الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الراوي: سهوت فيها ثم تذكرت، فتأخذ بالأقل، فإن تساويا أخذنا بالزيادة كما قاله في المحصول؛ لأن السهو في نسيان ما سمع أكثر من إثبات ما لم يسمع. "فرعان" أحدهما: إذا سمع خبرا فأراد نقل بعضه وحذف البعض، فإن لم يكن المحذوف متعلقا بالمذكور كقوله عليه الصلاة والسلام:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" 1 جاز الحذف كما نقله ابن الحاجب عن الأكثرين. وقال الآمدي: إنه لا يعرف فيه خلاف، وإن كان متعلقا به بأن وقع غاية أو سببا أو شرطا فلا يجوز، وذلك كنهيه عن بيع الطعام حتى يجوزه التجار إلى رحالهم. ونقل إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي كلاما صريحا في منع القسم الثاني وظاهرا في جواز الأول. الثاني: اختلفوا في الاحتجاج بالقراءة الشاذة وهي التي لم تنقل بالتواتر؛ فاختار الآمدي وابن الحاجب أنه لا يحتج بها، ونقله الآمدي عن الشافعي، وقال في البرهان: إنه ظاهر مذهب الشافعي؛ لأن الراوي لم ينقلها خبرا، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وخالف أبو حنيفة فذهب إلى الاحتجاج بها وبنى عليه وجوب التتابع في كفارة اليمين؛ لقراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات".
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 995"، وابن حجر في فتح الباري "4/ 85".
الكتاب الثالث: في الإجماع
الباب الأول: في بيان كونه حجة
قال: "الكتاب الثالث: في الإجماع، وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: في بيان كونه حجة، وفيه مسائل: الأولى: قيل: محال كاجتماع الناس في وقت واحد على مأكول واحد، وأجيب بأن الدواعي مختلفة ثمة، وقيل: يتعذر عليه لانتشارهم، وجواز خفاء واحد منهم وخموله وكذبه خوفا، أو رجوعه قبل فتوى الآخر. وأجيب بأنه لا يتعذر في أيام الصحابة، فإنهم كانوا محصورين قليلين". أقول: الإجماع يطلق في اللغة على العزم، قال الله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71] أي: أعزموا وعلى الاتفاق يقال: أجمعوا على كذا أي: اتفقوا عليه، مأخوذا مما حكاه أبو علي الفارسي في الإيضاح أنه يقال: أجمعوا بمعنى صاروا إذا جمع كقولهم: أبقل المكان وأثمر أي: صار ذا بقل وثمر، وفي الاصطلاح ما ذكره المصنف، وهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور. فقوله: اتفاق جنس والمراد به الاشتراك في الاعتقاد والقول أو الفعل أو ما في معناهما من التقرير والسكوت عند من يقول: إن ذلك كافٍ في الإجماع. وقوله: أهل الحل والعقد أي: المجتهدين، فخرج بذلك اتفاق العوام واتفاق بعض المجتهدين، فإنه ليس بإجماع. وقوله: من أمة محمد، احترز به عن اتفاق المجتهدين من الأمم السالفة فإنه ليس بإجماع أيضا كما اقتضاه كلام الإمام وصرح به الآمدي هنا ونقله في اللمع عن الأكثرين. وذهب أبو إسحاق الإسفرائيني وجماعة إلى أن إجماعهم قبل نسخ ملتهم حجة، وحكى الآمدي هذا الخلاف في آخر الإجماع، واختار التوقف، وقوله: على أمر من الأمور، شامل الشرعيات كحل البيع "واللغويات
ككون" الشرعيات كحله البيع، واللغويات ككون الفاء للتعقيب، وللعقليات كحدوث العالم وللدنيويات كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية. فالأولان لا نزاع فيهما، وأما الثالث فنازع فيه إمام الحرمين في البرهان فقال: ولا أثر للإجماع في العقليات، فإن المتبع فيها الأدلة القاطعة، فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق، والمعروف الأول وبه جزم الإمام والآمدي. وأما الرابع ففيه مذهبان شهيران أصحهما عند الإمام والآمدي وأتباعهما كابن الحاجب: وجوب العمل فيه بالإجماع، ولقصد شمول الأربعة أردف المصنف الأمر بالأمور، فإن الأمر المجموع على الأوامر مختص بالقول بخلاف المجموع على الأمور، وذا وإن كان مجازا في الحد لكنه جائز عند فهم المراد كما نص عليه الغزالي في مقدمة المستصفى وهذا الحد فيه نظر من وجوه أحدها: ما أورده الآمدي وابن الحاجب وهو عدم تقييده بكون أهل الحل والعقد من عصر واحد ولا بد منه. الثاني: أن هذا الحد منطبق على اتفاق الأمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بدونه مع أنه قد تقدم من كلام المصنف في النسخ في الكلام على أن الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به أن الإجماع لا ينعقد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد؛ لكونه بعض الأمة وإن وافقهم كان قوله هو الحجة لاستقلاله بإفادة الحكم. نعم الصواب انعقاد الإجماع في الصورة التي ذكرناها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد شهد لأمته بالعصمة كما سيأتي في الأدلة، بل لو شهد بذلك الواحد من أمته لكان قوله وحده حجة قطعا ولم يتعرض الآمدي ولا ابن الحاجب لهذه المسألة. الثالث: المحدود إنما هو الإجماع الاصطلاحي المتناول لقول المجتهد الواحد، إذا لم يكن في العصر غيره، فإن الإمام وأتباعه صرحوا بكونه حجة وتعبير المصنف بالاتفاق ينفيه، فإن الاتفاق إنما يكون من اثنين فصاعدا. نعم حكى الآمدي وابن الحاجب في الاحتجاج به قولين من غير ترجيح، وإذا قلنا بالأول فتغير اجتهاده، ففي الأخذ بالثاني نظر يحتاج إلى تأمل وكذلك لو حدث مجتهد آخر وأداه اجتهاده إلى خلافه. واعلم أن البحث في الإجماع يقع في ثلاثة أمور في: حجيته وأنواعه وشرائطه، فلذلك جعل المصنف هذا الكتاب مشتملا على ثلاثة أبواب لبيان الأمور الثلاثة، وبدأ بالكلام على كونه حجة لكن الاحتجاج به متوقف على بيان إمكانه وإمكان الاطلاع عليه، فلذلك قدم الكلام فيهما، فقوله: قيل محال
…
إلخ يعني أن بعضهم ذهب إلى أن الإجماع محال؛ لأن اجتماع الجم الغفير والخلق الكثير على حكم واحد مع اختلاف قرائحهم، يمتنع عادة كما يمتنع اجتماعهم في وقت واحد على مأكول واحد، وجوابه أن دواعي الناس مختلفة ثمة أي: في المأكول لاختلافهم في الشهوة والمزاج والطبع؛ فلذلك يمتنع اجتماعهم عليه بخلاف الحكم، فإنه تابع للدليل فلا يمتنع اجتماعهم عليه لوجود دليل قاطع أو ظاهر. قوله:"وقيل: يتعذر" أي: ذهب بعضهم إلى أن الإجماع ليس محالا، ولكنه يتعذر الوقوف عليه؛ لأن الوقوف عليه إنما يمكن بعد معرفة أعيانهم، ومعرفة ما غلب على
ظنهم ومعرفة اجتماعهم عليه في وقت واحد، والوقوف على الثلاثة معتذر. أما الأول فلانتشارهم شرقا وغربا، ولجواز خفاء واحد منهم بأن يكون أسيرا أو محبوسا أو مطمورا أو منقطعا في جبل؛ ولأنه يجوز أن يكون فيهم من هو خامل الذكر لا يعرف أنه من المجتهدين، وأما الثاني فلاحتمال أن بعضهم يكذب فيفتي على خلاف اعتقاده؛ خوفا من سلطان جائر أو مجتهد ذي منصب أفتى بخلافه، وأما الثالث فلاحتمال رجوع أحدهم قبل فتوى الآخر. ولأجل هذه الاحتمالات قال الإمام أحمد رضي الله عنه: من ادعى الإجماع فهو كاذب. وأجاب المصنف رحمه الله بأن الوقوف عليه يتعذر في أيام الصحابة -رضوان الله عليهم- فإنهم كانوا قليلين محصورين ومجتمعين في الحجاز، ومن خرج منهم بعد فتح البلاد وكان معروفا في موضعه، وهذا الجواب ذكره الإمام فقال: والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفته إلا في زمان الصحابة، وعلل بما قلناه. نعم ولو فرضنا حصول الإجماع من غير الصحابة، فالأصح عند الإمام والآمدي وغيرهما أنه يكون حجة، وقال أهل الظاهر: لا يحتج إلا بإجماع الصحابة وهو رواية لأحمد. قال: "الثانية: أنه حجة خلافا للنظام والشيعة والخوارج، لنا وجوه: الأول: أنه تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، حيث قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] الآية فيكون محرما فيجب اتباع سبيلهم، إذ لا مخرج عنهما. قيل: رتب الوعيد على الكل قلنا: بل على كل واحد وإلا لما ذكر المخالفة قيل: الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف، قلنا: لا وإن سلم لم يضر؛ لأن الهدى دليل التوحيد والنبوة قيل: لا يوجب تحريم كل ما غاير قلنا: يقتضي لجواز الاستثناء، قيل: السبيل دليل المجمعين قلنا: حمله على الإجماع أولى لعمومه قيل: يجب اتباعهم فيما ساروا به مؤمنين قلنا: حينئذ تكون المخالفة المشاقة قيل: يترك الاتباع رأسا، قلنا: الترك غير سبيلهم، قيل: لا يجب اتباعهم في فعل المباح قلنا: كاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام قيل: المجمعون أثبتوا بالدليل قلنا: خص النص فيه قيل: كل المؤمنين الموجودين إلى يوم القيامة قلنا: بل في كل عصر؛ لأن المقصود العمل ولا عمل في القيامة". أقول: ذهب الجمهور إلى أن الإجماع حجة يجب العمل به، خلافا للنظام والشيعة والخوارج، فإنه وإن نقل عنهم ما يقتضي الموافقة لكنهم عند التحقيق مخالفون. أما النظام فإنه لم يفسر الإجماع باتفاق المجتهدين كما قلنا، بل قال كما نقله عنه الآمدي: إن الإجماع هو كل قول يحتج به. وأما الشيعة فإنهم يقولون: إن الإجماع حجة لا لكونه إجماعا بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم وقوله: بانفراده عندهم حجة كما سيأتي في كلام المصنف. وأما الخوارج فقالوا كما نقله القرافي في الملخص: إن إجماع الصحابة حجة قبل حدوث الفرقة، وأما بعدها فقالوا: الحجة في إجماع طائفتهم لا غير؛ لأن العبرة بقول المؤمنين ولا مؤمن عندهم إلا من كان على مذهبهم. وكلام المصنف تبعا للإمام يقتضي أن النظام يسلم إمكان الإجماع
وإنما يخالف في حجيته، والمذكور في الأوسط لابن برهان ومختصر ابن الحاجب وغيرهما أنه يقول باستحالته. قوله:"لنا" أي: الدليل على كونه حجة من ثلاثة أوجه، الأول وقد تمسك به الشافعي في الرسالة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ووجه الدلالة أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد حيث قال: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} فيلزم أنيكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرما؛ لأنه لو لم يكن حراما لما جمع بينه وبين المحرم الذي هو المشاقة في الوعيد، فإنه لا يحسن الجمع بين حرام وحلال في وعيد بأن تقول مثلا: إن زنيت وشربت الماء عاقبتك، وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتباع سبيلهم؛ لأنه لا مخرج عنهما أي: لا واسطة بينهما، ويلزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع حجة؛ لأن سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد. قوله: "قيل: رتب الوعيد
…
إلخ" أي: اعترض الخصم بتسعة أوجه، أحدها: أن الله تعالى رتب الوعيد على الكل أي: على المجموع المركب من المشاقة، واتباع غير سبيل المؤمنين، فيكون المجموع هو المحرم، ولا يلزم من تحريم المجموع تحريم كل واحد من أجزائه كتحريم الأختين. والجواب: أنا لا نسلم أنه رتب الوعيد على الكل بل على كل واحد، إذ لو لم يكن مرتبا على كل واحد لكان ذكر مخالفة المؤمنين يعني: اتباع غير سبيلهم لغوا لا فائدة له؛ لأن المشاقة مستقلة في ترتب الوعيد وكلام الله سبحانه وتعالى يصان عن اللغو، وهذا الجواب ليس في المحصول، ولا في الحاصل وهو أولى مما قالاه. الثاني: سلمنا أن الوعيد مرتب على كل واحد منهما، لكن لانسلم تحريم اتباع غير سبيلهم مطلقا بل بشرط تبين الهدى، فإن تبين الهدى شرط في المعطوف عليه، لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} والشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف؛ لكونه في حكمه، والهدى عام لاقترانه بال فيكون حرمة اتباع غير سبيل المؤمنين متوقفة على تبين جميع أنواع الهدى، ومن جملة أنواع الهدى دليل الحكم الذي أجمعوا عليه وإذا تبين استغني به عن الإجماع، فلا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة. وأجاب المصنف رحمه الله بوجهين أحدهما: لا نسلم أن كل ما كان شرطا في المعطوف عليه يكون شرطا في المعطوف، بل العطف إنما يقتضي التشريك في مقتضى العامل إعرابا ومدلولا كما تقدم غير مرة. الثاني: سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في المعطوف لكن لا يضرنا ذلك، فإنه لا نزاع في أن الهدى المشروط في تحريم المشاقة إنما هو دليل التوحيد والنبوة لا أدلة الأحكام الفرعية، فيكون هذا الهدى شرطا في اتباع غير سبيل المؤمنين، ونحن نسلمه. الاعتراض الثالث: سلمنا أن قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يوجب تحريم المخالفة، لكن لفظ {غَيْرَ} و {سَبِيلِ} مفردان، والمفرد لا عموم له فلا يوجب ذلك تحريم كل ما غاير سبيلهم، بل يصدق
بصورة وهو الكفر ونحوه مما لا خلاف فيه. والجواب: أنه يقتضي العموم لما فيه من الإضافة ويدل عليه أنه يصح الاستثناء منه فيقال: إلا سبيل كذا والاستثناء معيار العموم. واعلم أن إضافة {غَيْرَ} ليست للتعريف على المشهور، وفي التعميم بمثلها نظر يحتاج إلى تأمل، فقد يقال: إن هذه الإضافة لا تقتضيه، ويكون العموم تابعا للتعريف كما كان الإطلاق تابعا للتنكير، وكما لو زيدت لام التعريف في الجمع من الجموع، فإنها لا تقتضي التعميم لعدم التعريف. الرابع: لا نسلم أن السبيل هو قول أهل الإجماع بل دليل الإجماع، وبيانه: أن السبيل لغة هو الطريق الذي يمشى فيه، وقد تعذرت إرادته هنا فتعين الحمل على المجاز، وهو إما قول أهل الإجماع، أو الدليل الذي لأجله أجمعوا، والثاني أولى لقدم العلاقة بينه وبين الطريق، وهو كون كل واحد منهما موصلا إلى المقصد. وأجاب المصنف بأن السبيل أيضا يطلق على الإجماع؛ لأن أهل اللغة يطلقونه على ما يختاره الإنسان لنفسه من قول أو فعل، ومنه قوله تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] وإذا كان كذلك فحمله على الإجماع أولى لعموم فائدته، فإن الإجماع يعمل به المجتهد والمقلد، وأما الدليل فلا يعمل به سوى المجتهد، وهذا الجواب ذكره صاحب الحاصل فتبعه المصنف، وهو أحسن مما قاله الإمام. وفي كثير من النسخ التي اعتمد عليها جمع من الشارحين، جواب غير هذا وهو أنه يلزم منه أن تكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة؛ لأن دليل الإجماع هو الكتاب والسنة، وهذا الجواب سيأتي في كلام المصنف جوابا عن سؤال آخر، لكن على تقدير آخر، فسقط ذلك السؤال مع جواب السؤال الذي نحن الآن فيه. الخامس: لا نسلم أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين في كل شيء، بل في السبيل الذي صاروا به مؤمنين، ويدل عليه أن الآية الكريمة نزلت في رجل ارتدّ ولأنه إذا قيل: لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من ترك الأسباب التي بها صاروا صالحين دون غيرها، كالأكل والشرب، وأجاب المصنف بأنه يلزم حينئذ أن تكون مخالفة سبيل المؤمنين هي المشاقة فإنه لا معنى لمشاقة الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ترك الإيمان، وسمي بذلك لأنه في شق أي: في جانب، والرسول صلى الله عليه وسلم في جانب آخر. فلو حمل على هذا للزم التكرار. السادس: سلمنا تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين، لكن لا نسلم وجوب اتباع سبيلهم، وقولهم: إنه لا مخرج عنها ممنوع، فإن بينهما واسطة وهي أن يترك الاتباع أصلا ورأسا، فلا يتبع سبيل المؤمنين ولا سبيل غيرهم، والجواب: أن ترك الاتباع بالكلية غير سبيلهم أيضا فمن اختاره لنفسه قفد اتبع غير سبيلهم، وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل وفيه نظر؛ فإن اتباع الغير هو إثباته بمثل فعله لكونه أتى به، فمن ترك اتباع سبيل المؤمنين لأجل أن غير المؤمنين تركوه كان متبعا غير سبيل المؤمنين، وأما عن تركه لعدم الدليل على اتباع المؤمنين فلا يكون متبعا لأحد، وحينئذ فلا يدخل تحت الوعيد، وأجاب الإمام بجواب آخر وهو
أن قول القائل: لا تتبع غير سبيل الصالحين لا يفهم منه في العرف سوى الأمر باتباع سبيل الصالحين حتى لو قال: لا تتبع غير سبيلهم ولا تتبع سبيلهم أيضا، لكان ركيكا، نعلم لو أخر لفظة الغير فقال: لا تتبع سبيل غير الصالحين، فإنه لا يفهم منه الأمر باتباع سبيلهم؛ ولهذا يصح النهي عنه أيضا. السابع: سلمنا وجوب الاتباع، لكنه لا يجب في كل الأمور؛ لأنهم لو أجمعوا على فعل مباح لا يجب متابعتهم على فعله، وإلا لكان المباح واجبا وإذا لم يجب اتباعهم في الكل لم يلزم اتباعهم فيما أجمعوا عليه؛ لجواز أن يكون المراد هو الإيمان أو غيره مما اتفقنا عليه. وأجاب المصنف بقوله: قلنا: كاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل وتقريره من وجهين، أحدهما: أن اتباعهم في المباح أيضا واجب، ومعنى وجوبه هو ما قلناه في وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في المباح، وهو اعتقاد إباحته وأن يفعله على جهة الإباحة لا على جهة أخرى. الثاني: أن قيام الدليل على وجوب اتباعهم في كل الأمور كقيام الدليل على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكما أن المباح قد أخرج من عموم التأسي لدليل ولم يقدح في الدلالة على الباقي، فكذلك الأول. والثامن: لا نسلم أيضا أن المتابعة تجب في كل الأمور؛ وذلك لأن المجتمعين إنما أثبتوا الحكم المجمع عليه بالدليل لا بإجماعهم، لما ستعرفه من أن الإجماع موقوف على الدليل، وحينئذ فنقول: إن وجب علينا إثبات ذلك الحكم بإجماعهم لا بالدليل، كان ذلك اتباعا لغير سبيلهم وهو لا يجوز، وإن وجب إثباته بالدليل لم يكن الإجماع بنفسه دليلا مستقلا وهو خلاف المدعي، وأيضا فإنكم لا تقولون بوجوب إثباته بالدليل، وأجاب المصنف بأن اتباعهم واجب في كل شيء إلا ما خص بدليل، وهذه الصورة قد خصت بالاتفاق؛ لأن الحكم قد ثبت بإجماعهم، وإذا ثبت فلا يحتاج في إثباته إلى دليل آخر. التاسع: سلمنا ما قلتم، لكن الآية تدل على وجوب اتباع سبيل كل المؤمنين؛ لأن لفظ {الْمُؤْمِنِينَ} جمع محلى بالألف واللام، فيفيد العموم وكل المؤمنين هم الموجودون إلى يوم القيامة، فلا يكون إجماع أهل العصر الواحد حجة لكونهم بعض الأمة. وأجاب المصنف بأن المراد بالمؤمنين هم الموجودون في كل عصر، فإن الله تعالى لما علق العقاب على مخالفتهم زجرا عنها وترغيبا في الأخذ بقولهم، علمنا أن المقصود هو العمل، فانتفى أن يكون المراد جميع المؤمنين الموجودين إلى يوم القيامة؛ لأنه لا عمل في يوم القيامة. قال:"الثاني: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] عدلهم فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا، كبيرة وصغيرة، بخلاف تعديلنا قيل: العدالة فعل العبد والوسط فعل الله تعالى. قلنا: فعل العبد فعل الله تعالى على مذهبنا قيل: عدول وقت أداء الشهادة. قلنا: حينئذ لا مزية لهم فإن الكل يكونون كذلك. الثالث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على خطأ" ونظائره، فإنها وإن لم تتواتر آحادها لكن المشترك بينها متواتر، والشيعة عدلوا عليه لاشتماله على قول الإمام المعصوم". أقول: الدليل الثاني على أن
الإجماع حجة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وتقريره أن الله تعالى عدل هذه الأمة؛ لأنه تعالى جعلهم وسطا وقد قال الجوهري: والوسط من كل شيء أعدله، قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدولا هذا لفظه، ولأنه تعالى علل ذلك بكونهم شهداء والشاهد لا بد وأن يكون عدلا. وهذا التعديل الحاصل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها بالضرورة لكون نفيه عن واحد مستلزما لنفيه عن المجموع، لكنه ليس المراد تعديلهم فيما ينفرد به كل واحد منهم؛ لأنا نسلم بالضرورة خلافه فتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه، وحينئذ فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا، صغيرة وكبيرة؛ لأن الله تعالى يعلم السر والعلانية، فلا يعدلهم من ارتكابهم بعض المعاصي، بخلاف تعديلنا فإنه قد لا يكون كذلك لعدم اطلاعنا عن الباطن. واعترض الخصم بوجهين أحدهما: أن العدالة فعل العبد؛ لأنها عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المنهيات، والوسط فعل الله تعالى لقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] فيكون الوسط غير العدالة، فلا يكون جعلهم وسطا عبارة عن تعديلهم، وكيف والمعدل لا يجعل الرجل عدلا ولكن يخبر عن عدالته، وجوابه أن فعل العبد من أفعال الله تعالى على مذهب أهل الحق لما تقرر في علم الكلام أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. الثاني: سلمنا أن الله تعالى عدلهم، لكن تعديلهم ليشهدوا على الناس يوم القيامة بأن الأنبياء بلغوهم الرسالة، وعدالة الشهود إنما تعتبر وقت أداء الشهادة لا قبلها، فتكون الأمة عدولا في الآخرة لا في الدنيا ونحن نسلمه، والجواب أن سياق الآية يدل على تخصيص هذه الأمة بالتعديل وتفضيلهم على غيرها، فيتعين حمله على الدنيا؛ لأنا لو حملناه على الآخرة لم يكن لهم مزية لأن كل الأمم إذ ذاك عدول، وفي الجواب نظر لأن الله تعالى قد أخبر عن بعض أهل الموقف بإنكار المعاصي وإنكار التبليغ إليهم، بل الجواب أن يقول: العدالة لا تتحقق إلا مع التكليف، ولا تكليف في الدار الآخرة، ويؤيده قوله تعالى:{جَعَلْنَاكُمْ} ولم يقل: سنجعلكم. نعم لقائل أن يقول: إن الآية لا تدل على المدعي؛ لأن العدالة لا تنافي صدور الباطل غلطا ونسيانا، سلمنا أن كل ما أجمعوا عليه حق لكن لا يلزم المجتهد أن يتبع كل ما كان حقا في نفسه بدليل أن المجتهد لا يتبع مجتهدا آخر وإن قلنا: كل مجتهد مصيب. قوله: "الثالث" أي: الدليل الثالث على أن الإجماع حجة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" ونظيره من الأحاديث كقوله: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" 1 وكقوله: "سألت الله تعالى أن لا تجتمع أمتي على الضلالة، فأعطانيها" 2 وكقوله: "لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال" وروي: "ولا على خطأ" وكقوله: "يد الله مع الجماعة" 3 إلى غير ذلك، فإن هذه الأحاديث وإن لم
1 أخرجه العجلوني في كشف الخفاء "2/ 488"، والسيوطي في الدرر المنتثرة "180".
2 أخرجه أحمد في مسنده "6/ 396"، والسيوطي في الدر المنثور "3/ 18".
3 أخرجه الترمذي "2166"، والهندي في كنز العمال "20241".
يتواتر كل واحد منهما، لكن القدر المشترك بينهما وهو عصمة الأمة متواتر لوجوده في هذه الأخبار الكثيرة. وهذا الدليل ساقط في كثير من النسخ، وادعى الآمدي أنه أقرب الطرق في إثبات كونه حجة قاطعة، وقال ابن الحاجب: الاستدلال به حسن، وضعفه الإمام فقال: دعوى التواتر المعنوي بعيد؛ لأنا لا نسلم أن مجموع هذه الأخبار بلغ حد التواتر فما الدليل عليه؟ وبتقديره فهو إنما يفيد الظهور؛ لأن القدر المشترك الثابت بالقطع إنما هو الثناء على الأمة، ولم يلزم منه امتناع الخطأ عليهم، فإن التصريح بامتناعه لم يرد في كل الأحاديث، وقد تلخص أن الأدلة التي قالها المصنف إنما يحسن الاستدلال بها إذا قلنا: إن الإجماع ظني كما صححه الإمام وأتباعه، واقتضاه كلام الآمدي، ولكن الأكثرون على أنه قطعي. قوله:"والشيعة عوَّلوا عليه" يعني: أن الشيعة ذهبوا إلى أنه يجب أن يكون في كل زمان إمام يأمر الناس بالطاعات ويردعهم عن المعاصي، وذلك الإمام لا بد أن يكون معصوما وإلا لافتقر إلى إمام آخر ولزم التسلسل، وإذا كان الإمام معصوما كان الإجماع حجة لاشتماله على قوله؛ لأنه رأس الأمة ورئيسها لا لكونه إجماعا، وجوابه: أن ذلك مبني على وجوب مراعاة المصالح سلمنا لكن الردع إنما يحصل بنصب إمام ظاهر قاهر، وهم يجوزون أن يكون خفيا خاملا ويجوزون عليه الكذب أيضا خوفا وتقية، وذلك كله ينافي المطلوب وهذه المسألة محلها علم الكلام؛ فلذلك لم يشتغل المصنف بالجواب عنها. قال:"الثالثة: قال مالك رضي الله عنه: إجماع أهل المدينة حجة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة لتنفي خبثها" 1 وهو ضعيف. الرابعة: قال الشيعة: إجماع العترة حجة لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32] وهم: علي وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم؛ لأنها لما نزلت لف عليه الصلاة والسلام عليهم كساء وقال: "هؤلاء أهل بيتي" 2 ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي" 3. أقول: ذهب الإمام مالك إلى أن إجماع أهل المدينة حجة أي: إذا كانوا من الصحابة أو التابعين دون غيرهم، كما نبه عليه ابن الحاجب، قال: واختلفوا في المراد من كونه حجة؛ فمنهم من قال: المراد أن روايتهم راجحة على رواية غيرهم؛ لكونهم أخبر بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: المراد أن إجماعهم حجة في المنقولات المشتهرة خاصة، كالأذان والإقامة والصاع والمدّ دون غيرها، ورجحه القرافي في تنقيحه قال: والصحيح التعميم في هذا وفي غيره؛ لأن العادة تقضي بأن
1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج "487"، وأحمد في مسنده "3/ 306"، والهندي في كنز العمال "38136".
2 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه "10/ 278"، والسيوطي في الدر المنثور "5/ 198"، وابن كثير في البداية والنهاية "6/ 153".
3 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "9/ 163"، والهندي في كنز العمال "873"، والإمام أحمد في مسنده "3/ 14".
مثل هؤلاء لا يجتمعون إلا على دليل راجح، واستدل عليه الإمام وأتباعه بقوله عليه الصلاة والسلام:"إن المدينة لتنفي خبثها""ووجه الاستدلال" أن الحديث قد دل على انتفاء الخبث عن المدينة والخطأ خبث، فيجب أن يكون منفيا عن أهلها فإنه لو كان في أهلها لكان فيها، وإذا انتفى عنهم الخطأ كان إجماعهم حجة. قوله:"وهو ضعيف" أي: الاستدلال بالحديث لا الحديث نفسه، فإنه ثابت في الصحيحين وإن كان بغير هذا اللفظ، وأقرب لفظ إليه ما رواه البخاري:"إنما المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها" وقد ضعف ابن الحاجب الاستدلال بهذا الحديث أيضا ولم يبين ما ضعفه، ووجهه أن الحمل على الخطأ متعذر لمشاهدة وقوعه من أهلها. قال إمام الحرمين: ولو اطلع مطلع على ما يجري بين لابتيها من المخازي لقضى العجب، وأيضا فلا نسلم أن الخطأ خبث لأن الخطأ معفو عنه والخبث منهي عنه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:"الكلب خبيث، وخبيث ثمنه" وكقوله: "مهر البغي خبيث" ونحوه، فيكون أحدهما غير الآخر. وقد انتصر في المحصول لمالك وقوى هذا الدليل وقال: إن مذهبه فيه ليس ببعيد، وذهب بعضهم كما حكاه الآمدي وغيره إلى أن إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين البصرة والكوفة حجة على غيرهم، وقيل: بل إجماع الكوفة والبصرة فقط حكاه الشيخ أبو إسحاق في اللمع، وقيل: إجماع الكوفة وحدها كما نقل حكاية عن ابن حزم، وقيل: إجماع الكوفة وحدها أو البصرة وحدها كما نقله بعض شراح المحصول. المسألة الرابعة: ذهبت الشيعة كالإمامية والزيدية إلى أن إجماع العترة حجة وأرادوا بالعترة عليا وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين وهي بالتاء المثناة واحتجوا بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ووجه الاستدلال أن الله تعالى أخبر عن نفي الرجس عن أهل البيت والخطأ رجس، فيكون منفيا عنهم، وإذا كان الخطأ منفيا عنهم كان إجماعهم حجة، وأهل البيت هم: علي وفاطمة وابناهما رضي الله عنهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لف عليهم كساء لما نزلت هذه الآية وقال: "هؤلاء أهل بيتي" وأيضا فقد نقله ابن عطية في تفسيره1 عن الجمهور. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي" فإنه كما دل على أن الكتاب حجة، دل على أن قول العترة حجة، ولم يشتغل المصنف بالجواب عما ذكروه، فنقول: الجواب عن الآية أنا لا نسلم انتفاء الرجس في الدنيا لجواز أن يكون المراد به نفي العذاب في الآخرة، سلمنا لكن لا نسلم أن الخطأ رجس، سلمنا لكن المراد بأهل البيت هؤلاء مع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإن ما قبل الآية وما
1 ابن عطية: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، من محارب قيس، الغرناطي، أبو محمد، مفسر وفقيه، أندلسي، عارف بالأحكام والحديث، وتوفي في بلورقة عام "481هـ"، وله المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، في عشرة مجلدات "الأعلام 3/ 282".
بعدها يدل عليه. وأما ما قبلها فقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32] إلى قوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأما ما بعدها فقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية، وحينئذ فليس في الآية دليل على أن إجماع العترة وحدهم حجة. والجواب عن الحديث ما قاله في المحصول: إنه من باب الآحاد والعمل بها عندهم ممتنع. قال: "الخامسة: قال القاضي أبو حازم: إجماع الخلفاء الأربعة حجة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" 1 وقيل: إجماع الشيخين لقوله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" 2 والسادسة: يستدل بالإجماع فيما لا يتوقف عليه كحدوث العالم ووحدة الصانع لا كإثباته". أقول: ذهب القاضي أبو حازم والإمام أحمد كما نقله عنه ابن الحاجب إلى أن إجماع الخلفاء الأربعة، يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم حجة مع خلاف غيرهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" رواه أبو داود وكذا الترمذي وصححه هو والحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين، لكن الرواية:"فعليكم" وهو من جملة حديث طويل. ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين كما أمر باتباع سنته، والخلفاء الراشدون هم الخلفاء الأربعة المذكورون لقوله عليه الصلاة والسلام:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير ملكا عضوضا " 3 وكانت مدة خلافتهم ثلاثين سنة، فثبت المدعي وأبو خازم -بالخاء المعجمة والزاي- من الحنفية، تولى القضاء في خلافة المعتضد، ولأجل مذهبه لم يعتد بخلاف زيد في توريث ذوي الأرحام وحكم برد أموال حصلت في بيت المعتضد وقبل المعتضد فتياه، وأنفذ قضاءه، وكتب إلى الآفاق وذهب بعضهم إلى أن إجماع الشيخين أبي بكر وعمر حجة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" رواه الترمذي وقال: حديث حسن. والجواب عن الحديثين أن المراد منهما بيان أهليتهم لاتباع المقلدين لهم لا أن إجماعهم حجة، وبأنهما معارضان بنحو قوله عليه الصلاة والسلام:"خذوا شطر دينكم عن الحميراء" 4 يعني عائشة رضي الله عنها مع أن قولها ليس بحجة. المسألة السادسة: في بيان ما يثبت بالإجماع وما لا يثبت به، فنقول: كل شيء لا يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به، يجوز أن
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "4/ 126، 127"، والمنذري في الترغيب والترهيب "1/ 78"، وأبو داود في سننه، كتاب السنة باب "5".
2 أخرجه ابن ماجه في سننه "97"، وأحمد في المسند "5/ 382"، والهيثمي في مجمع الزوائد "9/ 53"، والهندي في كنز العمال "3656"، "36853".
3 أخرجه أبو داود بلفظ: "خلافة النبوة ثلاثون سنة""3/ 3882".
4 أخرجه العجلوني في كشف الخفاء "1/ 449"، والسيوطي في الدرر المنتثرة "79"، والفتني في تذكرة الموضوعات "100".