به عند اطلاعهم عليه. قوله: "قيل: لو جاز" أي: استدل من منع العمل بخبر الواحد عقلا بأمرين أحدهما: أنه لو جاز قبوله في الرواية لجاز اتباع مدعي النبوة بدون المعجزة، بل بمجرد الظن، ولجاز الاعتقاد كمعرفة الله تعالى بالظن أيضا، قياسا على الرواية وليس كذلك اتفاقا. وأجاب المصنف بطلب الجامع، فإن عجزوا عنه فلا كلام وإن أبدوا جامعا كدفع الضرر المظنون أو غيره فرقنا بأن الخطأ في النبوات وفي الاعتقاد كفر؛ فلذلك شرطنا العلم بخلاف الفروع، وأيضا فلأن القطع في كل مسألة شرعية متعذر بخلاف اتباع الأنبياء، والاعتقاد الثاني: أن الاستقراء دل على أن الشرع يتبع مصالح العباد تفضلا وإحسانا. والظن الحاصل من خبر الواحد لا يجعل ما ليس بمصلحة مصلحة، لأنه يخطئ ويصيب فلا يعول عليه. والجواب أن ما قاله بعينه جار في الفتوى والأمور الدنيوية، مع أن قول الواحد فيهما مقبول اتفاقا كما تقدم. قال:"الطرف الثاني: في شروط العمل به وهو إما في المخبر أو المخبر عنه، أو الخبر. أما الأول فصفات تغلب على الظن، وهي خمس: الأول: التكليف فإن عبر المكلف لا يمنعه خشية الله تعالى قيل: يصح الاقتداء بالصبي اعتمادا على خبره بطهر. قلنا: لعدم توقف صحة صلاة المأموم على طهره، فإن تحمل ثم بلغ وأدى قبل قياسا على الشهادة، وللإجماع على إحضار الصبيان الحديث. الثاني: كونه من أهل القبلة فتقبل رواية الكافر الموافق كالمجسمة إن اعتقدوا حرمة الكذب، فإنه يمنعه عنه، وقاسمه القاضيان بالفاسق والمخالف، ورد بالفرق". أقول: العمل بخبر الواحد له شروط بعضها في المخبر -بكسر الباء- وهو الراوي، وبعضها في المخبر عنه وهو مدلول الخبر، وبعضها في الخبر نفسه وهو اللفظ. أما الأول وهي شروط المخبر فضابطها الإجمالي عبارة عن صفات تغلب على الظن أن المخبر صادق وعند التفصيل ترجع إلى خمس صفات كما ذكرها المصنف، إلا أن الخامسة منها إنما هي شرط على قول مرجوح، الوصف الأول: التكليف، فلا تقبل رواية المجنون والصبي الذي لم يميز بالإجماع وكذا المميز عند الجمهور، فإن غير المكلف لا يمنعه خشية من الله تعالى عن تعاطي الكذب لعلمه بأنه غير معاقب، وهو في الحقيقة أكثر جراءة من الفاسق. واستدل الخصم بأنه لو لم يقبل خبره لم يصح الاقتداء به في الصلاة اعتمادا على إخباره بأنه متطهر، لكنه يصح فدل على قبول خبره. وأجاب المصنف بأن صحة الاقتداء ليست مستندة إلى قبول إخباره بطهره، بل لكونها غير متوقفة على طهارة الإمام؛ لأن المأموم متى لم يظن حدث الإمام صحت صلاته وإن تبين حدث الإمام، وأما الرواية فشرط صحتها السماع. قوله:"فإن تحمل" يعني أن الصبي إذا تحمل ثم بلغ وأدى بعد البلوغ ما تحمله قبله، فإنه يقبل لأمرين أحدهما: القياس على الشهادة. الثاني: إجماع السلف على إحضار الصبيان مجالس الحديث، ولك أن تجيب عن الأول بأن الرواية تقتضي شرعا عاما فاحتِيط فيها بخلاف الشهادة، وعن الثاني بأن الإحضار قد يكون للتبرك أو سهولة

ص: 267

الحفظ أو لاعتياد ملازمة الخبر. قوله: "الثاني" أي: الشرط الثاني من شروط المخبر: أن يكون من أهل قبلتنا، فلا تقبل رواية الكافر المخالف عن القبلة، وهو المخالف في الملة الإسلامية كاليهودي والنصراني إجماعا، فإن كان الكافر يصلي لقبلتنا فكالمجسم وغيره، وإن قلنا بتكفيره ففيه خلاف. قال في المحصول: الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته، وإلا فلا، وتبعه عليه المصنف، واستدل عليه بأن اعتقاده حرمة الكذب يمنع من الإقدام عليه، فيغلب على الظن صدقه؛ لأن المقتضى قد وجد، والأصل عدم المعارض، وقال القاضي أبو بكر والقاضي عبد الجبار: لا تقبل روايته مطلقا قياسا على المسلم الفاسق والكافر المخالف بجامع الفسق والكفر، ونقله الآمدي عن الأكثرين وجزم به ابن الحاجب، والجواب أن الفرق بين هذا وبين الفاسق أن هذا لا يعلم فسق نفسه ويجتنب الكذب لتدينه وخشيته بخلاف الفاسق، والفرق بينه وبين الكافر المخالف أن الكافر المخالف خارج عن ملة الإسلام فلا تقبل روايته؛ لأن ذلك منصب شريف يقتضي الإعزاز والإكرام. قال:"الثالث: العدالة وهي ملكة في النفس تمنعها من اقتراف الكبائر والرذائل والمباحة، فلا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما، وإن جهل قبل، قال القاضي أبو بكر: ضم جهل إلى فسق. قلنا: الفرق عدم الجراءة، ومن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته؛ لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه كالصبى والكفر، والعدالة تعرف بالتزكية وفيها مسائل الأولى: شرط العدد في الرواية والشهادة، ومنع القاضي فيهما، والحق الفرق كالأصل، الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: يذكر سبب الجرح، وقيل: سبب التعديل وقيل: سببهما، وقال القاضي: لا فيهما. الثالثة: الجرح مقدم على التعديل؛ لأن فيه زيادة. الرابعة: التزكية أن يحكم بشهادته، أو يثني عليه، أو يروي عنه من لا يروي عن غير العدل أو يعمل بخبره". أقول: شرع في الوصف الثالث من الأوصاف في المخبر وهو العدالة، والعدالة في اللغة عبارة عن التوسط في الأمر من غير إفراط إلى طرفي الزيادة والنقصان، وفي الاصطلاح ملكة في النفس أي: هيئة راسخة فيها تمنعها من ارتكاب الكبائر والرذائل المباحة. فأما تمييز الكبائر من الصغائر ففيه كلام منتشر، ومحله كتب الفروع. وأما الرذائل فأشار بها إلى المحافظة على المروءة، وهي أن يسير سيرة أمثاله في زمانه ومكانه، فلو لبس الفقيه القباء أو الجندي الجبة والطيلسان ردت روايته وشهادته، فأما إذا قيل: تعاطي الكبيرة الواحدة والرذيلة الواحدة قادح، وتعبيره بالرذائل والكبائر يدفعه، وأيضا فإن الإصرار على الصغائر كذلك، ولا ذكر له في الحد، وكذلك المرة من صغائر الخسة كالتطفيف بالحبة كما ذكره في المحصول. قلنا: أما الأول فجوابه أن الملكة إذا قويت على دفع الجملة فلأن تقوى على بعضها أولى، وأما الثاني فجوابه ما قاله الغزالي في الإحياء في كتاب التوبة أن الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة، وأما الثالث فلأن القول بتأثير المرة من الرذائل المباحة يؤخذ منه تأثير المرة من الرذائل المحرمة بطريق الأولى، نعم يرد

ص: 268

عليه أن المروءة ليست وصفا معتبرا في العدالة بل في قبول الشهادة والرواية. فإن العدالة ضد الفسق. قوله: "فلا تقبل" يعني أنه لما تقرر أن عدالة الراوي شرط فلا تقبل رواية من أقدم على الفسق عالما بكونه فسقا للإجماع، ولقوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] الآية، فإن كان الفاسق قد جهل أن ما أتى به فسق، نفى قبول قوله. مذهبان حكاهما ابن الحاجب من غير ترجيح والتفسيق بالشيء مع الجهل بكونه فسقا يتصور في المخالفين في الأصول كالخوارج ونفاة الصفات. فإن الجهل في ذلك ليس عذرا، وإلا لزم ذلك في حق اليهود والنصارى، وأما من وطئ أجنبية جاهلا بالحال ونحوه فليس ما نحن فيه، وكذلك من شرب النبيذ مثلا لاعتقاده الإباحة؛ لأنه ليس فاسقا قطعا كما قاله ابن الحاجب، وإن كان بعض الشافعية خالف في قبول قوله، إذا علمت ذلك فأحد المذهبين وهو رأي القاضي، واختاره الآمدي أنه لا يقبل قوله. والثاني: يقبل ونص عليه الشافعي فقال: وأقبل رواية أهل الأهواء الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، واختاره الإمام وأتباعه، قال: إلا أن يكون قد ظهر عناده فلا يقبل قوله؛ لأن العناد كذب، ولم يستدل المصنف على ما اختاره هنا؛ لأن الدليل الذي قدمه في الكافر الموافق وهو رجحان الصدق بعينه دليل في الفاسق، لكن اشتراط العدالة مع قبول الفاسق متنافيان، ولهذا فإن المصنف لما كان من مذهبه قبول رواية الكافر الموافق، لم يشترط الإسلام بل اشترط كونه من أهل القبلة. قوله:"قال القاضي" أي: احتج القاضي على عدم القبول بأن المانع من قبول الفاسق العالم بفسق نفسه إنما هو الفسق، وهو محقق هنا مع زيادة أخرى قبيحة وهي الجهل، وفرق المصنف بأن الإقدام على الفسق مع العلم به يدل على الجراءة وقلة المبالاة بالمعصية، فيغلب على الظن عدم صدقه بخلاف الجاهل. قال ابن الحاجب: ولا يصير الراوي مجروحا بالحد في شهادة الزنا لعدم النصاب ولا بالتدليس على الأصح كقول من لحق الزهري، قال الزهري موهما أنه سمع منه. قوله:"ومن لا تعرف" يعني أن الشخص إذا علمنا بلوغه وإسلامه وجهلنا عدالته فإن روايته لا تقبل، كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي، واختاره هو والآمدي وأتباعهما، وقال أبو حنيفة: تقبل، وإلى هذه المسألة أشار المصنف بقوله: ومن لا تعرف عدالته، لكن فيه حذف، فإن الفاسق داخل في هذه العبارة لكونه غير معروف العدالة أيضا، والتقدير: ومن لا تعرف عدالته ولا فسقه وإنما حذفه لتقديم ذكره، ودليلنا أن الفسق مانع من القبول إجماعا، فلا بد من تحقق عدمه أي: تحقق ظن عدمه قياسا على الكفر والصبى والجامع دفع احتمال المفسدة. قوله: "العدالة تعرف بالتزكية" كما تقدم أن من لا تعرف عدالته لا تقبل روايته، وشرع في بيان طريق معرفة العدالة وهو أمران أحدهما: الاختبار والثاني: التزكية، قال في المحصول: والمقصود الآن إنما هو بيان الثاني وهو التزكية؛ فلذلك اقتصر المصنف عليه، وذكر فيه أربع مسائل الأولى: في بيان اشتراط

ص: 269

العدد في التزكية. والثاني وهو رأي القاضي: أنه يشترط مطلقا بل يكتفي واحد لأنها خبر، والثالث: الفرق، فيشترط العدد في تزكية الشاهد دون الراوي ورجحه الإمام وأتباعه، وكذا الآمدي ونقله هو وابن الحاجب عن الأكثرين؛ لأن الشهادة لا تثبت بواحد فكذلك ما هو شرط فيها بخلاف الرواية، وإليه أشار بقوله: كالأصل، ويؤخذ من هذا التعليل قبول تزكية المرأة والعبد في الرواية دون الشهادة، وصح به الإمام وغيره، وهذه المذاهب تجري أيضا في الجرح كما أشار إليه الإمام وصرح به ابن الحاجب وغيره. المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: يجب ذكر سبب الجرح دون سبب التعديل؛ لأن الجرح يحصل بخصلة واحدة فيسهل ذكرها بخلاف التعديل، ولأنه قد يظن ما ليس بجارح جارحا، وقال قوم بالعكس؛ لأن العدالة يكثر التصنع فيها فيتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر بخلاف الجرح، وقال قوم: لا بد من بيان سببهما للمعنيين المتقدمين، وقال قوم: لا يجب فيهما؛ لأن المزكي إن كان بصيرا قبل جرحه وتعديله وإلا فلا، واختاره الآمدي ونقله هو والإمام وأتباعهما عن القاضي أبي بكر وتبعهما المصنف، ونقل إمام الحرمين عنه في البرهان أنه يجب ذكر سبب التعديل دون الجرح كالمذهب الثاني، وكذلك نقله الغزالي في المنخول، ولكنه خالفه في المستصفى ولعله اشتبه عليه فقلده فيه هؤلاء، وقال إمام الحرمين: الحق أنه إن كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه وإلا فلا، وهذا المذهب اختاره الغزالي والإمام وأتباعه إلا المصنف ولم يرجح ابن الحاجب شيئا. المسألة الثالثة: إذا عدله قوم وجرحه قوم، فإنه يقدم الجرح لأن فيه زيادة لم يطلع عليها المعدل، وقيل: يتعارضان فلا يرجح أحدهما إلا بمرجح، حكاه ابن الحاجب، وقيل: يقدم التعديل إذا زاد المعدلون على الجارحين حكاه في المحصول. وعلى الأول إذا عين الجارح سببا فنفاه المعدل بطريق متغير كما إذا قال: قتل فلانا ظلما وقت كذا فقال المعدل: رأيته حيا بعد ذلك أو كان القاتل في ذلك الوقت عندي، فإنهما يتعارضان ويعرف ذلك من تعليل المصنف؛ فلهذا لم يستثنه. المسألة الرابعة: فيما يحصل به التزكية، وهو أربعة أمور، أحدها وهو أعلاها كما قال في المحصول: أن يحكم بشهادته، إلا أن يكون الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي عرف منه أنه لا يكذب. الثاني: أنه يثني عليه بأن يقول: هو عدل أو مقبول الشهادة أو الرواية. الثالث: أن يروي عنه من لا يروي إلا عن العدل، وقيل: الرواية تعديل مطلقا، وقيل: ليست بتعديل مطلقا كما أن ترك العمل بروايته ليس بجرح، والأول هو المختار عند ابن الحاجب والآمدي وغيرهما. الرابع: أن يعمل بخبره فإن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بمقابل آخر وافق الخبر، فليس بتعديل كما قاله في المحصول1 والشرط في الذي يزكي أن يكون عدلا وتركه

1 انظر المحصول، ص196، جـ2.

ص: 270

المصنف لوضوحه. قال: "الرابع: الضبط وعدم المساهلة في الحديث، وشرط أبو علي العدد، ورد بقبول الصحابة خبر الواحد، قال: طلبوا العدد قلنا: عند التهمة. الخامس: شرط أبو حنيفة رضي الله عنه فقه الراوي إن خالف القياس، ورد بأن العدالة تقلب ظن الصدق فيكفي". أقول: لما فرغ من المسائل الأربع الواقعة في الوصف الثالث من الأوصاف المعتبرة في المخبر، رجع إلى الوصف الرابع وهو الأمن من الخطأ، ويحصل بشيئين أحدهما: الضبط فإن كان الشخص لا يقدر على الحفظ أو يقدر عليه ولكن يعرض له السهو غالبا فلا تقبل روايته، وإن كان عدلا؛ لأنه قدم على الرواية ظانا أنه ضبطها وماسها، والأمر بخلافه. الثاني: عدم التساهل، فإن تساهل فيه بأن كان يروي وهو غير واثق به مثلا رددناه، وهذا الشرط ذكره في المحصول بعد هذه المسألة ثم قال: فإن تساهل في غير الحديث واحتاط في الحديث قبلنا روايته على الرأي الأظهر؛ فلذلك قيده المصنف بقوله: في الحديث. قوله: "وشرط أبو علي العدد" أي: فلم يقبل في الزنا إلا خبر أربعة ولم يقبل في غيره إلا خبر اثنين، ثم لا يقبل خبر كل واحد منهما إلا برجلين آخرين، إلى أن ينتهي إلى زماننا كما نقله عنه الغزالي في المستصفى ومنع خبر العدل الواحد. قال في المحصول: إلا إذا عضده ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشرًا، ورده المصنف بقبول الصحابة خبر الواحد من غير إنكار كقبولهم خبر عائشة في التقاء الختانين وخبر الصديق في قوله عليه الصلاة والسلام:"الأنبياء يدفنون حيث يموتون"، وفي قوله:"الأئمة من قريش" وفي قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" ورجوعهم إلى كتابه في معرفة نصب الزكوات، وكقبول عمر من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب، ونظائره كثيرة واستدل الجبائي بأن الصحابة طلبوا العدد في وقائع كثيرة ولم يقتصروا على خبر الواحد، فمنها أن أبا بكر لم يعمل بخبر المغيرة في توريث الجدة إلى أن أخبره بذلك محمد بن مسلمة، ومنها أن أبا بكر وعمر لم يقبلا خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه، ومنها أن عمر رد خبر أبي موسى في الاستئذان وهو قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثا فلم يؤذن له، فلينصرف" 1 حتى رواه معه أبو سعيد الخدري، إلى غير ذلك من الوقائع، والجواب أنهم إنما طلبوا العدد عند التهمة والريبة في صحة الرواية؛ لنسيان أو غيره، وهذا هو الجمع بين قبولهم تارة وردهم أخرى. قوله:"الخامس" أي: الوصف الخامس فقه الراوي، وهذا الوصف شرطه أبو حنيفة إذا كان الخبر مخالفا للقياس؛ لأن العمل بخبر الواحد على خلاف الدليل، خالفناه إذا كان الراوي فقيها لحصول الوثوق بقوله، فيبقى فيما عداه

1 أخرجه البخاري في صحيحه "8/ 67"، والإمام أحمد في مسنده "4/ 403"، والهندي في كنز العمال "25204".

ص: 271

على الأصل، ورد ذلك بأن عدالة الراوي تغلب على الظن صدقه، والعمل بالظن واجب. "فروع" من المحصول أحدها: لا يتوقف الأخذ بالحديث على انتفاء الغرابة المقتضية لرد الشهادة، ولا على معرفة نسب الراوي، وعلمه بالعربية أو كونه عربيا أو ذكرا أو بصيرا. الثاني: إذا أكثر من الروايات قلة مخالطته لأهل الحديث، فإن أمكن تحصيل ذلك القدر في ذلك الزمان قبلت، وإلا فلا. الثالث: إذا لم يعرف نسبه وكان له اسمان وهو بأحدهما أشهر، جازت الرواية عنه، فإن كنت مترددا بينهما وهو بأحدهما مجروح والآخر معدل فلا. الرابع: زعم أكثر الحنفية أن الأصل إذا رد الحديث سقط الاستدلال به مطلقا، والمختار أنه إن كان قول الفرع أقوى في الإثبات من قول الأصل، كما إذا كان الفرع جازما، والأصل غير جازم، فإنه يقبل سواء استوى الاحتمالان اللذان عند الأصل أم لا، وإن كان الأقوى هو كلام الأصل، أو كانا سواء فالأمر كما قالوا. قال:"وأما الثاني فإن لا يخالفه قاطع ولا يقبل التأويل، ولا يضره مخالفة القياس، وما لم يكن قطعي المقدمات، بل يقدم لقلة مقدماته، وحمل الأكثر والراوي". أقول: لما تقدم في أول الفصل أن العمل بخبر الواحد له شروط بعضها في المخبر وبعضها في المخبر عنه وبعضها في الخبر، وذكر شرط الأول وهو المعتبر، شرع الآن في شرط الثاني وهو المخبر عنه، وحاصله أن خبر الواحد لا يجوز التمسك به إذا عارضه دليل قاطع أي: دليل لا يحتمل التأويل بوجه، سواء كان نقليا أو عقليا لانعقاد الإجماع على تقديم المقطوع به على المظنون، اللهم إلا إذا كان الخبر قابلا للتأويل، فإنا نؤوله جمعا بين الأدلة وإليه أشار بقوله: ولا يقبل التأويل وهو جملة خالية من المفعول، وهو الهاء في: يخالفه ويقع في بعض النسخ إسقاط الواو، ومع ذلك فالجملة عائدة إلى المفعول أيضا، فإنه الصواب الموافق لتقرير أصليه وهما: الحاصل والمحصول. قوله: "ولا يضره" أي: لا يضر خبر الواحد مخالفته لثلاثة أمور، الأول: القياس وتقريره أنه إذا تعارض القياس وخبر الواحد فإن أمكن تخصيص الخبر بالقياس فقد تقدم في العموم أنه يجوز، وإن أمكن العكس فسيأتي في القياس أنه يجوز أيضا، وإن تنافيا من كل وجه نظرنا في مقدمات القياس، وهي ثبوت حكم الأصل، وكونه معللا بالعلة الفلانية، وحصول تلك العلة في الفرع وانتفاء المانع، فإن كانت ثابتة بدليل قطعي قدمنا القياس على خبر الواحد، ولم يستدل عليه المصنف لوضوحه، وإن لم تكن قطعية بأن كانت هي أو بعضها ظنية فإنه يقدم خبر الواحد على الصحيح، ونص عليه الشافعي في مواضع ونقله عنه الإمام، وقال مالك: يقدم القياس، وقال القاضي بالوقف وهذا الخلاف خصصه في المحصول بما إذا كان البعض قطعيا والبعض ظنيا وعممه بعضهم، ثم استدل المصنف على تقديم الخبر بأن مقدماته أقل من مقدمات القياس؛ لأن الخبر يجتهد فيه في العدالة وكيفية الرواية، وأما القياس ففي الأمور المتقدمة كلها وإذا كانت مقدماته أقل، كأن تطرق الخلل إليه أقل

ص: 272

فقدم لامتيازه عليه بهذا، ومساواته له في الظن. قوله:"وعمل الأكثر" أشار به إلى الأمر الثاني من الأمور الثلاثة المتقدمة، وهو مجرور عطفا على القياس، أي: لا يضره مخالفة القياس ولا مخالفة عمل الأكثرين؛ لأن الأكثرين ليسوا بحجة لكونهم بعض الأمة. قوله: "والراوي" أشار به إلى الأمر الثالث، وهو أيضا مجرور عطفا على القياس أيضا، وحاصله: أن عمل الراوي على خلاف ما رواه لا يكون قدحا في ذلك الحديث، كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي واختاره هو وأتباعه والآمدي، ونقل في المعالم عن الأكثرين أنه يقدح، وقد تقدمت المسألة مبسوطة والاستدلال عليها في أثناء الخصوص. "فروع" حكاها في المحصول أحدها: خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول، خلافا للحنفية. لنا قبول الصحابة خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين، ولأن الخصم قد قبل أخبار الآحاد في القيء والرعاف والقهقهة في الصلاة ووجوب الوتر مع عموم البلوى فيها. الثاني: قال الشافعي رضي الله عنه: لا يجب عرض خبر الواحد على الكتاب، وقال عيسى بن أبان: يجب. الثالث مذهبنا: أن الأصل في الصحابة العدالة إلا عند ظهور المعارض، وهذا الذي صححه نقله ابن الحاجب عن الأكثرين، وأراد بالمعارض وقوع أحدهم في كبيرة، كما وقع لماعز من الزنا، ولسارق رداء صفوان، وغيرهما. "فرعان" حكاهما ابن الحاجب: الصحابي من رآه صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو عنه ولم تطل مدته، ولو قال عدل معاصر النبي صلى الله عليه وسلم: أنا صحابي، احتمل الخلاف. قال:"وأما الثالث ففيه مسائل، الأولى: لألفاظ الصحابي سبع درجات، الأولى: حدثني ونحوه. الثانية: قال الرسول صلى الله عليه وسلم لاحتمال التوسط. الثالثة: أمر لاحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرا والعموم والخصوص والدوام واللا دوام. الرابعة: أمرنا وهو حجة عند الشافعي رضي الله عنه؛ لأن من طاوع أميرا، إذا قاله فهم منه أمره، ولأن غرضه بيان الشرع. الخامسة: من السنة. السادسة: عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: للتوسط. السابعة: كنا نفعل في عهده". أقول: لما تقدم في أول الفصل أن خبر الواحد له شروط، بعضها في المخبر وبعضها في المخبر عنه وبعضها في الخبر، وتقدم ذكر القسمين الأولين، شرع في الثالث وهو الخبر، فذكر فيه خمس مسائل، الأولى: في بيان ألفاظ الصحابي ومراتبها، وإلى النوعين أشار بقوله: سبع درجات، الدرجة الأولى: أن يقول: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شافهني، أو أنبأني، أو أخبرني، أو سمعته يقول، ونحو ذلك. الثانية: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت دون الأولى لاحتمال أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم واسطة، لكنه لما كان الظاهر إنما هو المشافهة قلنا: إنه حجة. فقوله: لاحتمال التوسط تعليل لكونه أحط درجة مما قبله. واعتبر القاضي أبو بكر هذا الاحتمال فقال: إن الصحابة كلهم عدول قلنا: إنه حجة وإلا فلا. الثانية: أن يقول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا، وإنما كانت دون الثانية لاشتراكها معها في احتمال التوسط، واختصاصها باحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرا، وأيضا فليس فيه لفظ يدل على أنه أمر الكل، أو البعض دائما، أو غير دائم،

ص: 273

فربما اعتقد شيئا ليس مطابقا، فقوله: لاحتمال كذا تعليل لكونه دون الثانية في الدرجة. ولأجل هذا الاحتمال توقف الإمام في المسألة وضعف صاحب الحاصل كونه حجة، ولما كان الظاهر من حال الراوي أنه لا يطلق هذا اللفظ إلا إذا تيقن المراد، ذهب الأكثرون إلى أنه حجة كما نقله الآمدي واختاره. قال الإمام: ولا بد أن يضم إليه قوله عليه الصلاة والسلام: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". الرابعة: أن يبني الصيغة للمفعول: أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا أو أوجب أو حرم، وهي حجة عند الشافعي والأكثرين واختاره الآمدي وأتباعه لأمرين، أحدهما: أن من طاوع أميرا إذا قال: أمرنا بكذا فهم منه أمر ذلك الأمير. الثاني: أن غرض الصحابي بيان الشرع فيحمل على من تصدر منه الشرع دون الخلفاء، ولولاه حينئذ فلا يجوز أن يكون صادرا من الله تعالى؛ لأن أمره ظاهر لكل أحد لا يتوقف على أخبار الصحابي، ولا صادرا عن الإجماع؛ لأن الصحابي من الأمة وهو لا يأمر نفسه فتعين كونه من الأخبار وهو المدعي، وإنما كانت هذه الدرجة دون ما قبلها لمساواتها لها في الاحتمالات السابقة مع زيادة ما قلناه. الخامسة: أن يقول من السنة فيجب حمله على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتج به كما اختاره الإمام والآمدي وأتباعهما للدليلين السابقين وهما: المطاوعة وتبيين الشرع. وقد نص عليه الشافعي في الأم فقال: باب في عدد كفن الميت بعد ذكر ابن عباس والضحاك ما نصه، قال الشافعي: وابن عباس والضحاك بن قيس رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولان السنة إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لفظه بحروفه، وذكر بعده بقليل مثله، ورأيت في شرح مختصر المزني للداودي في كتاب الجنايات عكس ذلك فقال في باب أسنان إبل: الخطأ أن الشافعي في القديم كان يرى أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي، ثم رجع عنه؛ لأنهم قد يطلقونه، يريدون به سنة البلد والنقل. والأول أرجح لكونه منصوصا عليه في القديم والجديد معا، وهذه الدرجة دون ما قبلها لكثرة استعمالالسنة في الطريقة. الدرجة السادسة ولم يذكرها الآمدي ولا ابن الحاجب: أن يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حمله على التوسط مذهبان في المحصول والحاصل من غير ترجيح، أصحهما عند المصنف: حمله على السماع وصححه ابن الصلاح وغيره من المحدثين. وهذه المرتبة دون ما قبلهالكثرة استعمالها في التوسط. السابعة: أن يقول: كنا نفعل في عهده عليه الصلاة والسلام فهوحجة على الصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما. ثم اختلفوا في المدرك فعلله الإمام وأتباعه بأن غرض الراوي بيان الشرع وذلك يتوقف على علم النبي صلى الله عليه وسلم به وعدم إنكاره، وعلله الآمدي ومن تبعه بأن ذلك ظاهر في قول كل الأمة، فألحقه الأولون بالسنة، والثاني بالإجماع، وينبني على المدركين ما أشار إليه الغزالي في المستصفى وهو الاحتجاج به إذا كان القائل تابعيا. وكلام المصنف يقتضي أن الاحتجاج به متوقف على تقييده بعهد الرسول

ص: 274

فيقول: كنا نفعل في عهده، وهو الذي جزم به ابن الصلاح1، لكنه خلاف طريقة الإمام والآمدي، ولهذا مثلوه بقول عائشة: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه، وهذه الدرجة دون ما قبلها للاحتمالات السابقة. قال في المحصول: وإذا قال الصحابي قولا ليس للاجتهاد فيه مجال فهو محمول على السماع تحسبا للظن به وقد قدم الكلام على الصحابي. قال: "الثانية: لغير الصحابي أن يروي إذا سمع من الشيخ أو قرأ عليه ويقول له: هل سمعت؟ فقال: نعم، أو أشار أو سكت وظن إجابته عند المحدثين أو كتب الشيخ أو قال: سمعت ما في هذا الكتاب، أو يجيز له". أقول: هذه المسألة معقودة لرواية غير الصحابي، وقد جعلها في المحصول مشتملة على بيان مستندها وذكر مراتبها وكيفية ألفاظها. فأما المستند فقد ذكره المصنف وهو سبعة أمور، أما بيان المراتب فقد أشار إليه بالترتيب، فقدم في اللفظ ما صرح الإمام بتقديمه في المرتبة إلا الخامس، فإن الإمام جعله في المرتبة الثالثة، وأما كيفية اللفظ فلم يتعرض له وسنذكره إن شاء الله تعالى على ما ذكره في المحصول. المستند الأول من مستندات الرواية: أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ، ثم إن قصد إسماعه وحده أو مع غيره فله أن يقول: حدثني وأخبرني، أو حدثنا وأخبرنا وإلا فلا يقولهما بل يقول: قال فلان كذا أو أخبر أو أحدث أو سمعته يقول أو يحدث أو يخبر. الثاني: أن يقرأ على الشيخ ويقول له بعد القراءة أو قبلها: هل سمعته؟ فيقول: نعم، أو الأمر كما قرئ عليّ ونحو ذلك، فحينئذ فيجوز للراوي أن يقول هنا أيضا: حدثني أو أخبرني أو سمعته كما قال في المحصول2. وإنما كان هذا النوع دون الأول لاحتمال الذهول والغفلة. الثالث: أن يقرأ على الشيخ ويقول له: هل سمعته؟ فيشير الشيخ إما برأسه أو بإصبعه إلى أنه قرأه، فيقوم ذلك مقام التصريح في الرواية ووجوب العمل إلا أنه لا يقول: حدثني ولا أخبرني ولا سمعت كذا، قال في المحصول: وفيه نزاع يأتي. الرابع: أن يقرأ عليه ويقول له: هل سمعته؟ فيسكت، وغلب على ظن القارئ أن سكوته إجابة، واتفقوا إلا بعض أهل الظاهر على وجوب العمل بهذا، وعلى جواز روايته بقوله: أخبرنا وحدثنا قراءة عليه. وأما إطلاق حدثنا وأخبرنا ونحو ذلك كسمعت فهي محل الخلاف الذي أشار إليه المصنف، تبعا للإمام كما حرره الآمدي في الأحكام فافهمه. فقال المحدثون والفقهاء: يجوز وصححه ابن الحاجب ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة. وقال المتكلمون: لا يجوز، وصححه الآمدي تبعا للغزالي وإذا كان

1 ابن الصلاح: عثمان بن عبد الرحمن "صلاح الدين" بن عثمان بن موسى بن أبي النضر النصري الشهرزوري الكردي الشرخاني، أبو عمر، تقي الدين المعروف بابن الصلاح، أحد الفضلاء المقدمين في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، له معرفة علوم الحديث والأمالي والفتاوى وغيرها، توفي سنة "643هـ"، "الأعلام 4/ 207".

2 انظر المحصول، ص221، جـ2.

ص: 275

مذهب الشافعي الجواز في هذه الصورة، لزم منه الجواز فيما قبلها بطريق الأولى. قال في المحصول: وهذا الخلاف يجري فيما لو قال القارئ للشيخ بعد القراءة: أرويه عنك؟ فقال: نعم، وحكم قراءة غيره عليه كحكم قراءته في الأحوال المذكورة كما قاله ابن الحاجب وغيره، واعلم أن تصوير هذه المسألة مع الاستفهام مخالف لتصوير المحصول والحاصل، فإنهما صوراها بما إذا جزم القارئ فقال: حدثك ولا شك أن السكوت على هذا لو لم يكن صحيحا لكان تقريرا على الكذب، بخلاف السكوت عند الاستفهام، فلا يلزم من جواز الرواية هنا جوازها هنا مع الاستفهام. الخامس، وقد تقدم أن الإمام جعله في المرتبة الثالثة: أن يكتب الشيخ فيقول: حدثنا فلان ويذكر الحديث إلى آخره، فحكمه الخطاب في العمل والرواية، إذا علم أو ظن أنه الخط؛ لأنه لا يقول: سمعته ولا حدثني بل أخبرني قال الآمدي، ولا يرويه إلا بتسليط من الشيخ كقوله: فاروه عني أو أجزت روايته. السادس: أن يشير الشيخ إلى كتاب فيقول: سمعت ما في هذا الكتاب من فلان أو هذا مسموعي منه أو قرأته عليه، فيجوز للسامع أن يرويه عنه سواء ناوله الكتاب أم لا، خلافا لبعض المحدثين، وسواء قال: اروه عني أم لا، كما له أن يشهد على شهادته إذا سمعه يؤديها عند الحاكم، ويؤخذ ذلك كله من إطلاق المصنف، ومقتضى كلام الآمدي اشتراط الإذن في الرواية. وهذا الطريق يعرف بالمناولة فيقول الراوي: ناولني أو أخبرني أو حدثني مناولة، وفي إطلاقها مذهبان، ولا يجوز له أن يروي عن غير تلك النسخة إلا إذا أمن الاختلاف. السابع: أن يجيز الشيخ فيقول: أجزت لك أن تروي عني ما صحّ من مسموعاتي أو مؤلفاتي أو كتاب كذا قال الآمدي: وقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة، فمنعه أبو حنيفة وأبو يوسف، وجوزه أصحاب الشافعي وأكثر المحدثين، فعلى هذا يقول: أجاز لي فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة. قال: وفي إطلاق حدثني وأخبرني مذهبان، الأظهر وعليه الأكثر أنه لا يجوز، وصححه ابن الصلاح أيضا. ونقل عن الشافعي قولان في جواز الرواية بالإجازة، ومقتضى كلام المصنف صحة الإجازة لجميع الأئمة الموجودين، أو لمن يوجد من نسل فلان، وفيهما خلاف، رجح ابن الحاجب في الأولى أنه يجوز، ولم يرجح في الثانية شيئا وصحح ابن الصلاح في الثانية أنه لا يجوز، ولم يصحح في الأولى شيئا، قال: واختلفوا في جواز الإجازة للصبي الذي لم يميز وجواز الإجازة بما لم يتحمله المجيز ليرويه المجاز، إن اتفق أن المجيز تحمل ثم صحح الجواز في الأولى والمنع في الثانية. قال الآمدي: وإذا غلب على ظنه الرواية فيجوز له روايته والعمل به عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد خلافا لأبي حنيفة. فإن قيل: أهمل المصنف الوجادة، وهي أن يقف على كتاب شخص فيه أحاديث يرويها، فإنه يجب على الواقف عليها أن يعمل بها إذا حصلت الثقة بقوله، وإن لم يكن له من الكاتب رواية كما نقله ابن الصلاح عن الشافعي رضي الله عنه وصححه، قلنا: إنما أهملها

ص: 276

لأنه تكلم في أسباب الرواية لا في أسباب العمل، وليس له أن يروي: هذا حدثنا ولا أخبرنا مطلقا ولا مقيدا، قال ابن الصلاح: لكن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان: حدثنا فلان، ويسوق السند والمتن. قال:"الثالثة: لا تقبل المراسيل خلافا لأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما، لنا أن عدالة الأصل لم تعلم فلا تقبل، قيل: الرواية تعديل قلنا: قد يروي عن غير العدل قيل: إسناده إلى الرسول يقتضي الصدق، قلنا: بل السماع قيل: الصحابة أرسلوا وقبلت، قلنا: لظن السماع". أقول: لم يتعرض الإمام ولا أتباعه لتفسير المرسل، وهو في اصطلاح جمهور المحدثين عبارة عن أن يترك التابعي ذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمي بذلك لكونه أرسل الحديث أي: أطلقه ولم يذكر من سمعه منه، فإن سقط قبل الصحابي واحد فيسمى منقطعا، وإن كان أكثر فيسمى معضلا ومنقطعا، وأما في اصطلاح الأصوليين فهو قول العدل الذي لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا فسره الآمدي، وذكر ابن الحاجب وغيره نحوه أيضا وهو أعم من تفسير المحدثين، وقد اختلفوا في قبوله؛ فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى المنع منه إلا مسائل ستعرفها، واختاره الإمام والمصنف ونقله ابن الصلاح عن جمهور المحدثين وذهب الجمهور من المعتزلة كما قاله في المحصول إلى قبوله ونقله الآمدي عن الأئمة الثلاثة، واختاره حتى بالغ بعضهم فجعله أقوى من المسند؛ لأنه إذا أسنده فقد وكل أمره إلى الناظر ولم يلتزم صحته. وذهب ابن الحاجب إلى قبوله من أئمة النقل دون غيرهم، وذهب عيسى بن أبان إلى قبول مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة النقل مطلقا. قوله:"لنا" أي: الدليل على ردها: أن قبول الخبر مشروط بمعرفة عدالة الراوي، كما تقدم بيانه وعدالة الأصل في المرسل لم تعلم؛ لأن معرفتها فرع من معرفة اسمه، فإذا لم نعلمه تعين رده. تمسك الخصم بثلاثة أوجه؛ الأولان اعتراض على ما قلناه، والثالث دليل على مدعاه، أحدها: أن رواية العدل عن الأصل المسكوت عنه تعديل له؛ لأنه لو روى عمن ليس بعدل ولم يبين حالهلكان ملبسا غاشّا، قلنا: لا نسلم، فإن العدل قد يروي عن غير العدل أيضا؛ ولهذا لو سئل الراوي عن عدالة الأصل لجاز أن يتوقف، قال في المحصول: وقد يظن عدالته فيروي عنه وليس بعدل عند غيره. الثاني: أن إسناد الحديث المرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقتضي صدقه؛ لأن إسناد الكذب ينافي العدالة، وإذا ثبت صدقه تعين قبوله. قلنا: لا نسلم أن إسناده يقتضي صدقه بل إنما يقتضي أن يكون قد سمع غيره يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك الغير لا يعلم كذبه بل يعلم صدقه أو يجهل حاله. الثالث: أن الصحابة أرسلوا أحاديث كثيرة أي: لم يصرحوا فيها بسماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم، بل قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع الناس على قبولها. قلنا: إنما قبلت لأنه يغلب على الظن أن الصحابي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بالظن واجب. قال في المحصول: فإذا بين الصحابي بعد ذلك أنه كان مرسلا وسمى الأصل الذي رواه عنه

ص: 277

وجب قبوله أيضا. قال: وليس في الحالتين دليل على العمل بالمرسل، وحاصل هذا الجواب منع كون ذلك من المرسل، وأنه لا يقبل إذا تيقنا أن الصحابي لم يسمعه كما أن مرسل غير الصحابي لا يقبل أيضا. وهذا موافق لكلامه أولا؛ فإنه أطلق عدم قبول المرسل، ولم يفصل بين الصحابي وغيره فافهم ذلك كله واجتنب غيره. واختلف المانعون من قبول مراسيل الصحابة، مع أن المروي عنه صحابي مثله والصحابة عدول فقال بعضهم: لاحتمال روايته له عن التابعين، وقال القرافي: لاحتمال روايته عن صحابي قام به مانع، كماعز وسارق رداء صفوان. قال:"فرعان: الأول: المرسل، يقبل إذا تأكد بقول الصحابي أو فتوى أكثر أهل العلم. الثاني: إن أرسل ثم أسند قُبِل، وقيل: لا؛ لأن إهماله يدل على الضعف". أقول: المرسل إذا تأكد بشيء بحيث يغلب على الظن صدقه فإنه يقبل، ويحصل ذلك بأمور، منها أن يكون من مراسيل الصحابة أو أسنده غير مرسله، وإن لم تقم الحجة بإسناده لكونه ضعيفا كما صرح به في المحصول، أو أرسله راوٍ آخر يروي من غير شيوخ الأول، أو عضده قولصحابي، أو قول أكثر أهل العلم أو عرف من حال الذي أرسله أنه لا يرسله إلا عمن يقبل قوله كمراسيل سعيد، وهذه الستة نص عليها الشافعي، وممن نقلها عنه الآمدي وكذا الإمام، ما عدا الأول، وزاد غيرهما على هذه الستة القياس أيضا. واقتصار المصنف على شيئين فقط لا معنى له، ومخالف لأصليه: الحاصل والمحصول، فإن قيل: ما فائدة قبوله والأخذ به إذا تأكد بقياس أو بمسند آخر صحيح، مع أن القياس والمسند كافيان في إثبات الحكم؟ قلنا: فائدته في الترجيح عند تعارض الأحاديث، فإن أحد الحديثين المقبولين يرجح على الآخر، إذا عضده قياس أو حديث آخر مقبول، وقد اعتقد ابن الحاجب أن هذا السؤال لا جواب له وليس كذلك لما قلناه. قوله: "الثاني

إلخ" اعلم أن الراوي إذا أرسل حديثا مرة ثم أسند أخرى، أو وقفه على الصحابي ثم رفعه، فلا إشكال في قبوله، وبه جزم الإمام وأتباعه. وأما إذا كان الراوي من شأنه إرسال الأحاديث إذا رواها، فاتفق أن روى حديثا مسندا، ففي قبوله مذهبان في المحصول والحاصل من غير ترجيح، وهذه هي مسألة الكتاب فافهم ذلك، وأرجحهما عند المصنف قبوله لوجود شرطه، وعلى هذا قال الشافعي كما قال في المحصول1: لا أقبل شيئا من حديثه إلا إذا قال فيه: حدثني أو سمعت، دون غيرهما من الألفاظ الموهمة. وقال بعض المحدثين: لا يقبل إلا إذا قال: سمعت خاصة. والمذهب الثاني: لا يقبل؛ لأن إهماله لاسم الرواة يدل على علمه بضعفهم، إذ لو علم عدالتهم لصرح بهم، ولا شك أن تركه للراوي مع علمه بضعفه خيانة وغش، فإنه إيقاع في العمل بما ليس صحيحا، وإذا كان خائنا لم تقبل روايتهمطلقا، هذا حاصل ما قاله

1 انظر المحصول، ص225، جـ2.

ص: 278

الإمام، وجوابه أن ترك الراوي قد يكون لنسيان اسمه أو لإيثار الاختصار، وذكر في المحصول بعد هذه المسألة أن الراوي إذا سمى الأصل باسم لا يعرف به فهو كالمرسل، وذكر إمام الحرمين مثله فإنه قال: وقول الراوي: أخبرني رجل أو عدل موثوق به من المرسل أيضا. قال: وكذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يسم حاملها. قال: "الرابعة: يجوز نقل الحديث بالمعنى خلافا لابن سيرين، لنا أن الترجمة بالفارسية جائزة فبالعربية أولى. قيل: يؤدي إلى طمس الحديث، قلنا: لما تطابقا لم يكن ذلك". أقول: اختلفوا في جواز نقل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعنى أي: بلفظ آخر غير لفظه، فجوزه الأكثرون واختاره الإمام والآمدي وأتباعهما ونص عليه الشافعي وممن نقله عنه صاحب المحصول، وقال ابن سيرين وجماعة: لا يجوز، وغلط صاحب التحصيل في اختصاره للمحصول، فعزاه للشافعي وحكى الآمدي وابن الحاجب قولا: إنه إن كان اللفظ مرادفا جاز وإلا فلا، فإن جوزناه فشرطه أن يكون الفرع مساويا للأصل في إفادة المعنى من غير زيادة ولا نقصان، وأن يكون مساويا في الجلاء والخفاء؛ لأنه لو أبدل الجلي بالخفي أو عكسه لأحدث حكما لم يكن وهو التقديم أو التأخير عند التعارض، لما ستعرفه في القياس أن الجلاء من جملة المرجحات، وعلله في المحصول بأن الخطاب يقع بالمتشابه وبالمحكم لأسرار استأثر الله تعالى بعلها فلا يجوز تغييرها، ومراعاة هذه الشروط موقوفة على العلم بمدلولات الألفاظ، فإذا كان الشخص غير عالم بها فلا يجوز أن يروي بالمعنى، وكلام الآمدي يقتضي إثبات خلاف فيه، فإنه نقل المنع عن الأكثرين. قوله:"لنا" أي: الدليل على جواز الرواية بالمعنى أنه يجوز أن يترجم الأحاديث أي: يشرحها بالفارسية أو غيرها لتعلم الأحكام فلأن يجوز بالعربية أولى؛ لأن ذلك أقرب وأقل تفاوتا وفيه نظر؛ لأن الترجمة جوزت للضرورة وليس ذلك مما يتعلق به اجتهاد واستنباط أحكام، بل هو من قبيل الإفتاء بخلاف الرواية بالمعنى، والأولى الاستدلال بأن الصحابة كانوا ينقلون الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة، وبأنهم ما كانوا يكتبون الأحاديث ولا يكررون عليها بل يروونها بعد أزمان طويلة على حسب الحاجة وذلك موجب لنسيان اللفظ قطعا. احتج الخصم بأن نقل الحديث بالمعنى يؤدي إلى طمسه أي: محو معناه واندراسه كما قال الجوهري فيلزم أن لا يجوز، وبيانه: أن الراوي إذا أراد النقل بالمعنى فغايته أن يجتهد في طلب ألفاظ توافق ألفاظ الحديث في المعنى، والعلماء مختلفون في معاني الألفاظ وفهم دقائقها، فيجوز أن يغفل عن بعض الدقائق وينقله بلفظ آخر لا يدل على تلك الدقيقة، ثم يفرض ذلك في الطبقة الثانية والثالثة وهلم جرا، وحينئذ فيكون التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بينه وبين الأول مناسبة. وأجاب المصنف بأن الكلام في نقله بلفظ مطابق له وعند تطابقاللفظين لا يقع التفاوت قطعا. قال: "الخامسة: إذا زاد أحد الرواة وتعدد المجلس قبلت الزيادة. وكذا إن اتحد وجاز الذهول على الآخرين ولم

ص: 279

بغير إعراب الباقي، وإن لم يجز الذهول لم تقبل، وإن غيّر الإعراب مثل:"في كل أربعين شاة شاة" أو " نصف شاة" طلب الترجيح، فإن زاد مرة وحذف أخرى فالاعتبار بكثرة المرات". أقول: إذا روى اثنان فصاعدا حديثا وانفرد أحدهم بزيادة لم يروها الآخر، نظر فإن كان مجلس راوي الزيادة غير مجلس الممسك عنها فلا إشكال في قبولها، وإن كان المجلس واحدا نظرنا في الذين لا يرون الزيادة فإن كانوا عددا كثيرا لا يجوز في العادة ذهولهم عما ضبطه الواحد رددناها، وإن جاز عليهم الذهول، فإن كانت الزيادة تغير إعراب الباقي كما إذا روى:"في أربعين شاة شاة" وروى الآخر: "نصف شاة" فيتعارضان ويقدم الراجح منهما؛ لأن أحدهما يروي ضد ما يرويه الآخر إذ الرفع ضد الجر، وإن لم يتغير الإعراب قبلت خلافا لأبي حنيفة؛ لأن الراوي عدل ثقة جازم بالرواية فوجب قبولها كما لو انفرد بنقل حديث، ويحمل الحال على أن يكون الممسك عن الزيادة قد دخل في أثناء المجلس، أو على أنه ممن يرى نقل بعض الحديث، أو على أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك الحديث في ذلك المجلس مرتين ولم يحضر في مرة الزيادة، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في:"زكاة الفطر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" 1 فإن التقييد بالمسلمين انفرد به مالك؛ ولذلك لم يشترط أبو حنيفة الإسلام في العبد المخرج عنه، وسكت المصنف عما إذا لم يعلم هل تعدد المجلس أواتخذ؟ قال في الأحكام: الحكم فيه على ما ذكرناه عند الاتحاد وأولى بالقبول؛ نظرا إلى احتمال التعدد وهذا التفصيل الذي ذكره في الكتاب اختاره الآمدي فقط، فإن ابن الحاجب لم يذكر تغير الإعراب وصرح بعدم اشتراطه أبو عبد الله البصري كما نقله عنه الإمام وغيره، وأما الإمام فشرط في القبول مع ما قلناه أن لا يكون الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها، وأن لا يصرح بنفيها، فإن صرح بنفيها فقال: إنه عليه الصلاة والسلام وقف على قوله: "ذكر أو أنثى" ولم يأت بعده بكلام آخر مع انتظاري له فإنهما يتعارضان. ونص الشافعي رحمه الله على قبول الزيادة من غير تعرض لهذا الشرط، وممن نقله عنه كذلك إمام الحرمين في البرهان وفصل بعضهم فقال: إن كان راوي الزيادة واحدا والساكت عنها أيضا واحدا قُبلت، وإن كان الساكت جماعة فلا. واختار الأنباري شارح البرهان أن الراوي إن اشتهر بنقل الزيادات في وقائع فلا تقبل روايته؛ لأنه متهم وإن كان على سبيل الشذوذ قبلت. قال ابن الحاجب: وإذا أسند الحديث وأرسلوه أو رفعه، ووقفوه أو وصله وقطعوه، فحكمه حكم الزيادة في التفصيل السابق. قوله:"فإن زاد" يعني: أن الراوي الواحد إذا زاد في الحديث مرة وحذف أخرى أي: والحال كما تقدم من اتحاد المجلس والإعراب كما صرح به في المحصول، فالاعتبار بكثرة المرات؛ لأن الأكثر أبعد عن السهو، إلا أن

1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 80"، والدارقطني في سننه "1/ 150"، والهندي في كنزالعمال "24126"، والإمام أحمد في مسنده "2/ 277".

ص: 280