الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثاني: في السنة
الباب الأول: الكلام في أفعاله
قال: "الكتاب الثاني: في السنة، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله وقد سبق مباحث القول، والكلام الآن في الأفعال وطرق ثبوتها وذلك في بابين، الباب الأول: في الكلام في أفعاله، وفيه مسائل الأولى: أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- معصومون لا يصدر عنهم ذنب إلا الصغائر، والتقرير مذكور في كتابي المصباح". أقول: السنة لغة هي العادة والطريقة قال الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 137] أي: طرق، وفي الاصطلاح تطلق على ما يقابل الفرض من العبادات وعلى ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال أو الأقوال التي ليست للإعجاز وهذا هو المراد هنا. ولما كان التقرير عبارة عن الكف عن الإنكار، والكف فعل كما تقدم، استغنى المصنف عنه به أي: عن التقرير بالفعل، وإنما أتى بـ"أو" الدالة على التقسيم للإعلام بأن كلا من القول والفعل يطلق عليه اسم السنة، وقد سبق مباحث القول بأنواعها من الأمر، والنهي، والعام، والخاص، وغيرها. والكلام الآن في الأفعال وفي الطرق التي ثبتت الأفعال بها وهي الأخبار، وجعل المصنف ذلك فيما بين الأول في الأفعال والثاني في الأخبار، وقدم الكلام في الأخبار على الكلام في الإجماع وإن كان مخالفا لأصلية الحاصل والمحصول؛ لئلا يتخلل بين أفعاله عليه الصلاة والسلام وبين طرق ثبوتها مباحث أجنبية، وذكر في الباب الأول خمس مسائل، الأولى: في عصمة الأنبياء عليهم السلام وهي مقدمة لما بعدها؛ لأن الاستدلال بأفعالهم متوقف على عصمتهم، فنقول: اختلفوا في عصمتهم قبل النبوة فقال الآمدي: الحق وهو ما ذهب إليه القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا أنه لا يمتنع عليهم ذنب سواء كان كفرا أو غيره، وأما بعد النبوة فقد أجمعوا كما قال الآمدي على عصمتهم من تعمد الكذب في الأحكام. قال: فإن كان غلطا فالأشبه الجواز، وأجمعوا أيضا إلا بعض المبتدعة على عصمتهم من تعمد الكبائر، وتعمد الصغائر الدالة على الخسة كسرقة كسرة، وما عدا ذلك فقد اختلفوا فيه
على أقوال أحدها: أنهم معصومون من الكبائر عمدا وسهوا، ومن الصغائر عمدا لا سهوا وبه جزم المصنف واختاره صاحب الحاصل. والثاني: أنهم معصومون عن تعمد الذنب مطلقا دون سهوه، سواء كان صغيرة أو كبيرة لكن بشرط أن يتذكروه وينبهوا غيرهم عليه، وهو مقتضى كلام المحصول والمنتخب. والثالث وهو طريقة الآمدي: أنهم معصومون عن تعمد الكبائر فقط. قال: فأما صدور الكبيرة لنسيان أو تأويل خطأ، فقد اتفق الكل على عدم جوازه سوى الرافضة، وأما الصغيرة فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمدا أو سهوا. هذا كلامه في الأحكام ومنتهى السول، وهو معنى كلام ابن الحاجب أيضا، قالا: والعصمة ثابتة بالسمع عند الأكثرين خلافا للمعتزلة حيث قالوا: إنها ثابتة بالعقل أيضا. وهذه المسألة من علم الكلام؛ فلذلك أحال المصنف تقريرها على كتابه المسمى بالمصباح. قال: "الثانية: فعله المجرد يدل على الإباحة عند مالك، والندب عند الشافعي، والوجوب عند ابن سريج وأبي سعيد الإصطخري وابن خيران، وتوقف الصيرفي وهو المختار؛ لاحتمالها واحتمال أن يكون من خصائصه". أقول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوها فلا نزاع في كونها على الإباحة أي: بالنسبة إليه وإلى أمته كما قاله الآمدي وتركه المصنف لوضوحه، وما سوى ذلك إن ثبت كونه من خصائصه فواضح أيضا، وإن لم يثبت ذلك وكان بيانا لمجمل فحكمه في الإيجاب، وغيره حكم الذي بينه، كما سيأتي في كلام المصنف؛ ولذلك أهمله هنا، وإن لم يكن بيانا وعلمنا صفته بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب والندب والإباحة إما ببيانه، أو بقرينة الامتثال، أو غير ذلك، فحكم أمته كحكمه كما نقله الإمام عن جمهور الفقهاء والمعتزلة، ونقله الآمدي عن جمهور الفقهاء والمتكلمين، واختاره ويعبر عن هذا المذهب بأن التأسي واجب أي: يجب علينا فعله إن كان واجبا، فاعتقاد ندبيته أو إباحته إن كان مندوبا أو مباحا، وقيل: لا يكون حكمنا كحكمه مطلقا، وقيل: إن عبادة وجب التأسي به وإلا فلا، وإن لم تعلم صفته نظر فيه إن قصد القربة فإنه يدل على الندب عند الإمام وأتباعه، ومنهم المصنف. وقد صرحوا به في المسألة الثالثة وعبر عنه المصنف هناك بقوله: والندب بقصد القربة مجردا، وقيل بأنه للوجوب ونقله القرافي عن مالك وقيل بالتوقف. وأما إذا لم يظهر فيه قصد القربة ففيه أربعة مذاهب، وهذا القسم هو الذي تكلم فيه المصنف واحترز عن جميع ما تقدم بقوله: فعله المجرد. فقال مالك: يدل على إباحة ذلك الشيء وجزم به الإمام في الكلام على جهة الفعل، وستقف عليه بعد هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وقال الشافعي: يدل على الندب، وقال ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري1 وابن
1 أبو سعيد الإصطخري: الحسن بن أحمد بن يزيد، فقيه شافعي، كان من نظراء ابن سريج، ولي القضاء، واستقضاه المقتدر على سجستان، له الفرائض، والشروط، والوثائق، وأدب القضاء، توفي سنة "338 هـ"، "الأعلام: 2/ 179".
خيران1 الشافعيون: يدل على الوجوب واختاره الإمام في المعالم، وقال أبو بكر الصيرفي: لا يدل على شيء من الأحكام بالتعيين؛ لاحتمال هذه الأمور الثلاثة، واحتمال أن لا يكون من خصائصه فيتوقف إلى ظهور البيان، واختاره في المحصول هنا وتبعه عليه المصنف، وهذه المذاهب الأربعة حكاها الآمدي أيضا في الفعل الذي ظهر فيه قصد القربة. ثم قال: والمختار أنه إن ظهر فيه قصد القربة فهو دليل في حقه وحق أمته على القدر المشترك بين الواجب والمندوب، وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير، وأما ما اختص به كل واحد منهما فمشكوك فيه، وإن يظهر فيه قصد القربة فهو دليل على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح، وهو رفع الحرج عن الفعل لا غير، والذي يمتاز به كل واحد منهما مشكوك فيه أيضا، هذا حاصل كلامه. وقال ابن الحاجب: المختار أنه إن ظهر قصد القربة فهو الندب، وإلا فللإباحة. واعلم أن إثبات قول بإباحته مع ظهور قصد القربة فيه إشكال ظاهر. قال:"احتج القائل بالإباحة بأن فعله لا يكره ولا يحرم، والأصل عدم الوجوب والندب فبقي الإباحة. ورد بأن الغالب على فعله الوجوب أو الندب، وبالندب بأن قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] يدل على الرجحان، والأصل عدم الوجوب، وبالوجوب بقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] ، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] . وإجماع الصحابة على وجوب الفعل بالتقاء الختانين لقول عائشة: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا"2 وأجيب بأن المتابعة هي الإتيان بمثل ما فعلوه على وجهه، {وَمَا آتَاكُمُ} معناه: أمركم بدليل {وَمَا نَهَاكُمْ} ، واستدلال الصحابة بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" ". أقول: استدل القائلون بأن فعله المجرد يدل على الإباحة، بأن فعله لا يكون حراما ولا مكروها لأن الأصل عدمه، ولأن الظاهر خلافه، فإن وقوع ذلك من آحاد عدول المسلمين نادر فكيف من أشراف المسلمين؟ وحينئذ فإما أن يكون واجبا أو مندوبا أو مباحا والأصل عدم الوجوب والندب؛ لأن رفع الحرج عن الفعل والترك ثابت وزيادة الوجوب والندب لا تثبت إلا بدليل ولم يتحقق فتبقى الإباحة. وأجيب بأن الغالب على فعله الوجوب أو الندب، فيكون الحمل على الإباحة حملا على المرجوح وهو ممتنع، ولك أن تقول: يلزم من عدم الحمل على الإباحة لمرجوحيتها عدم إدخالها في التوقف بالضرورة، والمصنف قد خالف بينهما. لا جرم أن الإمام لم يحجب بهذا، وإنما أجاب به في الحاصل فتبعه
1 ابن خيران: الحسين بن صالح بن خيران، الفقيه الشافعي، كان من جملة الفقهاء المتورعين وأفاضل الشيوخ، عرض عليه القضاء في خلافة المقتدر فلم يقبل، وكانت وفاته عام "320هـ" وقيل: في حدود "310هـ، "وفيات الأعيان: 2/ 114".
2 أخرجه ابن حبان في صحيحه "3/ 1181"، والإمام أحمد في مسنده "6/ 68"، والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير "1/ 134".
المصنف عليه. قوله: "وبالندب" أي: واحتج القائل بالندب بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 41] فإن وصف الأسوة بالحسنة يدل على الرجحان، والوجوب منتفٍ لكونه خلاف الأصل، ولقوله:{لَكُمْ} لم يقل عليكم فتعين الندب ولم يجب المصنف هنا عن هذا بل جمع بينه وبين دليل الإيجاب، وأجاب عنهما بجواب واحد، وهو أن الأسوة والمتابعة شرطهما العلم بصفة الفعل كما سيأتي. قوله:"وبالجوب" أي: واحتج القائل بالوجوب بالنص والإجماع. أما النص فلأمور منها قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} والأمر للوجوب. ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] فإنه يدل على أن محبة الله تعالى مستلزمة للمتابعة، ومحبة الله تعالى واجبة إجماعا، ولازم الواجب واجب، فتكون المتابعة واجبة. ومنها قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ووجه الدلالة على أن الأخذ هنا معناه الامتثال، ولا شك أن الفعل الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آتانا إياه فيكون امتثاله واجبا للآية، وأما الإجماع فلأن الصحابة اختلفوا في وجوب الغسل من الجماع بغير إنزال، فسأل عمر عائشة رضي الله عنها فقالت:"فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا" فأجمعوا على الوجوب، وأجيب عن الدليلين الأولين بوجهين أحدها: أن المتابعة المأمور بها مطلقة لا عموم لها. الثاني وعليه اقتصر المصنف: أن المتابعة هي الإتيان بمثل فعله على الوجه الذي أتى به من الوجوب، أو غيره حتى لو فعله الرسول على قصد الندب مثلا ففعلناه على قصد الإباحة أو الوجوب، لم تحصل المتابعة؛ وحينئذ فيلزم أن يكون الأمر بالمتابعة موقوفا على معرفة الجهة، فإذا لم تعلم لم نكن مأمورين بها. وفي المحصول والأحكام وغيرهما أن التأسي والمتابعة معناهما واحد؛ فلذلك جعل المصنف جواب المتابعة جوابا عن التأسي الذي استدل به القائل بالندب كما تقدم. وذكر الآمدي للمتابعة والتأسي شرطا ثالثا فقال: هو الإتيان بمثل ما فعل الغير على الوجه الذي أتى به لكونه أتى به، إذ لا يقال في أقوام صلوا الظهر مثلا: إن أحدهم تأسى بالآخر، وهذا الشرط ذكره أيضا الإمام في الكلام على حجية الإجماع. والجواب عن الآية الثالثة أن قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ} معناه وما أمركم، ويدل عليه أنه ذكر في مقابلته قوله:{وَمَا نَهَاكُم} ، وأما الإجماع على وجوب الغسل فأجاب عنه صاحب الحاصل بأن الصحابة لم يرجعوا إلى مجرد الفعل. قال: بل لأنه فعل في باب المناسك، وقد كانوا مأمورين بأخذ المناسك عنه لقوله:"خذوا عني مناسككم" هذا لفظه فتبعه عليه المصنف وهو جواب صحيح، فإنه وإن كان سبب وروده إنما هو الحج لكن اللفظ عام. قال الجوهري: والنسك العبادة، والناسك العابد. قال: "الثالثة: جهة فعله تعلم إما بتنصيصه أو بتسويته بما علم جهته أو بما علم أنه امتثال آية دلت على أحدها أو بيانها، وخصوصا الوجوب بأماراته كالصلاة بأذان وإقامة، وكونه موافقة نذر، أو ممنوعا لو لم يجب
كالركوعين في الخسوف، والندب بقصد القربة مجردا، وكونه قضاء لمندوب". أقول: لما تقدم أن المتابعة مأمور بها وأن شرط المتابعة العلم بجهة الفعل وأن فعله المجرد لا يدل على حكم معين، شرع المصنف في بيان الطرق التي تعلم بها الجهة. وقد تقدم أن فعله منحصر في الوجوب والندب والإباحة، وحينئذ فالطريق قد تعم الثلاثة، وقد تخص بعضها فالعام أربعة أشياء، أحدها: التنصيص بأن يقول: هذا الفعل واجب أو مندوب أو مباح. الثاني: التسوية ومعناه أن يفعل فعلا ثم يقول: هذا الفعل مثل الفعل الفلاني، وذلك الفعل علمت جهته، ولم يصرح الإمام ولا مختصرو كلامه بالتسوية. نعم ذكروا أنه يعلم أيضا بالتخيير بينه وبين فعل ثبتت جهته، قالوا: لأن التخيير لا يكون إلا بين حكمين مختلفين أي بين واجب ومندوب، أو مندوب ومباح. ولما كان التخيير بين الفعلين على هذا التقرير تسوية بينهما عبر المصنف بالتسوية؛ لأنها أعم وهو من محاسن كلامه. الثالث: أن يعلم بطريق من الطرق أن ذلك الفعل امتثال لآية دلت على أحد الأحكام الثلاثة بالتعيين، وإليه أشار بقوله: أو بما علم أنه امتثال آية، وهو معطوف على قوله: بتنصيصه وما فيه مصدرية تقديره: أو يعلمنا أنه. الرابع: أن يعلم أن ذلك الفعل بيان لآية مجملة دلت على أحد الأحكام حتى إذا دلت الآية على إباحة شيء مثلا، وذلك الشيء مجمل، وبينه بفعله فإن ذلك الفعل يكون مباحا؛ لأن البيان كالمبين، وإليه أشار بقوله: أو بيانها، وهو مرفوع عطفا على قوله: امتثال، وهكذا ذكره الإمام هنا، فتابعوه عليه. وفيه نظر لأن البيان واجب عليه، فيكون الفعل المبين يقع واجبا، غير أن فعله لا يجب علينا، وقد صرح الإمام بذلك في باب المجمل والمبين. قوله:"وخصوصا" أي: ويعلم خصوصا الوجوب بثلاثة أشياء، أحدها: بالأمارات الدالة على كون الشيء واجبا كالأذان والإقامة في الصلاة. الثاني: أن يكون موافقا لفعل نذكره كما إذا قال: إن هزم العدو، فلله علي صوم الغد فصام الغد بعد الهزيمة. الثالث: أن يكون الفعل ممنوعا لو لم يكن واجبا كالركوع الثاني في الخسوف، وبهذا الطريق يستدل على وجوب الختان لكنه ينتقض بسجود السهو وسجود التلاوة في الصلاة وغيرها، وبرفع اليدين على التوالي في تكبيرات العيد وفي المحصول ومختصراته أنه يعلم أيضا بكونه قضاء الواجب والعجب من ترك المصنف له مع ذكره إياه في المندوب. قوله:"والندب" أي: ويعلم خصوصا الندب بأمرين أحدهما: أن يعلم أنه قصد القربة وتجرد ذلك عن أمارة تدل على خصوص الوجوب أو الندب، فإنه يدل على أنه مندوب لأن الأصل عدم الوجوب. الثاني: كون الفعل قضاء لمندوب فإنه يكون مندوبا أيضا، وفي المحصول ومختصراته أنه يعلم أيضا بأن يداوم على الفعل ثم يتركه من غير نسخ، وأنه يعلم المباح بخصوصه بأن يفعل فعلا ليس عليه أمارة على شيء لأنه لا يفعل محرما ولا مكروها، والأصل عدم الوجوب والندب. وهذا مخالف لما ذكره قبيل ذلك من ترجيح الوقف فلذلك حذفه
المصنف. قال: "الرابعة: الفعلان لا يتعارضان، فإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متقدما نسخه. وإن عارض متأخرا عاما فبالعكس، وإن اختص به نسخه في حقه، وإن اختص بنا خصنا في حقنا قبل الفعل، ونسخ عنا بعده، وإن جهل التاريخ فالأخذ بالقول في حقنا؛ لاستبداده". أقول: التعارض بين الأمر هو تقابلهما على وجه يمنع كل واحد منهما مقتضى صاحبه، ولا يتصور التعارض بين الفعلين بحيث يكون أحدهما ناسخا للآخر أو مخصصا له؛ لأنه إذا لم تتناقض أحكامهما فلا تعارض وإن تناقضت فكذلك أيضا؛ لأنه يجوز أن يكون الفعل في وقت واجبا وفي مثل ذلك الوقت بخلافه من أن يكون مبطلا لحكم الأول؛ لأنه لا عموم للأفعال بخلاف الأقوال، نعم إذا كان مع الفعل الأول قول مقتضٍ لوجوب تكراره، فإن الفعل الثاني قد يكون ناسخا أو مخصصا لذلك القول كما سيأتي، لا للفعل فلا يتصور التعارض بين الفعلين أصلا، بل إما أن تقع بين القولين، وقد ذكر المصنف حكمه في الكتاب السادس، أو بين القول والفعل وقد ذكره المصنف ههنا، وله ثلاثة أحوال أحدها: أن يكون القول متقدما. والثاني: عكسه، والثالث: أن يجهل الحال. قوله: "فإن عارض فعله الواجب
…
إلخ" هذا هو الحال الأول، وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا وقام الدليل على أنه يجب علينا اتباعه فيه فإنه يكون ناسخا للقول المتقدم عليه، المخالف له، سواء كان ذلك القول عاما كما إذا قال: صوم يوم كذا واجب علينا ثم أفطر ذلك اليوم وقام الدليل على اتباعه، كما فرضنا أو كان خاصا به أو خاصا بنا، واحترز بقوله: الواجب اتباعه عما إذا لم يدل دليل على أنه يجب علينا أن نتبعه في ذلك الفعل، فإنه يستثنى منه صورة واحدة لا يكون فيها ناسخا بل مخصصا، وهو ما إذا كان القول المتقدم عاما ولم يصل بمقتضاه؛ لأنه إذا عمل بمقتضاه أو كان خاصا به عليه الصلاة والسلام كان ناسخا، وإن كان خاصا به عليه الصلاة والسلام كان ناسخا، وإن كان خاصا بنا فلا تعارض أصلا، ولم يذكر المصنف حكم الفعل الذي لم يقم الدليل على وجوب اتباعه فيه في شيء من الأقسام؛ لعدم الفائدة بالنسبة إلينا. قوله: "وإن عارض متأخرا" هذا هو الحال الثاني وهو أن يكون القول متأخرا عن الفعل المذكور، وهو الذي دل الدليل على أنه يجب علينا اتباعه فيه فنقول: إن لم يدل الدليل على وجوب تكرار الفعل فلا تعارض أصلا بينه وبين القول المتأخر أصلا، وتركه المصنف لظهوره، وإن دل الدليل على وجوب تكراره عليه وعلى أمته، فالقول المتأخر قد يكون عاما أي: متناولا له صلى الله عليه وسلم ولأمته، وقد يكون خاصا به، وقد يكون خاصا بنا، فإن كان عاما فإنه يكون ناسخا للفعل المتقدم، كما إذا صام عاشوراء مثلا وقال: الدليل على وجوب تكراره وعلى تكليفنا به، وقال: لا يجب علينا صيامه، وإليه أشار بقوله: "وإن عارض متأخرا عاما فالعكس" أي: وإن عارض فعله الواجب اتباعه قولا متأخرا عاما فإنه يكون القول ناسخا للفعل، وإن كان خاصا به صلى الله عليه وسلم، كما إذا قال في المثال المذكور: لا يجب علي
صيامه فليس فيه تعارض بالنسبة إلى الأمة لعدم تعلق القول بهم فيستمر تكليفهم به، وأما في حقه صلى الله عليه وسلم فإن القول يكون ناسخا للفعل، وإليه أشار بقوله: وإن اختص به نسخه في حقه، وإن كان خاصا بنا، كما إذا قال في المثال المذكور: لا يجب عليكم أن تصوموا، فلا تعارض فيه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستمر تكليفه به، وأما في حقنا فإنه يدل على عدم التكليف بذلك الفعل، ثم إن ورد قبل صدور الفعل منا كان مخصصا أي: مبينا لعدم الوجوب، وإن ورد بعد صدور الفعل فلا يمكن حمله على التخصيص؛ لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون ناسخا لفعله المتقدم، والتفصيل المذكور إنما يأتي إذا كانت دلالة الدليل الدال على وجوب اتباع الفعل بطريق الظهور، كما إذا قال: هذا الفعل واجب علينا أو على المكلفين، وأما إذا كان بطريق القطع كما إذا قال: إنه واجب علي وعليكم، فلا يمكن حمل القول المتأخر على التخصيص بل يكون ناسخا مطلقا. ثم إن هذا كله فيما إذا كان الفعل المتقدم مما يجب اتباعه كما تكلم فيه المصنف، فإن لم يكن كذلك فلا تعارض فيه بالنسبة إلى الأمة؛ لأن الفعل لم يتعلق بهم. وأما بالنسبة إليه فإن كان الفعل مما دل الدليل على وجوب تكراره عليه وكان القول المتأخر خاصا به صلى الله عليه وسلم، أو متناولا له وللأمة بطريق النص، كقوله: لا يجب علي وعليكم فيكون القول ناسخا للفعل، وإن كان متناولا ولا بطريق الظهور كقوله: لا يجب علينا فيكون الفعل السابق مخصصا لهذا العموم؛ لأن المخصص لا يشترط تأخره عن العام عندنا، وأهمل المصنف ذلك كله؛ لأنه لا يخفى. قوله:"فإن جهل" هذا هو الحال الثالث، وهو أن يكون المتأخر من القول والفعل مجهولا، فإن أمكن الجمع بينهما بالتخصيص أو غيره فلا كلام، وإن لم يكن الجمع ففيه ثلاثة مذاهب جارية فينا لفائدة العمل. وفيه عليه الصلاة والسلام لمعرفة ما كان يجب عليه مثلا أو يحرم، أحدها وهو المختار في الأحكام والمحصول ومختصراته: أنه يقدم القول لكونه مستقلا بالدلالة موضوعا لها، بخلاف الفعل فإنه لم يوضع للدلالة وإن دل فإنما يدل بواسطة القول. والثاني: أنه يقدم الفعل لأنه أبين وأوضح في الدلالة ولهذا يبين به القول كخطوط الهندسة. والثالث: أنا نتوقف إلى الظهور لتساويهما في وجوب العمل، واختار ابن الحاجب التوقف بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالقول بالنسبة إلى الأمة، وفرق بينهما بأننا متعبدون بالعمل فأخذ بالقول لظهوره، ولا ضرورة بنا إلى الحكم بأحدهما بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام، ووافق المصنف مختار الجمهور بالنسبة إلى الأمة، وسكت عن القسم الآخر، وإليه أشار بقوله:"فالأخذ بالقول في حقنا لاستبداده" أي: لاستقلاله وهو ظاهر في اختيار ما اختاره ابن الحاجب. قال: "الخامسة: أنه عليه الصلاة والسلام قبل النبوة تعبد بشرع وقيل: لا وبعدها، فالأكثر على المنع قيل: أمر بالاقتباس و"يكذبه انتظاره" الوحي وعدم مراجعته ومراجعتنا، قيل: راجع في الرجم قلنا: للإلزام، استدل بآيات أمر فيها باقتفاء
الأنبياء السالفة -عليهم الصلاة والسلام- قلنا: في أصول الشريعة وكلياتها". أقول: اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل كلف قبل النبوة بشرع أحد من الأنبياء؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها الإمام وأتباعه كصاحب الحاصل من غير ترجيح أحدها. نعم واختاره ابن الحاجب ثم المصنف وعبر بقوله: تعبد وهو بضم التاء والعين أي: كلف، ولم يستدل عليه لعدم فائدته الآن، واستدل له في المحصول بكونه داخلا في دعوة من قبله، وعلى هذا فقيل: كلف بشرع نوح، وقيل: إبراهيم وقيل: موسى، وقيل: عيسى، حكاها الآمدي، وقيل: بشرع آدم كما نقل عن حكاية ابن برهان، وقيل: جميع الشرائع شرع له، حكاه بعض شراح المحصول عن المالكية. والثاني: لا، إذ لو كان مكلفا بشريعة لوجب عليه الرجوع إلى علمائها وكتبها، ولو راجع لنقل. والثالث: الوقف واختاره الآمدي، وأما بعد النبوة فالأكثرون على أنه ليس متعبدا بشرع أصلا، واختاره الآمدي والإمام والمصنف، وقيل: بل كان متعبدا بذلك، أي: مأمورا بأخذ الأحكام من كتبهم كما صرح به الإمام؛ فلذلك عبر عنه المصنف بقوله: وقيل أمر بالاقتباس فافهمه، وهذا المذهب يعبر عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا، واختاره ابن الحاجب، وللشافعي في المسألة قولان وبنى عليهما أصلا من أصوله في كتاب الأطعمة أصحهما الأول، واختاره الجمهور، وأبطل المصنف الثاني بثلاثة أوجه، أحدها: أنه كان ينتظر الوحي مع وجود تلك الأحكام في شرع من تقدمه، والثاني: أنه كان لا يراجع كتبهم ولا أخبارهم في الوقائع. الثالث: أن أمته لا يجب عليها المراجعة أيضا وهذه الوجوه ذكرها الإمام وهي ضعيفة؛ لأن الإيجاب محله إذا علم ثبوت الحكم بطريق صحيح ولم يرد عليه ناسخ، كما في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وليس المراد أخذ ذلك منهم؛ لأن التبديل قد وقع والتبس المبدل بغيره، واعترض الخصم بأنه عليه الصلاة والسلام رجع إلى التوراة لما ترافع إليه اليهود في زنا المحصن. والجواب أن الرجوع إليها لم يكن لإنشاء شرع بل لإلزام اليهود، فإنهم أنكروا أن يكون في التوراة أيضا وجوب الرجم. قوله: "واستدل" أي استدل الخصم بآيات دالة على أنه عليه الصلاة والسلام مأمور باقتفاء الأنبياء السالفة -عليهم الصلاة والسلام- أي باتباعهم. منها قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 23] وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وشرعهم من جملة الهدى، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] الآية، وهو عليه الصلاة والسلام سيد المرسلين، وأجاب المصنف بأن المراد وجوب المتابعة في الأشياء التي لم تختلف باختلاف الشرائع، وهي أصول الديانات، والكليات الخمس أي: حفظ النفوس، والعقول، والأموال، والأنساب، والأعراض،