الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع:
قال: "الفصل التاسع: في كيفية الاستدلال بالألفاظ وفيه مسائل: الأولى: لا يخاطبنا الله تعالى بالمهمل؛ لأنه هذيان، احتجت الحشوية بأوائل السور قلنا: أسماؤها وبأن الوقف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} واجب، وإلا لاختص المعطوف بالحال قلنا: يجوز حيث لا لبس مثل: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] وبقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] قلنا: مثل في الاستقباح الثانية لا يغني خلاف الظاهر من غير بيان؛ لأن اللفظ بالنسبة إليه مهمل، قالت المرجئة: يفيد إحجاما قلنا: حينئذ يرتفع الوثوق عن قوله تعالى". أقول: الاستدلال بالألفاظ يتوقف على معرفة كيفية الاستدلال من كونه بطريق المنطوق أو المفهوم؛ فلذلك عقد المصنف هذا الفصل لبيانه وذكر فيه سبع مسائل. ثم إن بيان ذلك يتوقف على أنه تعالى لا يجوز أن يخاطبنا بالمهمل ولا بما يخالف الظاهر؛ لأنه لو كان جائزا لتعذر الاستدلال بالألفاظ على الحكم فبدأ بهما لكونهما كالمقدمة، المسألة الأولى: لا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بالمهمل؛ لأنه هذيان وهو نقص والنقص على الله تعالى محال. وعبارة المحصول: لا يجوز أن يتكلم بشيء ولا يعني به شيئا وهو قريب من عبارة المصنف وعبارة المنتخب والحاصل بما لا يفيد، وبينهما فرق لأن عدم الفائدة قد لا يكون لإهماله بل لعدم فهمنا. وقد صرح ابن برهان بجواز هذا فقال: يجوز أن يشتمل كلام الله تعالى على ما لا يفهم معناه إلا أن يتعلق به تكليف فإنه لا يجوز. والصواب في التعبير ما ذكره في المحصول واقتضاه كلام المصنف، وقد صرح به أيضا عبد الجبار في العمد وأبو الحسين في شرحه له، واستدلا للخصم بأن فائدته التعبد بتلاوته، قال في المحصول: وحكم الرسول في الامتناع كحكم الله تعالى، قال الأصفهاني في شرحه له: لا أعلم أحدا ذكر ذلك ولا يلزم من كون الشيء نقصا في حق الله أن يكون نقصا في حق الرسول، فإن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء. قوله:"احتجت الحشوية" أي: على جوازه بثلاثة أوجه، الأول: أوردوه في القرآن في أوائل كثير من السور نحو: {الم} و {طه} وجوابه: أن لها معاني، ولكن اختلف المفسرون فيها على أقوال كثيرة، والحق فيها أنها أسماء للسور. الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} الآية، ووجه الدلالة أنه يجب الوقف على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} وحينئذ فيكون الراسخون مبتدأ ويقولون خبرا عنه، وإذا وجب الوقف عليه ثبت أن في القرآن شيئا لا يعلم تأويله إلا الله وقد خاطبنا به وهذا هو المدعى، وإنما قلنا: يجب الوقف عليه لأنه لو لم يجب لكان الراسخون معطوفا عليه حينئذ، فيتعين أن يكون قوله تعالى
{يَقُولُونَ} جملة حالية بأن قائلين، ولا يجوز أن يكون حالا من المعطوف والمعطوف عليه لامتناع أن يقول الله تعالى: آمنا به، فيكون حالا من المعطوف فقط، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات، وإذا انتفى هذا تعين ما قلناه وهذا الدليل لا يطابق دعوى المصنف؛ لأنه يقتضي أن الخلاف في الخطاب بلفظ له معنى لا نفهمه، ودعواه أولا في المهمل، وأجاب المصنف بأنه إنما يمتنع تخصيص المعطوف بالحال إذا لم تقم قرينة تدل عليه، أما إذا قدمت قرينة تدفع اللبس فلا بأس كقوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] فإن {نَافِلَةً} حال من يعقوب خاصة لأن النافلة ولد الولد، وما نحن فيه كذلك؛ لأن العقل قاضٍ بأن الله تعالى لا يقول: آمنا به. الثالث: قوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِين} [الصافات: 65] فإن هذا التشبيه إنما يفيد أن لو علمنا رءوس الشياطين ونحن لا نعلمها، والجواب أنه معلوم للعرب فإنه مثل في الاستقباح متداول بينهم؛ لأنهم يتخيلونه قبيحا. وهذا أيضا لا يطابق الدعوى لما تقدم. "فائدة": اختلف في الحشوية فقيل بإسكان الشين؛ لأن منهم المجسمة، والجسم محشو، والمشهور أنه بفتحها نسبة إلى الحشا؛ لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته، فوجد كلامهم رديئا، فقال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي: جانبها، والجانب يسمى حشا ومنه الأحشاء لجوانب البطن. المسألة الثانية: يجوز أن يريد الله تعالى بكلامه خلاف ظاهره، إذا كان هناك قرينة يحصل بها البيان كآيات التشبيه ولا يجوز، أو يعني خلاف الظاهر من غير بيان؛ لأن اللفظ بالنسبة إلى ذلك المعنى المراد مهمل لعدم إشعاره به، والخلاف فيه مع المرجئة فإنهم يقولون: إنه تعالى لا يعاقب أحدا من المسلمين، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، قالوا: وأما الآيات والأخبار الدالة على العقاب فليس المراد ظاهرها، بل المراد بها التخويف، وفائدته الإحجام عن المعاصي، وأجاب المصنف بالمعارضة وهو أن فتح هذا الباب يرفع الوثوق عن أقوال الله تعالى وأقوال رسوله، إذ ما من خطاب إلا ويحتمل أن يراد به غير ظاهره، وأيضا فالإحجام إنما يكون عند العقاب، ولا عقاب، وهذه المسألة معرفتها تتوقف على معرفة مذهب المرجئة ومعرفة استدلالهم، وقد أشار إليه المصنف إشارة بعيدة، وتفصيله ما قلناه، وأما الأوامر والنواهي فلا خلاف فيها كما قال الأصفهاني في شرح المحصول ولم يذكر ابن الحاجب هذه ولا التي قبلها، والمرجئة -كما قال الجوهري- مشتقة من الإرجاء وهو التأخير، قال الله تعالى:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء: 36] أي: أخره فسموه بذلك؛ لأنهم لم يجعلوا الأعمال سببا لوقوع العذاب ولا لسقوطه، بل أرجوها أي: أخروها وأدحضوها.
قال: "الثالثة: الخطاب إما أن يدل على الحكم بمنطوقه فيحمل على الشرعي ثم العرفي ثم اللغوي ثم المجاز أو بمفهومه، وهو إما أن يلزم عن مفرد يتوقف عليه عقلا أو
شرعا، مثل: ارم وأعتق عبدك عني، ويسمى اقتضاء، أو مركب موافق وهو فحوى الخطاب كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب وجواز المباشرة إلى الصبح على جواز الصوم جنبا، أو مخالف كلزوم نفي الحكم عما عدا المذكور، ويسمى دليل الخطاب". أقول: المسألة الثالثة: في كيفية دلالة الخطاب على الحكم وتقديم بعض المدلولات على البعض، اعلم أن الدلالة قد تكون بالمنطوق، وقد تكون بالمفهوم. قال ابن الحاجب: المنطوق هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق كما سيأتي بيانه، الأول: أن يدل اللفظ بمنطوقه وهو المسمى بالدلالة اللفظية فيحمل أولا على الحقيقة الشرعية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات، فإن لم يكن له حقيقة شرعية أو كان ولم يمكن الحمل عليها على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده عليه الصلاة والسلام لأنه المتبادر إلى الفهم، فإن تعذر حمل على الحقيقة اللغوية. وهذا إذا كثر استعمال الشرعي والعرفي بحيث صار يسبق أحدهما دون اللغوي، فإن لم يكن فإنه مشترك لا يترجح إلا بقرينة قاله في المحصول، ولقائل أن يقول: من القواعد المشهورة عند الفقهاء أن ما ليس له ضابط في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى العرف، وهذا يقتضي تأخير معرف عن اللغة فهل هو مخالف لكلام الأصوليين أو ليسا متواردين على محل واحد؟ فيه نظر يحتاج إلى تأمل. وذكر الآمدي في تعارض الحقيقة الشرعية واللغوية مذاهب أحدها هذا، وصححه ابن الحاجب. والثاني: يكون مجملا. والثالث قاله الغزالي: إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي كقوله عليه الصلاة والسلام: "إني إذًا أصوم" 1 فإنه إذا حمل على الشرعي دل على صحة الصوم بنية من النهار، وإن ورد في النهي كان مجملا كنهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم يوم النحر، فإنه لو حمل على الشرعي دل على صحته لاستحالة النهي عما لا يتصور وقوعه، بخلاف ما إذا حمل على اللغوي. قال الآمدي: والمختار أنه إن ورد في الإثبات حمل على الشرعي؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، وإن ورد في النهي حمل على اللغوي لما قلناه من أن حمله على الشرعي يستلزم صحة بيع الخمر ونحوه ولا قائل به، وما ذكراه من أن النهي يستلزم الصحة قد أنكراه بعد ذلك وضعفا من قاله. فإن تعذرت الحقائق الثلاث حمل على المعنى المجازي صونا للكلام عن الإعمال، ويكون الترتيب في مجازات هذه الحقائق كالترتيب المذكور في الحقائق. الثاني: أن يدل الخطاب على الحكم بالمفهوم وهو المسمى بالدلالة المعنوية والدلالة الالتزامية، فتارة يكون اللازم مستفادا من معاني الألفاظ المفردة، وذلك بأن يكون شرطا للمعنى المدلول عليه بالمطابقة، وتارة لا يكون مستفادا من التركيب وذلك بأن لا يكون شرطا للمعنى المطابق بل تابعا له، فاللازم عن المفرد قد يكون العقل يقتضيه كقوله: ارم، فإنه يستلزم الأمر بتحصيل القوس والمرمى لأن العقل يحيل
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده بلفظ: "إني إذًا صائم""2/ 25786".
الرمي بدونهما، وقد يكون هو الشرع كقوله: أعتق عبدك عني؛ فإنه يستلزم سؤال تمليكه حتى إذا أعتقه نبينا دخلوه في ملكه؛ لأن العتق شرعا لا يكون إلا في مملوك، وقد مثل في المحصول له بمثال فاسد فعدل عنه صاحب الحاصل والمصنف. وهذا القسم هو اللازم عن المفرد يسمى الاقتضاء أي: الخطاب يقتضيه، وأما اللازم عن المركب فهو قسمين أحدهما: أن يكون موافقا للمنطوق في الإيجاب والسلب، ويسمى فحوى الخطاب، أو معناه كما قال الجوهري. قال: وهو يمد ويقصر ويسمى أيضا تنبيه الخطاب ومفهوم الموافقة كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فإنه يدل أيضا على تحريم الضرب من باب أولى، فتحريم الضرب استفدناه من التركيب؛ لأن مجرد التأفيف لا يدل على تحريم الضرب ولا على إباحته بخلاف مجرد الرمي، فإنه يتوقف على القوس. وكقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187] إلى آخر الآية، فإنه يدل منطوقه على جواز المباشرة إلى الصبح، ويلزم منه صحة الصوم جنبا وهو ما بين الفجر إلى الغسل، إذ لو لم يكن كذلك لكان مقدار الغسل مستثنى من جواز المباشرة، ومثل المصنف بمثالين إشارة إلى معنيين، أحدهما: أن مفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم من المنطوق كالمثال الأول، وقد يكون مساويا كالمثال الثاني، خلافا لابن الحاجب في اشتراطه الأولوية. الثاني ما قال الإمام في المحصول: وهو أن اللازم قد يكون من مكملات المعنى المنطوق كما في المثال الأول، وقد لا يكون كالثاني، ثم قال: والتمثيل بالتأفيف مبني على أن تحريم الضرب ليس من باب القياس، وعلى هذا فتمثيل المصنف به مناقض لما صححه في كتاب القياس فافهمه، وقد جعل ابن الحاجب دلالة الاقتضاء وجواز المباشرة إلى الصبح من دلالة المنطوق، قال: ولكن منطوق غير صريح بل لازم اللفظ، وجعل المصنف ذلك من المفهوم كما تقدم ولم يجعله الآمدي من المنطوق ولا من المفهوم، بل قسيما لهما، وكلام الإمام هنا ليس فيه تصريح بشيء. القسم الثاني: أن يكون مخالفا للمنطوق، ويسمى دليل الخطاب، ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة، وذلك كمفهوم الصفة ومفهوم الشرط ومفهوم الغاية ومفهوم العدد، وقد ذكر المصنف جميع ذلك عقب هذه المسألة إلا الغاية، فإنه أخرها إلى التخصيص وأهمل التصريح هنا بأمور بعضها يأتي في كلامه، وبعضها أذكره إن شاء الله تعالى.
قال: "الرابعة: تعليق الحكم بالاسم يدل على نفيه عن غيره، وإلا لما جاز القياس خلافا لأبي بكر الدقاق وبإحدى صفتي الذات مثل: "في سائمة الغنم الزكاة" يدل ما لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى، خلافا لأبي حنيفة وابن سريج والقاضي وإمام الحرمين والغزالي. لنا أنه المتبادر من قوله عليه الصلاة والسلام: "مطل الغني ظلم" 1 ومن ونحو قولهم: الميت
1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "4/ 85"، والهندي في كنز العمال رقم الحديث "1326"، والمنذري في الترغيب والترهيب "2/ 609".
اليهودي لا يبصر، وأن ظاهر التخصيص يستدعي فائدة وتخصيص الحكم فائدة، وغيرها منتفٍ بالأصل فتعين، وأن الترتيب يشعر بالعلية كما ستعرفه. والأصل ينفي علة أخرى فينتفي بانتفائها. قيل: لو دل لدل إما مطابقة أو التزاما، قلنا: دل التزاما لما ثبت أن الترتيب يدل على العلية، وانتفاء العلة يستلزم انتفاء مدلولها المساوي! قيل:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] ليس كذلك قلنا: غير المدعي". أقول: شرع المصنف في ذكر مفاهيم المخالفة فبدأ بمفهوم اللقب، فنقول: تعليق الحكم أي: طلبا كان أو خبرا، بالاسم أي: وما في معناه كاللقب والكنية، لا يدل على نفيه عن غيره كقول القائل: زيد قائم فإنه لا يدل على نفي القيام عن زيد وهذا هو الصحيح عند الإمام والآمدي وأتباعهما، ونقله إمام الحرمين في البرهان عن نص الشافعي، واحتج المصنف بأنه لو دل على نفيه عن غيره لانسد باب القياس، وبيانه أن تحريم الربا مثلا في القمح يدل على هذا التقدير على إباحته في كل ما عداه، مطعوما كان أو غيره، فلا يقاس الحمص عليه لأن القياس على خلاف الدليل باطل وهذا الدليل ضعيف لأمرين، أحدهما: أن المفهوم على تقدير كونه حجة يدل على الإباحة في كل ما عدا البر، والقياس إنما يدل على تحريم في الأفراد التي شاركت المنصوص عليه في العلة وهي المطعومات دون غيرها كالنحاس والرصاص، فغاية ما يلزم من الأخذ بالقياس أن يكون مخصصا للمفهوم، وتخصيص عموم المنطوق بالقياس جائز، كما سيأتي، فتخصيص عموم المفهوم به أولى. الثاني ما ذكره الآمدي: وهو أنه إنما يؤدي إلى إبطال القياس إن لو كان النص دالا عليه بمنطوقه وليس كذلك، بل إنما دل عليه بمفهومه والقياس راجح على هذا النوع من المفهوم، وغاية ذلك أنهما دليلان تعارضا لأن كلا منهما دل على عكس ما دل عليه الآخر كالحمص في مثالنا إباحة المفهوم وحرمة القياس وحكم المتعارضين تقديم الراجح منهما، وذهب أبو بكر الدقاق من الشافعية إلى أنه حجة وكذلك الحنابلة كما قاله في الأحكام، واحتجوا بأن التخصيص لا بد له من فائدة، وجوابه أن غرض الإخبار عنه دون غيره فائدة، ومر بي في بعض التعاليق أن الدقاق وقع له ذلك في مجلس النظر ببغداد فألزم الكفر، إذا قال: محمد رسول الله لنفي رسالة عيسى وغيره فوقف. وحكى ابن برهان في التعجيز قولا ثالثا أنه حجة في أسماء الأنواع كالغنم دون أسماء الأشخاص كزيد. قوله: "وبإحدى صفتي الذات" أي: وتعليق الحكم بصفة من صفات الذات يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة كقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم الزكاة" 1 فإن الغنم اسم ذات ولها صفتان: السوم والعلف، وقد علق الوجوب على إحدى صفتيها وهو السوم، فيدل ذلك على عدم الوجوب في المعلوفة لكن الصحيح في المحصول وغيره أنه يفي جميع الأجناس نظرا إلى أن العلف مانع،
1 أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق "4/ 115".
والسوم مقتضٍ. وقد وجد هذا كله إذا لم يظهر لتخصيص تلك الصفة بالذكر فائدة أخرى غير نفي الحكم عما عدا الوصف المذكور. فإن ظهرت له فائدة فلا يدل على النفي، فمن الفائدة أن يكون جوابا لمن سأل عن سائمة الغنم، فإن ذكر السوم والحالة هذه يكون للمطابقة، أو يكون السوم هو الغالب، فإن ذكره إنما هو لأجل غلبة حضوره في ذهنه هذا هو المعروف. ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي ثم خالفه وقال: إن الغلبة لا تدفع كونه حجة، وهذا الذي اختاره المصنف نقله الإمام والآمدي وأتباعهما عن الشافعي والأشعري وجماعة، وذهب أبو حنيفة والقاضي أبو بكر الباقلاني وابن شريح والغزالي إلى أنه ليس بحجة واختاره الآمدي والإمام فخر الدين في المحصول والمنتخب وقال في المعالم: المختار أنه يدل عرفا لا لغة، ولم يصحح ابن الحاجب شيئا. ونقل الإمام فخر الدين عن إمام الحرمين أنه ليس بحجة وتبعه المصنف عليه وهو غلط، فقد نص في البرهان على أنه حجة وجعله أقوى من مفهوم الشرط ومثل بالسائمة ومطل الغني كما مثل المصنف، قال: إلا أن تكون الصفة لا مناسبة فيها كقولنا: الأبيض يشبع إذا أكل، فإنه كاللقب في عدم الدلالة، ثم ذكر في آخر المسألة التي بعدها مثله أيضا، فقال: اعتبر الشافعي الصفة ولم يفصل، واستقر رأيه على إلحاق ما لا يناسب منها باللقب. لا جرم أن ابن الحاجب نقل عنه أنه يدل ولا يمكن حمل كلام المصنف في النقل عن إمام الحرمين على ما لا يناسب؛ لأنه نقل الخلاف عنه في مثل سائمة الغنم مع أنه مناسب. قوله:"لنا" أي: الدليل على أنه حجة ثلاثة أوجه، الأول: أن المتبادر إلى الفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" أن مطل الفقير ليس بظلم، وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت أيضا في اللغة؛ لأن الأصل عدم النقل لا سيما وقد صرح به في هذا الحديث أبو عبيدة وهو من أئمة اللغة المرجوع إليهم. وكذلك أيضا يتبادر إلى الفهم من قولهم: الميت اليهودي لا يبصر، أن غيره يبصر ولهذا يسخرون من هذا الكلام ويضحكون منه. الثاني: أن تخصيص الوصف بالذكر يستدعي فائدة لأن تخصيص آحاد البلغاء يستدعي ذلك الشارع أولى، وتخصيص الحكم به فائدة محققة، والأصل عدم غيرها من الفوائد، فإن الكلام فيما إذا لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى كما تقدم، فتعين ما قلناه وهو تخصيص الحكم، فإن قيل: لو صح هذا الدليل لكان مفهوم اللقب حجة لجريانه بعينه، قلنا: للقب فائدة أخرى وهي تصحيح الكلام؛ لأن الكلام بدون غير مفيد بخلاف الصفة. الثالث: ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية أي: يكون الوصف علة لذلك الحكم كما ستعرفه في القياس فيكون السوم مثلا علة للوجوب، والأصل عدم علة أخرى، وحينئذ ينتفي الحكم بانتفاء تلك الصفة؛ لأن المعلول يزول بزوال علته. قوله:"قيل: لو دل لدل" أي: استدل الخصم بوجهين أحدهما: أن تعليق الحكم على صفة من الصفات لو دل على نفي الحكم عما عدا تلك الصفة لدل إما مطابقة أو تضمنا أو التزاما؛ لأن الدلالة منحصرة
في هذه الثلاثة لكنه لا يدل. أما المطابقة والتضمن فواضح لأن نفي الحكم عما عدا المذكور ليس هو عين إثبات الحكم في المذكور حتى يكون مطابقة لا جزأه حتى يكون تضمنا. وأما الالتزام فلأن شرطه سبق الذهن من المسمى إليه وقد يتصور السامع إيجاب الزكاة في السائمة مع غفلته عن المعلوفة وعن عموم وجوب زكاتها، وقد أهمل المصنف ذكر التضمن فقال: إما مطابقة أو التزاما ولقائل أن يجيب بأن الالتزام صادق عليه؛ لأن تصور الكل مستلزم لتصور جزئه كما أنه مستلزم لتصور لازمه، وأجاب المصنف بأنه يدل بالالتزام لما ثبت أن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، أي: بكونه علة، يستلزم انتفاء المعلول المساوي، والمراد بالمساوي أن لا يكون له علة أخرى غير هذه العلة، واحترز بذلك عما يكون له علة أخرى كالحرارة المعلولة للنار تارة وللشمس أخرى، إذ لو كان له علة أخرى لكان يثبت بالعلة الأولى، ويثبت بدونها فيكون أعم منها، والعلة أخص والأعم لا ينتفي بانتفاء الأخص، وحينئذ فلا يلزم انتفاء هذه العلة انتفاء المعلول لجواز ثبوته مع العلة الأخرى. الثاني: قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فإنه لو كان كما قلنا لكان في الآية دليل على جواز القتل عند انتفاء خشية الإملاق وهو الفقر، وليس كذلك بل هو حرام، وجوابه أن هذا غير المدعى؛ لأن مدعانا أنه يدل حيث لا يظهر للتخصيص فائدة أخرى كما تقدم هنا له فائدتان، إحداهما: أنه الغالب من أحوالهم أو الدائم. والثاني: أنه يدل على المسكوت عنه بطريق الأولى.
قال: "الخامسة: التخصيص بالشرط مثل: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فينتفي المشروط بانتفائه قيل: تسمية إن حرف شرط اصطلاح قلنا: الأصل عدم النقل، قيل: يلزم ذلك لو لم يكن للشرط بدل قلنا: حينئذ يكون الشرط أحدهما وهو غير المدعى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ليس كذلك قلنا: لا نسلم بل انتفاء الحرمة لامتناع الإكراه. السادسة: التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد، والناقص". أقول: تعليق الحكم على الشيء بكلمة إن أو غيرها من الشروط اللغوية كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [الطلاق: 6] فيه أمور أربعة: ثبوت المشروط عند ثبوت الشرط، ودلالة إن عليه، وعدم المشروط عند عدم الشرط، ودلالة إن عليه؛ فالثلاثة الأول لا خلاف فيها، وأما الرابع وهو دلالة إن على العدم فهو محل الخلاف. والصحيح عند المصنف أنها عليه وهو الصحيح عند الإمام وأتباعه، وهو مقتضى اختيار ابن الحاجب ونقله ابن التلمساني عن الشافعي، ودليله أن النحاة قد نصوا على أنها للشرط ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط. وذهب القاضي أبو بكر وأكثر المعتزلة إلى أنها لا تدل عليه بل هو منفي بالأصل، واختاره الآمدي ونقله ابن التلمساني عن مالك وأبي حنيفة، واعترضوا على الدليل السابق بثلاثة أوجه أحدها: أن تسمية حرف شرط
إنما هو اصطلاح للنحاة كاصطلاحهم على النصب والرفع وغيرهما، وليس ذلك مدلولا لغويا فلا يلزم من انتفائه انتفاء الحكم وجوابه إنما نستدل باستعمالها الآن للشرط على أنها في اللغة كذلك؛ إذ لو لم تكن لكانت منقولة عن مدلولها، والأصل عدم النقل، وهذا الجواب ينفع في كثير من المباحث. الثاني: أنه شرط لغة لا نسلم أنه يلزم من انتفائه انتفاء المشروط فإنه يكون له بدل يقوم مقامه وإنما يلزم ذلك أن لو لم يكن له بدل، والجواب أنه إذا وجد ما يقوم مقامه لم يكن ذلك الشيء بعينه شرطا، بل الشرط أحدهما، وحينئذ فيتوقف انتفاؤه على انتفائهما معا؛ لأن مسمى أحدهما لا يزول على أنه شرط بعينه. الثالث: ولو كان المتعلق بأن ينتفي عند انتفاء ما دخلت عليه إن لكان قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] دليلا على أن الإكراه لا يحرم إذا لم يردن التحصن وليس كذلك بل هو حرام مطلقا قلنا: لا نسلم أنه ليس كذلك أي لا نسلم أن الحرمة غير منتفية عنه بل هو غير حرام، ولكنه غير جائز، فإن عدم حرمته لا يستلزم جوازه؛ لأن زوالها قد يكون لطرآن الحل وقد يكون لامتناع وجوده عقلا لأن السالبة تصدق بانتفاء المحمول تارة والموضوع أخرى، وههنا قد انتفى الموضوع لأنهن إذا لم يردن التحصن فقد أردن البغاء، وإذا أردن البغاء امتنع إكراههن عليه؛ لأن الإكراه هو إلزام الشخص شيئا على خلاف مراده، وإذا كان ممتنعا فلا تتعلق به الحرمة؛ لأن المستحيل لا يجوز للتكليف به. المسألة السادسة: الحكم المتعلق بعدد لا يدل بمجرده على حكم الزائد والناقص عنه لا نفيا ولا إثباتا، ومنهم من قال: يدل ونقله الغزالي في المنحول عن الشافعي فقال في كتاب المفهوم ما نصه: وأما الشافعي فلم ير للتخصيص باللقب مفهوما ولكنه قال بمفهوم التخصيص بالصفة والزمان والمكان والعدد، وأمثلته لا تخفى، هذا لفظه ونص عليه في البرهان أيضا فقال: إن الشافعي والجمهور يقولون بهذه الأشياء وضم إلى ذلك أيضا مفهوم الحد يعني الغاية. قال في المحصول: وقد يدل عليه لدليل منفصل كما إذا كان العدد علة لعدم أمر فإنه يدل على امتناع ذلك الأمر في الزائد أيضا لوجود العلة، وعلى ثبوته في الناقص لانتفائها كقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" 1 وكذلك إن لم يكن علة، ولكن أحد العددين إما الزائد أو الناقص داخل في العدد المذكور على كل حال، كما إذا كان الحكم حظرا أو كراهة، فإنه يدل على ثبوته في الزائد، فإن تحريم جلد المائة مثلا أو كراهته يدل على ذلك في المائتين، ولا يدل على شيء في الناقص عن المائة فإن كان الحكم وجوبا أو ندبا أو إباحة فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم في الناقص ولا يدل في الزائد لا على نفيه ولا على إثباته. وهذه المسألة لم يذكر ابن الحاجب حكمها وقد ذكره الآمدي موافقا لما قاله الإمام والمصنف.
1 رواه الدارقطني في سننه "1/ 21"، "2/ 503".
قال: "السابعة: النص إما أن يستقل بإفادة الحكم أو لا، المقارن له إما نص آخر مثل دلالة قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] على أن تارك الأمر يستحق العقاب ودلالة قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر أو إجماع كالدال على أن الخالة بمثابة الخال في إرثها إذا دل نص عليه". أقول: قد تقدم أن الخطاب قد يدل على الحكم بمنطوقه، وقد يدل بمفهومه. قال الإمام: والكلام في هذه المسألة فيما إذا لم يدل بمنطوقه ولا مفهومه، وحاصله أن النص المستدل به على حكم قد يستقل بإفادة ذلك الحكم أي: لا يحتاج إلى أن يقارنه غيره كقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ونحوه وقد يحتاج إليه، والمقارن له قد يكون نصا وقد يكون إجماعا، فإن كان نصا فله صورتان إحداهما: أن يدل أحد النصين على إحدى المقدمتين والنص الآخر على المقدمة الأخرى، فيحصل المدعى منهما كدلالة قوله تعالى:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مع قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية على أن تارك الأمر يستحق العقاب فإن الآية الأولى دالة على أنه يسمى عاصيا، والثانية دالة على استحقاق العاصي العقاب فينتج تارك الأمر يستحق العقاب. الصورة الثانية: أن يدل أحد النصين على ثبوت حكم لشيئين ويدل النص الآخر على أن بعض ذلك لأحدهما فوجب القطع بأن باقي الحكم ثابت. الثاني: كقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} فهذا يدل على أن مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، وقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الآية تدل على أن أكمل مدة الرضاع سنتان، فيلزم أن يكون أقل مدة الحمل ستة أشهر. وأما الإجماع فكما إذا دل نص على أن الخال يرث وأجمعوا على أن الخالة بمثابته فنستفيد إرثها من ذلك النص بواسطة الإجماع، وذكر الإمام في المحصول أن المقارن قد يكون أيضا قياسا كإثبات الربا في التفاح وقد يكون قرينة المتكلم كما إذا نطق الشارع بلفظ متردد بين حكم شرعي وعقلي، فإنا نحمله على الشرعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لبيان الشرعيات مثال قوله:"الاثنان فما فوقهما جماعة" 1 فنحمله على جماعة الصلاة لا على أقل الجمع "والله أعلم".
1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "2/ 198" والخطيب البغدادي في تاريخه "8/ 415".