الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصالح في جنس الأحكام كما مر في القياس، واعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة لكونها فردا من أفرادها. الثاني: أن من تتبع أحوال الصحابة رضي الله عنهم قطع بأنهم كانوا يقنعون في الوقائع بمجرد المصالح، ولا يبحثون عن أمر آخر، فكان ذلك إجماعا منهم على قبولها، والمصنف قد تبع الإمام في عدم الجواب على هذين الدليلين، وقد يجاب عن الأول بأنه لو وجب اعتبار المصالح المرسلة لاشتراكها للمصالح المعتبرة في كونها مصالح لوجب إلغاؤها أيضا، لاشتراكها مع المصالح الملغاة في ذلك، فيلزم اعتبارها وإلغاؤها وهو محال، وعن الثاني أنا لا نسلم بإجماع الصحابة عليه بل إنما اعتبروا من المصالح ما اطلعوا على اعتبار الشارع لنوعه أو جنسه القريب ولم يصرح الإمام مختاره في المسألة. قال:"السادس: فقد الدليل بعد التفحص البليغ يغلب ظن عدمه وعدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل". أقول: الدليل السادس من الأدلة المقبولة عند المصنف: الاستدلال على عدم الحكم بعدم ما يدل عليه، وتقريره أن يقال: فقدان الدليل بعد التفحص البليغ يغلب ظن عدمه يعني: عدم الدليل وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم، أما المقدمة الأولى فواضحة، وأما الثاني فلأن عدم الدليل يستلزم عدم الحكم إذ لو ثبت حكم شرعي ولم يكن عليه دليل لكان يلزم منه تكليف الغافل وهو ممتنع، فينتج فقدان الدليل بعد التفحص البليغ يوجب ظن عدم الحكم، والعمل بالظن واجب، والمراد بعدم الحكم هنا عدم تعلقه، لا عدم ذاته. فإن الأحكام قديمة عنده، وهذه الطريقة التي قررها المصنف نقلها في المحصول عند بعض القفهاء، ولم يصرح بموافقته.
الباب الثاني: في المردودة
قال: "الباب الثاني: في المردودة الأول: الاستحسان، قال به أبو حنيفة، وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد، وتقصر عنه عبارته، ورد بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه من فاسده وفسره الكرخي بأنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى، كتخصيص أبي حنيفة قول القائل: مالي صدقة بالزكوي لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وعلى هذا فالاستحسان تخصيص، وأبو الحسين بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الأقوى، يكون كالطارئ، فخرج التخصيص، ويكون حاصله تخصيص العلة". أقول: شرح المصنف في بيان الأدلة المردودة فذكر منها شيئين أحدهما: الاستحسان، وقد قال به أبو حنيفة وكذا الحنابلة كما قاله الآمدي وابن الحاجب، وأنكره الجمهور لظنهم أنهم يريدون به الحكم بغير دليل، حتى قال الشافعي: من استحسن فقد شرع، أي: وضع شرعا جديدا، قال في المحصول: وليس الخلاف في جواز استعمال لفظ الاستحسان لوروده في الكتاب، كقوله تعالى:{وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] وفي السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" 1 وفي ألفاظ المجتهدين كقول الشافعي في المتعة: أستحسن أن
1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "4/ 133"، والسيوطي في الدرر المنتثرة "156".
تكون ثلاثين درهما، فثبت أن الخلاف إنما هو في المعنى، وحينئذ فلا بد من تفسيره ليمكن قبوله أو رده، وهو استفعال من الحسن، يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني، وإن كان مستقبحا عند غيره، وليس هذا محل الخلاف لاتفاق الأمة قبل ظهور المخالفين على امتناع القول في الدين بالتشهي فيكون محل الخلاف فيما عدا ذلك، وقد اختلف المتأخرون في التعبير عنه على عبارات كثيرة، ذكر المصنف منها ثلاثا، أحدها ولم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل، بل الآمدي وابن الحاجب: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد، وتقاصر عنه عبارته، فلا يقدر على إظهاره، وأبطله المصنف بأن الذي يقوم قد يكون صحيحا وقد لا يكون، فلا بد من ظهوره، أي: بيانه لتمييز صحيحه عن فاسده. ولقائل أن يقول: إن أراد المصنف بوجوب إظهاره أنه لا يكون قبل ذلك حجة على المناظر، فهذا واضح لكنه ليس محل الخلاف، وإن أراد أن المجتهد لا يثبت به الأحكام فهو ممنوع، اللهم إلا أن يشك المجتهد في كونه دليلا فإنه لا يجوز العمل به. التفسير الثاني قاله الكرخي: أنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى، أي: هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها، إلى الحكم بخلافه لوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول، وذلك حيث دل دليل خاص على إخراج صورة ما دل عليه العام، كتخصيص أبي حنيفة قول القائل: مالي صدقة بالمال الزكوي دون غيره، فإن الدليل الدال على وجوب الدفاع بالنذر يقتضي وجوب التصدق بجميع أمواله عملا بلفظه، لكن ههنا دليل خاص يقتضي العدول عن هذا الحكم بالنسبة إلى غير الزكوي، وهو قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] فإن المراد بالمال في الآية هو الزكوي، فليكن كذلك في قول القائل: مالي صدقة، والجامع هو قرينة إضافة الصدقة في المال في الصورتين، واعترض المصنف على هذا التفسير بأنه أن يكون التخصيص استحسانا لانطباقه عليه، ولا نزاع في التخصيص، ولو عبر المصنف بالعكس، فقال: وعلى هذا فالتخصيص استحسانا كما عبرت به لكان أظهر. التفسير الثالث قاله أبو الحسين: أنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ، لوجه أقوى منه، يكون كالطارئ على الأول، فأشار بقوله: ترك وجه من وجه الاجتهاد، إلى أن الواقعة التي اجتهد فيها المجتهدون لها وجوه كثيرة واحتمالات متعددة، فيأخذ المجتهدون بواحد منها، ثم إنه يترك ذلك الوجه لما هو أقوى، واحترز بقوله: غير شامل شمول الألفاظ، عن تخصيص العموم، فإن الوجه الأول شامل شمول الألفاظ، احترز بقوله: يكون الطارئ على الأول، عن ترك أضعف القياسين لأجل الأقوى، فإن أقواهما ليس في حكم الطارئ، قال: فإن كان طارئا عليه فهو الاستحسان، ومثال ذلك العنب، فإنه قد ثبت تحريم بيعه الزبيب سواء كان على رأس الشجر أو لا، قياسا على الرطب، ثم إن الشارع أرخص في جواز بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر، فقسنا
عليه العنب، وتركنا القياس الأول؛ لكون الثاني أقوى، فإن احتمل الثاني القوة والطرآن كان استحسانا، وهذا التفسير يقتضي أن يكون العدول عن حكم القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانا، وليس كذلك عند القائلين به، واعترض عليه المصنف بأن حاصله يرجع إلى أن الاستحسان هو تخصيص العلة وهو المعبر عنه بالنقض، وليس ذلك مما انفرد به الحنفية، كما سبق إيضاحه في القياس، وفي قول المصنف: إن حاصله تخصيص العلة نظر، بل حاصله كما قاله الآمدي الرجوع عن حكم دليل لطرآن دليل آخر أقوى منه، وهذا أعم من تخصيص العلة، وقد تلخص من هذه المسألة أن الحق ما قاله ابن الحاجب، وأشار إليه الآمدي أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه. قال:"الثاني: قيل: قول الصحابي حجة، وقيل: إن خالف القياس، وقال الشافعي في القديم: إن انتشر ولم يخالف، لنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] يمنع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا وقياس الفروع على الأصول، قيل: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" 1 قلنا: المراد عوام الصحابة. قيل: إذا خالف القياس فقد اتبع الخبر، قلنا: ربما خالف لما ظنه دليلا ولم يكن". أقول: اتفق العلماء كما قاله الآمدي وابن الحاجب على قول الصحابي ليس بحجة على أحد من الصحابة المجتهدين، وهل هو حجة على غيرهم؟ حكى المصنف فيه أربعة أقوال، أحدها: أنه حجة مطلقا، وهو مذهب مالك وأحد قولي الشافعي كما نقله الآمدي، وعلى هذا فهل يخص به عموم كتاب أو سنة؟ فيه خلاف لأصحاب الشافعي حكاه الماوردي. والثاني: أنه إن خالف القياس كان حجة وإلا فلا. والثالث: أن يكون حجة بشرط أن ينتشر ولم يخالفه أحد، ونقله المصنف عن القديم. والرابع، وهو المشهور عن الشافعي وأصحابه: أنه لا يكون حجة مطلقا، واختاره الإمام والآمدي وأتباعهما كابن الحاجب والمصنف، وقد سبق في الإجماع قول: إن إجماع الخلفاء الأربعة حجة، وقول آخر: إن إجماع الشيخين حجة؛ فلذلك لم يذكرهما المصنف هنا. واعلم أن حكاية هذه الأقول على الوجه الذي ذكره المصنف غلط لم ينتبه له أحد الشارحين، وسببه اشتباه مسألة بمسألة، وذلك أن الكلام هنا في أمرين أحدهما: أن قول الصحابي هل هو حجة أو لا؟ وفيه ثلاثة مذاهب، ثالثها: إن خالف القياس كان حجة وإلا فلا. الأمر الثاني: إذا قلنا: إن قول الصحابة ليس بحجة، فهل يجوز للمجتهد تقليده فيه؟ ثلاثة أقوال، الشافعي في الجديد: أنه لا يجوز مطلقا، والثالث وهو قول قديم: أنه إن انتشر جاز وإلا فلا. هكذا صرح به الغزالي في المستصفى، والآمدي في الأحكام، وغيرهما، وأفردوا لكل حكم مسألة، وذكر الإمام في المحصول نحو ذلك أيضا، فتوهم صاحب الحاصل أن المسألة الثانية أيضا من كونه حجة، ولكن
1 أخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 190" وأخرجه أيضا في لسان الميزان "2/ 488" والعجلوني في كشف الخفاء "1/ 147".
المحصول في الصراحة ليس كالأحكام، فصرح بما توهمه، فرأى المصنف حالة اختصاره أن تفريق أقوال الحكم الواحد لا معنى له، فأخذ حاصل المسألتين من الأقوال وجمعه في هذا الموضع، فلزم منه أن القول المفصل بين الانتشار وعدمه تفصيل في الاحتجاج به، وليس كذلك، بل إنما هو تفصيل في جواز التقليد مع تسليم عدم الاحتجاج به فافهمه، والعجب إنما هو من فهم صاحب الحاصل؛ فإنه كيف يترجم مصنف مسألة واحدة مرتين متواليتين بترجمتين مستقلتين؟ واعلم أن القول بجواز التقليد نص عليه في الأم في مواضع متعددة، فهو إذًا جديد لا قديم. قوله:"لنا" أي: الدليل على كونه ليس بحجة مطلقا النص والإجماع والقياس؛ وأما النص فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أمر تعالى أولي الأبصار بالاعتبار يعني الاجتهاد، وذلك ينافي التقليد؛ لأن الاجتهاد هو البحث عن الدليل، والتقليد هو الأخذ بقول غيره من غير دليل، وفيه نظر؛ لأن القائلين بكونه حجة يمنعون كونه تقليدا ويجعلونه كسائر الأدلة، على أن صاحب الحاوي وجماعة حكوا خلافا في أن الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم هل يسمى تقليدا أم لا؟ وأما الإجماع فهو أن الصحابة أجمعوا على جواز مخالفة بعضهم بعضا، فلو كان قول الواحد منهم حجة لوقع الإنكار على من خالفه منهم، وهذا الدليل على محل النزاع، فإن الخلاف في غير الصحابة كما تقدم، وقد يجاب عنه بأنه إذا كان مذهبهم جواز مخالفة بعضهم بعضا، بأن لم يكن مذهبهم حجة على غيرهم جاز لغيرهم مخالفة كل واحد منهم، وإن كان حجة جاز لغيرهم ذلك أيضا، أعني: مخالفة كل واحد منهم؛ لأن مذهبهم جواز مخالفة كل واحد منهم، والفرض أن مذهبهم حجة، وأما القياس فهو أن قول الصحابي ليس بحجة على غيره من المجتهدين في أصول الدين، فلا يكون أيضا حجة في فروعها، والجامع بينهما تمكن المجتهد في الموضعين من الوقوف على الحكم بطريقة، هذا أيضا ضعيف؛ لأن المطلوب في الأصول هو العلم بخلاف الفروع، فإن المطلوب فيها هو الظن، وقد يحصل الظن بقول الصحابي، ولا يحصل العلم، وحينئذ فيكون قوله حجة في الفروع دون الأصول، واحتج غير المصنف بأن الأصل في الأدلة أن لا تخص قوما دون قوم، وبأن قولهم لم يكن حجة في زمانهم، فكذلك بعدهم عملا بالاستصحاب. قوله: "قيل
…
إلخ" أي: احتج من قال: إنه حجة مطلقا بقوله عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" جعل الاهتداء لازما للاقتداء بأي واحد منهم كان، فدل على كونه حجة، وإلا لم يكن المقتدي به مهتديا، وأجاب المصنف بأن الخطاب هنا إنما هو مع الصحابة لكونه خطاب مشافهة فانتفى دخول غيرهم. ثم إن الصحابة المخاطبين بذلك لا يجوز أن يكونوا مجتهدين، لكونه ليس محل الخلاف كما تقدم، فتعين أن يكون المراد منه أن العامي منهم إذا اقتدى بأي مجتهد كان منهم اهتدى، وهو صحيح مسلم، وأجاب
الآمدي بأن الخبر وإن كان عاما في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاهتداء في كل ما يقتدى به، وعند ذلك فنقول: يمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يروونه وهذه القاعدة التي أشار إليها قد تقدم الكلام عليها لكن ههنا جهة تقتضي العموم المعنوي وهي ترتب الحكم على الوصف، فإن الاقتداء مرتب على كونهم صحابة، وأما من ذهب إلى أنه إذا خالف القياس كان حجة وإلا فلا، فاحتج بأنه إذا خالف القياس فلا محل له إلا أنه اطلع على خبر فاتبعه وإلا فيكون قد ترك القياس المأمور به، وانقدحت عدالته وذلك باطل، وحينئذ فيكون قوله حجة لاستلزامه الحجة لا لذاته، وأجاب المصنف بأنه ربما خالف القياس لشيء ظنه دليلا ولم يكن كذلك في نفس الأمر، وأجاب غيره بأنه يلزم منه أن يكون مذهب الصحابي حجة على المجتهدين من الصحابة أيضا، ما قالوه، ولم يتعرض المصنف للقول المفصل بين أن ينشر أم لا؛ لكونه قد سبق الكلام عليه في الإجماع. قال:"مسألة: منعت المعتزلة تفويض الحكم إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم والعالم؛ لأن الحكم يتتبع المصلحة، وما ليس بمصلحة لا يصير بجعله إليه مصلحة. قلنا: الأصل ممنوع، وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون اختياره أمارة المصلحة؟ وجزم بوقوعه موسى بن عمران، لقوله عليه السلام بعدما أنشدت ابنة النضر بن الحارث: "لو سمعت ما قتلت" وسؤال الأقرع في الحج: أكل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلت ذلك لوجب" ونحوه. قلنا: لعلها ثبتت بنصوص محتملة الاستثناء، وتوقف الشافعي رضي الله عنه". أقول: اختلفوا في أنه يجوز أن يفوض الله تعالى الحكم إلى نبي أو عالم، أن يقول له: احكم بما شئت فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فقالت المعتزلة: لا يجوز، وقال موسى بن عمران بجوازه ووقوعه، وتوقف الشافعي رحمه الله في الجواز، كما قاله الإمام وأتباعه واختاروه، وهو مقتضى اختيار المصنف أيضا، فإنه قال: أجاب عن أدلة الفريقين، ومقتضى كلام ابن برهان في الأوسط أنه مذهب الشافعي، فإنه قال كما حكاه القرافي عنه: مذهبنا جواز هذه المسألة ووقوعها، واختار الآمدي وابن الحاجب أنه جائز غير واقع، وقال أبو علي الجبائي في أحد قوليه كما قال الآمدي: إنه يجوز للنبي دون غيره، وهذه المسألة قد جعلها الإمام وأتباعه عقب الأدلة كما جعلها المصنف، وجعلها الآمدي وابن الحاجب في كتاب الاجتهاد، ووجه مناسبتها الأول أنه إذا وقع تفويض الحكم إلى النبي أو العالم فتكون الأحكام بالنسبة إليه غير متوقفة على الدليل، ويكون حكمه من جملة المدارك الشرعية، ووجه مناسبتها الاجتهاد أن الحكم قد تعين فيها من جهة العبد لا بطريق الوحي. إذا علمت ذلك فقد احتجت المعتزلة على المنع بأن أحكام الله تعالى تابعة لمصالح العباد على ما سبق في القياس، فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لأدى إلى تخلف الحكم عن المصلحة؛ لجواز أن يصادف اختياره ما ليس بمصلحة في نفس الأمر، وما ليس بمصلحة في نفس الأمر لا يصير مصلحة بجعله
إلى المجتهد أي: بتفويضه إليه؛ لاستحالة انقلاب الحقائق، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: أنه مبني على أصل ممنوع وهو وجوب رعاية المصالح. الثاني: وسلمنا ما ذكرتم لكن لم لا يجوز أن يكون اختيار العبد للحكم أمارة على وجود المصلحة فيه؟ وذلك بأن يلهمه الله تعالى إلى اختيار ما فيه المصلحة، وإن لم يعلم بها فإن الله تعالى لما أخبره بأنه لا يحكم إلا بالصواب، وتوقف الحكم بالصواب على المصلحة، لزم أن لا يحكم إلا بالمصلحة. قوله:"لقوله عليه السلام" أي: استدل موسى بن عمران على الوقوع بأمرين أحدهما: قضية النضر بن الحارث وهي على ما حكاه ابن هشام في السيرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر الكبرى توجه إلى المدينة ومعه الأسرى، فلما كان بالصفراء أمر عليا فقتل النضر بن الحارث ثم أنشد بعد ذلك ما قيل في القتلى فقال وقالت قتيلة بنت الحارث أخت النضر بن الحارث:
يا راكبا إن الأثيل مظنة
…
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية
…
ما إن تزل بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة
…
جادت بوابلها وأخرى تحنق
هل يسمعني النضر إن ناديته
…
أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة
…
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن
…
بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة
…
وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
…
لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا
…
رسف المقيد وهو فان موثق
قال ابن هشام فقال: الله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: "لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه" هذا آخر كلام ابن هشام. وتخفق بضم الفاء وكسرها معناه تضطرب، والضنء بكسر الضاد المعجمة معناه: الذي يضن به أي يبخل به لعظم قدره، ويقال: أعرق فهو معرق على البناء للمفعول فيهما أي: له عرق في الكرم، وعلى البناء للفاعل بمعنى أنج، ورسف المقيد بالراء والسين المهملة هو مشي المقيد. قاله الجوهري، ومعنى قولها: من صبح خامسة أي: صبح ليلة خامسة؛ لأنها كانت بمكة وبينها وبين الأثيل الذي بالصفراء وهو مكان قبر أخيها هذه المسافة، ووجه الدلالة أن قوله عليه الصلاة والسلام:"لو بلغني لمننت عليه" يدل على أن الحكم كان مفوضا إلى رأيه، إذ لو كان مأمورا لقتله سمع شعرها أو لم يسمعه، المصنف رحمه الله لم يذكر الشعر وذكر أن الذي أنشدته هو بنت النضر، وكذلك ذكره الإمام والآمدي وأتباعهما. وقد عرفت مما تقدم من كلام ابن هشام أنها أخته لا بنته، وصرحوا أيضا بأنها أنشدته للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف مقتضى كلام ابن هشام. الدليل
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج" 1 فقال الأقرع بن حابس: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثا فقال: "لو قلت نعم، لوجب ولما استطعتم" فهذا أيضا يدل على أن الأمر فيه كان مفوضا إلى اختياره. قوله: "ونحوه" أي: ونحو هذين الدليلين كقوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 2 وكقوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" 3 وكقوله: "إلا الأذخر" في حديث العباس المشهور وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم مكة يوم خلق السموات والأرض، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها" فقال العباس: إلا الأذخر يا رسول الله؟ فقال: "إلا الأذخر" 4 وأجاب المصنف بأن هذه الصور كلها لا تدل على تفويض الحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاحتمال أن تكون ثابتة بنصوص محتملة الاستثناء، أي: مجوزة على وفق إرادة بعض الناس، كأن أوحي إليه بأن يقتل الأسارى إلا أن يسأل سائل في أحدهم، والأحسن في الجواب أن يقال: أما قضية النضر فقد يكون عليه السلام مخيرا فيه وفي غيره من الأسارى، والتخيير ليس بممتنع اتفاقا، بل هو التخيير الثابت في حق كل إمام، وأما قوله للأقرع:"لو قلت: نعم، لوجب" فمدلوله الوجوب على تقدير قول نعم، وهذا صحيح معلوم بالضرورة، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقول: نعم إلا إذا كان الحكم كذلك، ولكن من أين لنا أن الحكم كذلك فقد يكون ممتنعا، وقوله:"لو قلت نعم" لا يدل على جواز قولها؛ لأن القضية الشرطية لا تدل على جواز الشرط الذي فيها، وأما قوله:"لولا أن أشق على أمتي" فيحتمل أن البارئ تعالى أمره أن يأمرهم عند عدم المشقة فلو وجد المشقة لم يأمرهم، وأما قوله:"إلا الأذخر" فيحتمل أن يكون بوحي سريع، أو أطلق العام والمراد به الخصوص، وكان على عزم البيان، وجواب الباقي ظاهر، ولما ثبت القدح في أدلة القاطعين لزم منه صحة التوقف، فلأجل ذلك كان هو المختار. قال:
1 انظر السيرة النبوية لابن هشام في الجزء الثالث ص41، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 291".
3 أخرجه البخاري في صحيحه "2/ 5" ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب 15، رقم 42، والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 221" ومالك في الموطأ "66".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "4/ 32" والزيلعي في نصب الراية "4/ 265" والقرطبي في تفسيره "12/ 13" والبخاري في صحيحه "3/ 18".