الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاجب، وذهب أكثر الشافعية كما قاله الآمدي إلى الجواز، وقال: إن هذا الخلاف يجري في الشروط. وقال ابن برهان في الأوسط: يجري فيها وفي المحال أيضا، فقال: يجوز القياس في الأسباب والشروط والمحال عندنا خلافا لأبي حنيفة، مثال المسألة أن يقال: الزنا سبب لإيجاب الحد لعلة كذا فكذلك اللواط بالقياس عليه، واستدل المانعون بأن قياس اللواط على الزنا مثلا في كونه موجبا للحد، إن لم يكن لمعنى مشترك بينهما فلا يصح القياس، وإن كان لمعنى مشترك كان الموجب للحد هو ذلك المشترك، وحينئذ يخرج كل من الزنا واللواط عن كونه موجبا؛ لأن الحكم لما أسند إلى القدر المشترك استحال مع ذلك إسناده إلى خصوصية كل واحد منهما، وحينئذ فلا يصح القياس لأن من شرطه بقاء حكم الأصل وهو غير باق هنا، وفي هذا الدليل بحث يطول ذكره. قوله:"العادات" أي: لا يجري القياس أيضا في الأمور العادية كأقل الحيض وأكثره وأقل الحمل وأكثره؛ لأنها تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمزجة، ولا يعرف أسبابها وهذا الحكم منقول في المحصول ومختصراته عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي فقط، ولم يذكر الآمدي وابن الحاجب.
الباب الثاني: في أركانه
الفصل الأول: في العلة
"الباب الثاني: في أركانه إذا ثبت الحكم في صورة المشترك بينها وبين غيرها، تسمى الأولى أصلا والثانية فرعا، والمشترك علة وجامعا، وجعل المتكلمون دليل الحكم في الأصل أصلا، والإمام الحكم في الأولى أصلا والعلة فرعا، وفي الثانية بالعكس. وبيان ذلك في فصلين: الفصل الأول: في العلة وهي المعرف الحكم، قيل: المستنبطة عرفت به، فيدور قلنا: تعريفه في الأصل وتعريفها في الفرع فلا دور". أقول: شرع المصنف في بيان أركان القياس وهي أربعة: الأصل، والفرع، والوصف الجامع بينهما، وحكم الأصل؛ فإن قيل: أهملتم خامسا وهو حكم الفرع قلنا: أجاب الآمدي بأن حكم الفرع ثمرة القياس، فلو كان من أركانه لتوقف القياس عليه وهو دور، وفيه نظر؛ فإن ثمرة القياس إنما هو العلم بالحكم لا نفس الحكم. فالأولى أن يجاب بأن حكم الفرع في الحقيقة هو حكم الأصل، وإن كان غيره باعتبار المحل كما تقدم في تعريف القياس، ثم إن المصنف لما بين الحكم في أول الكتاب لم يتعرض هنا إلى بيانه، واقتصر على بيان الأركان الثلاثة، فقال: إنه إذا ثبت حكم في صورة الأمر مشترك بينها وبين صورة أخرى كثبوت الحرمة في الخمر للإسكار المشترك بينها وبين النبيذ، فإن الصورة الأولى وهي الخمر تسمى أصلا، والصورة الثانية وهي النبيذ تسمى فرعا، والمشترك وهو الإسكار يسمى علة وجامعا، وهذا هو رأي الفقهاء، ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين. وقال الآمدي: إنه الأشبه لافتقار النص والحكم إلى المحل بالضرورة من غير عكس، وجعل المتكلمون الأصل هو دليل الحكم في الذي سميناه أصلا كالدليل الدال على تحريم الخمر في مثالنا، وقياسه أن يكون فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه كتحريم الخمر، وفي بعض الشروح أن فرعه المقابل له هو حكم المحل المشبه كتحريم النبيذ، قال: وهو صحيح
أيضا؛ لأن فرعَ الفرعِ فرعٌ، فعلى هذا يتفق الاصطلاحان. ولعل المصنف إنما أهمل بيان فرعه لذلك، وما قاله في الاتفاق ممنوع؛ لأن الفرع في الأول هو المحل المشبه لا حكمه، وقال الإمام: القياس مشتمل على أصلين وفرعين، فالحكم الذي في الصورة الأولى كتحريم الخمر أصل العلة التي فيها، والعلة فرع منه، وأما في الصورة الثانية وهو النبيذ، فإن الأمر بالعكس، أي تكون العلة التي فيه أصلا للحكم والحكم فرعا منها، وهذه الاصطلاحات راجعة إلى قولنا: الأصل ما يبنى عليه غيره، فأما رجوع الأولين إليه فظاهر، وأما الثالث فلأن إثبات علة الحكم في الخمر متوقف على الحكم؛ لأنا ما لم نعلم ثبوت الحكم لا نطلب علته، بخلاف النبيذ فإن إثبات الحكم فيه متوقف على العلة، لكن هذا إنما يظهر في العلة المستنبطة خاصة. وقوله: "وبيان ذلك
…
إلخ" لما بين الأركان الثلاثة تبيينا إجماليا شرع في تبيينها مفصلة، فعقد لذلك فصلين، الأول: في تعريف العلة وبيان انقسامها وأحكامها، والثاني: في شرائط الأصل والفرع، وقدم الكلام على العلة لأنها الركن الأعظم، وقد اختلفوا في تفسيرها؛ فقال الغزالي: العلة هي الوصف المؤثر في الأحكام بجعل الشارع لا لذاته. وقد تقدم إبطاله في تقسيم الحكم، وقالت المعتزلة: هي المؤثر لذاته في الحكم، وهو مبني على التحسين والتقبيح، وقد تقدم إبطاله أيضا. وقال الآمدي وابن الحاجب: هي الباعث على الحكم، أي: المشتمل على حكمه، صالحة لأن تكون مقصود الشارع من شرع الحكم، وقال الإمام: إنها المعرف للحكم واختاره المصنف، فإن قيل: العلة المستنبطة إنما عرفت بالحكم؛ لأن معرفة كونها علة للحكم متوقف على معرفة الحكم بالضرورة، فلو عرف الحكم بها لكان العلم بالحكم متوقفا عليها وهو دور، واحترزنا في السؤال بالمستنبطة عن المنصوصة، فإن معرفتها غير متوقفة على الحكم لكونها ثابتة بالنص، وأجاب المصنف بأن تعريف الحكم بالعلة إنما هو بالنسبة إلى الأصل، وتعريف العلة للحكم بالنسبة إلى الفرع فلا دور لاختلاف الجهة، وهذا الجواب يلزم منه زيادة قيد في التعريف، فيقال: إن العلة هي المعرف لحكم الفرع، أي: الذي من شأنه أنه إذا وجد فيه كان معرفا لحكمه، وقد أورد بعضهم على التقييد بهذه الزيادة إيرادات ضعيفة فاحذرها. قال: "النظر في أطراف، الطرف الأول في الطرق الدالة على العلية، الأولى: النص القاطع كقوله تعالى في الفيء: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الاستئذان لأجل البصر" 1 وقوله: "إنما نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة" 2 والظاهر اللام كقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]
1 أخرجه البخاري "8/ 66"، والإمام أحمد في المسند "5/ 330"، والمنذري في الترغيب والترهيب "3/ 437".
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأضاحي "28"، والإمام أحمد في مسنده "6/ 51"، والهندي في كنز العمال "12263".
فإن أئمة اللغة قالوا: السلام للتعليل، وفي قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] وقول الشاعر:
.....................
…
لدوا للموت وابنوا للخراب
للعاقبة مجازا، وإن مثل:"لا تقربوه طيبا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا" 1 وقوله عليه السلام: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 2 والباء مثل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]". أقول: النظر المتعلق بالعلة منحصر في ثلاثة أطراف؛ لأن الكلام إما في الطرق الدالة على العلية، أو في الطرق الدالة على إبطال العلية، أو في أقسام العلية، فأما الطرق الدالة على العلية فهي تسع؛ الأولى النص، قال الآمدي: وهو ما يدل بالوضع من الكتاب والسنة على علية وصف الحكم، وقسمه المصنف تبعا للإمام والآمدي إلى قاطع، وهو الذي لا يحتمل غير العلية، وظاهر وهو الذي يحتمل غيرها احتمالا مرجوحا، وفي التقسيم نظر؛ فإن دلالات الألفاظ لا تفيد اليقين عند الإمام كما تقدم غير مرة، وأيضا فقد ذكر المصنف وغيره في تقسيم الألفاظ أن الظاهر قسيم النص لا قسم منه، ثم إن القاطع له ألفاظ منها كي، كقوله تعالى في الفيء: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] ، أي: إنما وجب تخميسه كي لا يتداوله الأغنياء بينهم، فلا يحصل للفقراء منه شيء، ومنها لأجل كذا أو من أجل كذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان لأجل البصر" وكقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة" أي: لأجل التوسعة على الطائفة التي قدمت المدينة في أيام التشريق، والدافة بالدال المهملة مشتقة من الدفيف وهو السير اللين، ومنه قولهم: دفت علينا من بني فلان دافة، قال الجوهري: ومنها ما ذكره في المحصول، وهو قولنا: لعلة كذا، أو لسبب، أو لمؤثر، أو لموجب، وأهمله المصنف لأنه في معنى لأجل، ومنها إذن، وقد ذكرها ابن الحاجب. وأما الظاهر فثلاثة ألفاظ أحدها: اللام كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] ، فإن أهل اللغة قد نصوا على أنه للتعليل، وقولهم: في الألفاظ حجة، وإنما لم يكن قاطعا لاحتماله الملك والاختصاص وغير ذلك من المعاني المذكورة في علم النحو، فإن قيل: لو كانت اللام للتعليل لم يستعمل فيما يصح فيه التعليل، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} فإن جهنم ليست علة في الخلق، وكقول الشاعر:
له ملك ينادي كل يوم
…
لدوا للموت وابنوا للخراب
قال: الموت ليس علة للولادة، كذلك الخراب ليس علة للبناء، بل اللام هنا للعاقبة، يعني أن عاقبة البناء الخراب، وعاقبة الولادة الموت، وعاقبة كثير من المخلوقات جنهم، وأجاب المصنف بأنه لما ثبت كونها للتعليل وتعذر الحمل عليه
1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 333"، والطبراني في المعجم الكبير "11/ 437".
2 أخرجه الإمام أحمد "5/ 303"، وابن عبد البر في التمهيد "1/ 318".
ههنا كان حملها على العاقبة مجازا، فإنه خير من الاشتراك. ووجه العلاقة أن عاقبة الشيء مترتبة عليه في المحصول كترتيب العلة الغائبة على معلولها، فقوله:"والظاهر" معطوف على القاطع، وقوله:"اللام" إما بدل منه أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فمنه اللام، وإن الباء وقوله أيضا، وفي قوله: أي: واللام في قوله تعالى وقول الشاعر للعاقبة مجازا. الثاني من أقسام الظاهر: إن، كقوله عليه الصلاة والسلام في حق المحرم الذي وقصته ناقته:"لا تقربوه طيبا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، فإن قيل: هذا الكلام مخالف لما سيأتي في النوع الأول من أنواع الإيماء، فإنه قد مثل له هو والإمام بهذا المثال بعينه على عكس ما قرراه هنا، فالجواب أن المثال فيه جهتان:"جهة تدل على التعليل بالصريح "وهي أن"، وجهة تدل عليه بالإيماء وهي ترتب الحكم على الوصف بالفاء" فصح التمثيل به للنص تارة وللإيماء أخرى. قال التبريزي في التنقيح: والحق أن "إن" لتأكيد مضمون الجملة ولا إشعار لها بالتعليل؛ ولهذا يحسن استعمالها ابتداء من غير سبق، حكم الثالث البقاء، كقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] أي: بسبب الرحمة لنت لهم، قال في المحصول: وأصلها الإلصاق، ولكن العلة لما اقتضت وجود المعلول حصل فيها معنى الإلصاق، فحسن استعمالها فيه مجازا، وهذا الكلام صريح في أنها لا تحمل عند الإطلاق على التعليل وحينئذ لا تكون ظاهرة فيه وهذا هو الصواب، وزاد ابن الحاجب على الثلاثة قولنا: إن كان كذا، وكذلك ترتيب الحكم على الوصف. قال:"الثاني: الإيماء، وهو خمسة أنواع، الأول: ترتيب الحكم على الوصف بالفاء وتكون في الوصف أو الحكم وفي لفظ الشارع أو الراوي، مثاله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] " لا تقربوه طيبا" "زنى ماعز فرُجم". فرع: ترتيب الحكم على الوصف يقتضي العلية، وقيل: إذا كان مناسبا. لنا أنه قيل: أكرم الجاهل وأهن العالم قبح وليس لمجرد الأمر، فإنه قد يحسن فهو نسيق التعليل، قيل: الدلالة في هذه الصورة لا تستلزم دلالته في الكل، قلنا: يجب دفعا للاشتراك". أقول: الإيماء، قال ابن الحاجب: هو أن يقترن وصف بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا وقال غيره: هو ما يدل على علية وصف بحكم بواسطة قرينة من القرائن، ويسمى بالتنبيه أيضا وهو على خمسة أنواع، الأول: ترتيب الحكم على الوصف بواسطة الفاء، وهو أن يذكر حكم ووصف وتدخل الفاء على الثاني منهما، سواء كان هو الوصف أو الحكم، وسواء كان من كلام الشارع أو الراوي، فحصل منه أربعة أقسام، الأول: أن تدخل الفاء على الوصف في كلام الشارع كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقربوه طيبا؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا". الثاني: أن يدخل عليه في كلام الراوي ولم يظفروا له بمثال. الثالث: أن يدخل على الحكم في كلام الشارع كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} . الرابع: أن يدخل عليه في كلام الراوي، كقول الراوي: زنى ماعز فرجم، ولا فرق في الراوي بين الفقيه وغيره كما قاله ابن الحاجب. قال الإمام: ولا شك أن الوارد
في كلام الشارع أقوى في العلية من الوارد في كلام الراوي، قال: ويشبه أن يكون تقديم العلة أقوى من عكسه ثم علله بعلة فيها نظر، وهذا الذي ذكر المصنف من كون هذه الأقسام من باب الإيماء نص عليه الآمدي أيضا وجزم ابن الحاجب بأن الجميع من باب الصريح. قوله: "فرع
…
إلخ" اعلم أن هذا تفريع على شيء غير مذكور، فإن كلامه الآن في أن ترتيب الحكم على الوصف بدون الفاء هل يكون علة مطلقا أم لا بد من المناسبة؟ والكلام فيه متوقف على أن الترتيب المذكور يقتضي العلية ولم يتقدم له ذكر هنا ولا في المحصول، بل تقدم فيهما ما يقتضي عكسه فإن اشتراطه للفاء دليل على أنه دونها لا يفيد، فإن قيل: إنما لم يذكره أولا لكونه يعلم من هذا الفرع، قلنا: حينئذ يكون الفرع أصلا لما قبله لا فرعا عليه، وأقرب ما في تصحيح كلامه أن يقال: معناه إذا ثبت أن الترتيب السابق يقتضي العلية، فهل يكون نفس الترتيب المجرد عن الفاء مقتضيا لها أيضا أم لا؟ وإذا قدرنا اقتضاءه إياها فهل يشترط في الوصف أن يكون مناسبا أم لا؟ والحاصل أن المختار عنده أن الترتيب بدون الفاء يقتضي العلية وإن لم يكن مناسبا، وقيل: لا بد من المناسبة، واختاره الآمدي وابن الحاجب مع ترجيحهما أن ما عدا هذا النوع من أنواع الإيماء وهو ترتيب الحكم على الوصف لا يشترط فيه المناسبة، ولم يتعرض له المصنف، ثم استدل المصنف على مذهبه بأنه لو قال قائل: أكرم الجاهل وأهن العالم، لكان ذلك قبيحا عرفا وليس قبحه لمجرد الأمر بإكرام الجاهل وإهانة العالم، فإن الأمر بإكرام الجاهل قد يحسن لدينه أو شجاعته أو نسبه أو سوابق نعمه، كذلك الأمر بإهانة العالم قد يحسن أيضا لفسقه، أو بدعته، أو سوء خلقه، وإذا لم يكن القبح لمجرد الأمر فهو لسبق التعليل، أي: لكونه يسبق إلى الأفهام تعليل هذا الحكم بهذا الوصف؛ لأن الأصل عدم علة أخرى، وإذا سبق إلى الأفهام التعليل مع عدم المناسبة لزم أن يكون حقيقة. اعترض الخصم بأن دلالة الترتيب الذي لا يناسب على العلية في هذه الصورة لا يستلزم دلالته عليها في جميع الصورة؛ لأن المثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية، لجواز اختلاف الجزئيات في الأحكام، وأجاب المصنف بأن هذا الترتيب لو لم يدل عليها في باقي الصورة لكان مشتركا؛ لكونه يدل على العلية تارة وعلى عدمها أخرى، فإن قيل: لا نسلم دلالته على عدم العلية إذ لا يلزم من عدم الدلالة وجود الدلالة على العدم، فالجواب أن هذا الترتيب قد وقع على مقتضى اللغة فلا بد أن يدل على شيء، فمدلوله في غير هذه الصورة إن كان هو التعليل فلا كلام، وإن كان غيره فقد دل على العلية، ولقائل أن يقول: الترتيب فرد من أفراد المركبات، والمركبات عند الإمام والمصنف غير موضوعة كما تقدم غير مرة، ووصف اللفظ بالاشتراك والمجاز فرع عن وضعه، قال الآمدي: واستنباط العلة من الحكم الملفوظ به كتعليل تحريم الخمر بالإسكار ليس من قبيل الإيماء، قال بخلاف العكس يعني: استنباط الحكم من الوصف كاستنباط الصحة من
الحل في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإن الحق الذي عليه المحققون أنه من قبيل الإيماء، وحكى ابن الحاجب في المسألتين ثلاثة مذاهب. قال:"الثاني: أن يحكم عقب علمه بصفة المحكوم، كقول الأعرابي: أفطرت يا رسول الله؟ فقال: "أعتق رقبة" 1؛ لأن صلاحية جوابه تغلب كونه جوابا. والسؤال معاد فيه تقديرا فالتحق بالأول. الثالث: أن يذكر وصفا لو لم يؤثر لم يفد مثل: " إنها من الطوافين عليكم" "ثمرة طيبة وماء طهور" وقوله: "أينقص الرطب إذا جفّ؟ " 2 قيل: نعم، قال: "فلا إذًا" 3 وقوله لعمر وقد سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ " 4 الرابع: أن يفرق في الحكم بين شيئين بذكر وصف مثل: "القاتل لا يرث"، وقوله عليه السلام: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم، يدا بيد" 5 قيد الخامس: النهي عن مفوت الواجب مثل {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]". أقول: النوع الثاني من أنواع الإيماء: أن يحكم الشارع على شخص بحكم عقب علمه بصفة صدرت منه، كقول الأعرابي: واقعت أهلي في نهار رمضان يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أعتق رقبة" فإنه يدل على أن الجماع علة في الإعتاق؛ لأنه قوله عليه الصلاة والسلام: "أعتق" صالح لجواب ذلك السؤال، والكلام صالح لأن يكون جواب السؤال إذا ذكر عقب السؤال يغلب على الظن كونه جوابا له، وإذا كان جوابا يكون السؤال معادا فيه تقديرا، فكأنه قيل: واقعت فأعتق، وحينئذ فيلتحق بالنوع الأول وهو الترتيب، وتمثيل المصنف هنا بالإفطار غير مستقيم، والصواب التمثيل بالجماع كما قلنا. النوع الثالث من أنواع الإيماء: أن يذكر الشارع وصفا لو لم يؤثر في الحكم أي: لو لم يكن علة فيه لم يكن ذكره مفيدا، ثم مثل له المصنف بأربعة أمثلة إشارة إلى ما قاله في المحصول من كونه ينقسم إلى أربعة أقسام، الأول: أن يكون ذكره دافعا لسؤال أورده من توهم الاشتراك بين صورتين، كما روي أنه عليه الصلاة والسلام امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك دخلت على قوم عندهم هرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات" فلو لم يكن طوافها علة لعدم النجاسة كان ذكره هنا عبثا، لا سيما وهو من الواضحات، فإن قيل: كيف جمع الهرة بالياء والنون مع أنها لا تعقل؟ قلنا: المراد أنها من جنس الطوافين والطوافات،
1 أخرجه البخاري في صحيحه "7/ 86" والهيثمي في مجمع الزوائد "3/ 23" والإمام أحمد في مسنده "2/ 209".
2 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "8/ 313" والإمام أحمد في مسنده "1/ 449".
3 أخرجه النسائي في سننه، في كتاب البيوع، باب 26 والترمذي "1225" وأبو داود في سننه، كتاب البيوع "باب 18".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 21".
5 أخرجه القرطبي في تفسيره "10/ 86" والربيع بن حبيب في مسنده "2/ 43".
الثاني: أن يذكر الشارع وصفا في محل الحكم لو لم يكن علة، لم يحتج إلى ذكره، كحديث ابن مسعود المشهور على ضعفه أنه أحضر النبي صلى الله عليه وسلم ماء نبذ فيه تمر أي: طرح فيه، فتوضأ به وقال:"ثمرة طيبة وماء طهور" فإن وصف المحل وهو النبيذ بطيب ثمرته وطهورية مائه دليل على بقاء طهورية الماء. الثالث: أن يسأل الشارع عن وصف، فإذا أجاب عنه المسئول أقره عليه، ثم يذكر بعده الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام حين سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر متساويا:"أينقص الرطب إذا جف؟ " فقيل: نعم فقال: "فلا إذًا". الرابع: أن يقر الرسول عليه الصلاة والسلام السائل على حكم ما يشبه المسئول عنه مع تنبهه على وجه الشبه، فيعلم أن وجه الشبه هو العلة، كقوله عليه الصلاة والسلام لعمر وقد سأله عن إفساد الصوم بالقبلة من غير إنزال:"أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ " يعني: لفظته أكنت شاربه؟ فنبه الرسول بهذا على أن حكم القبلة في عدم إفسادها الصوم كحكم ما يشبهها وهي المضمضة، ووجه الشبه أن كلا منهما مقدمة لم يترتب عليه المقصود وهو الشرب والإنزال. النوع الرابع من الإيماء: أن يفرق الشارع في الحكم بين شيئين بذكر وصف لأحدهما، فيعلم أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم وإلا لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة، ومثل له المصنف بمثالين إشارة إلى ما قاله في المحصول من كونه على نوعين، أحدهما: أن لا يكون حكم الشيء الآخر وهو قسيم الموصوف، مذكورا معه، كقوله عليه الصلاة والسلام:"القاتل لا يرث" فإن هذا الحديث ليس فيه التنصيص على توريث غير القاتل. والثاني: أن يكون مذكورا معه، وهو على خمسة أقسام ذكرها في المحصول1، أحدها وعليه اقتصر المصنف تبعا للحاصل: أن تكون التفرقة بالشرط، كقوله عليه الصلاة والسلام:"لا تبيعوا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير" إلى أن قال: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم، يدا بيد". الثاني: أن تكون التفرقة بالغاية، كقوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] . الثالث: أن يكون بالاستثناء كقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 23] . الرابع: أن يكون بالاستدراك كقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . الخامس: أن يكون باستئناف ذكرهما، كقوله عليه الصلاة والسلام:"للراجل سهم، وللفارس سهمان". النوع الخامس: النهي عن فعل يكون مانعا لما تقدم وجوبه علينا، كقوله تعالى:{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فإنه تعالى لما أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع علمنا أن العلة فيه تفويت الواجب. قال: "الثالث: الإجماع كتعليل تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث، بامتزاج النسبين. الرابع: المناسبة، المناسب: ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، وهو حقيقي
1 انظر المحصول، ص317، جـ2.
دنيوي ضروري كحفظ النفس بالقصاص، والدين بالقتال، والعقل بالزجر عن المنكرات، والمال بالضمان، والنسب بالحد على الزنا، ومصلحي كنصب الولي للصغير، وتحسيني كتحريم القاذورات، وأخروي كتزكية النفس، وإقناعي يظن مناسبا فيزول بالتأمل فيه".
أقول: لما تقدم أن الطرق الدالة على العلية تسعة، وتقدم منها شيئان هما: النص والإيماء بأقسامهما، شرع في الثالث وهو الإجماع، فإذا أجمعت الأمة على كون الوصف الفلاني علة للحكم الفلاني ثبتت عليته له، كإجماعهم على أن العلة في تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث هو امتزاج النسبين، أي: كونه من الأبوين، وحينئذ فيقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح والصلاة عليه، وتحمل النقل بجامع امتزاج النسبين. قوله:"الرابع" أي: الطريق الرابع من الطرق الدالة على العلية المناسبة، ثم إن المصنف شرع في تعريف المناسب؛ لأنه المقصود هنا، ويعرف منه تعريف المناسبة، والمناسب في اللغة هو الملائم، واختلفوا في معناه الشرعي، فقال ابن الحاجب: المناسب وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا من جلب منفعة أو دفع مضرة، وذكر الآمدي نحوه أيضا، وذلك كالقتل العمد العدوان فإنه وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم عليه وهو إيجاب القصاص على القاتل حصول منفعة، وهو بقاء الحياة، وإن شئت قلت: دفع مضرة وهي التعدي، فإن الشخص إذا علم وجوب القصاص امتنع عن القتل، وفي التعريف نظر؛ لأن المناسب قد يكون ظاهرا منضبطا وقد لا يكون بدليل صحة انقسامه إليهما، حيث قالوا: إن كان ظاهرا منضبطا اعتبر في نفسه، وإن كان خفيا أو غير منضبط اعتبرت مظنته، وقال الإمام: من لا يعلل أحكام الله تعالى يقول: إن المناسب هو الملائم لأفعال العقلاء في العادات، ومن يعللها يقول: إنه الوصف المقتضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، وفيه نظر أيضا، فإنهم نصوا على أن القتل العمد العدوان مناسب لمشروعية القصاص مع أن هذا الفعل الصادر من الجاني لا يصدق عليه أنه وصف ملائم لأفعال العقلاء عادة، ولا أنه وصف جالب للنفع أو دافع للضرر، بل الجالب أو الدافع إنما هو المشروعية وكذلك الردة والإسكار والسرقة والغصب والزنا، وقال المصنف: المناسب هو ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا، فجعل المقاصد أنفسها أوصافا مناسبة على خلاف اختيار الإمام وهو فاسد، ألا ترى أن مشروعية القصاص مثلا جالبة أو دافعة كما بيناه، وليست هي الوصف المناسب؛ لأن المناسب من أقسام العلل فيكون هو القتل في مثالنا لا المشروعية؛ لأنها معلولة لا علة، وكذلك الردة وغيرها مما قلناه. قوله: "وهو حقيقي
…
إلى آخره" يعني: أن المناسب إما حقيقي أو إقناعي؛ لأن مناسبته إن كانت بحيث لا يزول بالتأمل فيه فهو الحقيقي وإلا فهو إقناعي؛ والحقيقي إما دنيوي بأن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا، أو أخروي بأن يكون لمصلحة تتعلق بالآخرة، والدنيوي إما ضروري أو مصلحي أو
تحسيني؛ لأن الوصف المشتمل على المصلحة إن انتهت مصلحته إلى حد الضرورة فهو الضروري، وإلا فإن كانت في محل الحاجة فهو المصلحي، وإن كانت مستحسنة في العادات فهو التحسيني، فالضروري هو المتضمن لحفظ النفس، أو الدين، أو العقل، أو المال، أو النسب، فأما النفس فمحفوظة بمشروعية القصاص، فإن القتل العمد العدوان مناسب لوجوب القصاص؛ لأنه مقرر للحياة التي هي أجل المنافع، وأما الدين فمحفوظ بمشروعية القتال مع الحربيين والمرتدين، فإن الحرية والردة مناسبة له، وأما العقل فمحفوظ بمشروعية الزجر عن المنكرات، فإنه مناسب له.
وأما المال فمحفوظ بمشروعية الضمان عند أخذه بالباطل. وأما النسب فمحفوظ بمشروعية وجوب الحد على الزنا، وهذه الأشياء مناسبتها ظاهرة وهي المعروفة بالكليات الخمس التي لم تبح في ملة من الملل، وأما المصلحي فكنصب الولي على الصغيرة أي: تمكينه من تزويجها، كما قال في المحصول1 فإن مصالح النكاح غير ضرورية في الحال، إلا أن الحاجة إليه حاصلة وهو تحصيل الكفؤ الذي لو فات لربما فات لا إلى بدل، وأما التحسيني فكتحريم القاذورات، فإن نفرة الطباع منها لخساستها مناسب لحرمة تناولها؛ حثا للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم. ومن هذا القبيل كما قاله في المحصول سلب أهلية الشهادة الولاية عن العبد؛ لأن شرفهما لا يناسب العبد الذي هو نازل المقدار، وأما الأخروي فهو المعالي المذكورة في علم الحكمة في باب تزكية النفس وهي تهذيب الأخلاق، ورياضة النفوس المقتضية لشرعية العبادات فإن الصلاة مثلا وضعت للخضوع والتذلل، والصوم لإنكسار النفس بحسب القوى الشهوانية والعصبية، فإذا كانت النفس زكية تؤدي المأمورات وتجتنب المنهيات حصلت لها السعادات الأخروية، وأما الإقناعي فمثل له من المحصول بتعليل الشافعي رضي الله عنه تحريم بيع الخمر والميتة بالنجاسة. ثم يقيس عليه الكلب والخنزير، والمناسبة أن كونه نجسا يناسب إذلاله، ومقابلته بالمال في البيع إعزاز والجمع بينها متناقض، فهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب لكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن كونه نجسا معناه أنه لا يجوز الصلاة معه وليس بينه وبين امتناع البيع مناسبة. قال:"والمناسبة تفيد العلية، إذا اعتبرها الشارع فيه كالسكر في الحرمة، أو في جنسه كامتزاج النسبين في التقديم، أو بالعكس كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط الصلاة، أو جنسه في جنسه كإيجاب حد القذف على الشارب؛ لكون الشرب مظنة القذف، والمظنة قد أقيمت مقام المظنون؛ لأن الاستقراء دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد تفضلا وإحسانا، فحيث ثبت حكم وهناك وصف ولم يوجد غيره ظن كونه علة، وإن لم تعتبر وهو المناسب المرسل اعتبره مالك".
1 انظر المحصول، ص221، جـ2.
أقول: الوصف المناسب على ثلاثة أقسام، أحدها: أن يلغيه الشارع أي: يورد الفروع على عكسه فلا إشكال في أنه لا يجوز التعليل به؛ ولهذا أهمله المصنف، وذلك كإيجاب صوم شهرين في كفارة الجماع في نهار رمضان على المالك، فإنه وإن كان أبلغ في ردعه من العتق، لكن الشارع ألغاه بإيجابه الإعتاق ابتداء، فلا يجوز اعتباره كما قلنا، وقد أنكروا على يحيى بن يحيى تلميذ مالك حيث أفتى بعض ملوك المغاربة بذلك. الثاني: أن يعتبره الشارع أي: يورد الفروع على وفقه، وليس المراد باعتباره أن ينص على العلة أو يومئ إليها، وإلا لم تكن العلة مستفادة من المناسبة، وهذا النوع على أربعة أقسام ذكرها المصنف، أحدها: أن يعتبر الشارع نوع المناسبة في نوع الحكم، كالسكر مع الحرمة، فإن السكر نوع من الوصف، والتحريم نوع من الحكم، وقد اعتبره الشارع فيه حيث حرم الخمر فيلحق به النبيذ، وإلى هذا أشار بقوله: إذا اعتبرها الشارع فيه اعتبر النوع في النوع، وإنما أهمل التصريح به لكونه يعلم مما بعده. واعلم أن المصنف في التقسيم السابق قد جعل الوصف المناسب لتحريم المسكر هو حفظ العقل، ثم جعله هنا نفس السكر. وهذا الثاني لا يوافق تفسيره للمناسب؛ لأن نفس السكر لا يصدق عليه أنه جلب نفعا ولا دفع ضررا. الثاني: أن يعتبر الشارع نوع الوصف في جنس الحكم، وإليه أشار بقوله: أو في جنسه، وتقريره أن يعتبر الشارع النوع في الجنس، وذلك كامتزاج النسبين مع التقديم، فإن امتزاج النسبين وهو كونه أخا من الأبوين نوع من الوصف. وقد اعتبره الشارع في التقديم على الأخ من الأب فإنه قدمه في التراث، وقسنا عليه التقديم في ولاية النكاح والصلاة عليه وتحمل الدية لمشاركتها له في الجنسية، وإن خالفه في النوعية؛ إذ التقديم في ولاية النكاح نوع مغاير للتقديم في الإرث، بخلاف الحكم المتقدم وهو تحريم النبيذ والخمر، فإن الاختلاف هناك بالمحل خاصة ولا أثر له، فيكون تحريمها نوعا واحدا. الثالث: أن يعتبر الشارع جنس المناسبة في نوع الحكم، وإليه أشار بقوله: أو بالعكس، وذلك كالمشقة المشتركة بين الحائض والمسافر في سقوط القضاء، فإن الشارع اعتبر جنس المشقة في نوع سقوط قضاء الركعتين، وإنما جعلنا الأول جنسا، والثاني نوعا؛ لأن مشقة السفر نوع مخالف لمشقة الحيض، وأما سقوط قضاء الركعتين بالنسبة إلى المسافر والحائض فهو نوع واحد. الرابع: أن يعتبر الشارع جنس الوصف في جنس الحكم، أي: قال رضي الله عنه في شارب الخمر: أرى أنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى، فيكون عليه حد المفتري يعني القاذف، ووافقه الصحابة على ذلك فقد أوجبوا حد القذف على الشرب، لا لكونه شربا بل أقاموا مظنة القذف وهو الشرب مقام القذف، قياسا على إقامة الخلوة بالأجنبية مقام الوطء في التحريم؛ لكون الخلوة مظنة له، فقد ظهر أن الشارع اعتبر المظنة التي هي جنس لمظنة الوطء ولمظنة القذف في الحكم الذي هو جنس لإيجاب حد القذف ولحرمة الوطء، والمراد بالجنس هنا هو
القريب؛ لأن اعتبار الجنس البعيد في الجنس البعيد هو المناسب المرسل كما ستعرفه، ثم اعلم أن للجنسية مراتب، قال في المحصول: فأعم أوصاف الأحكام كونه حكما، ثم الحكم ينقسم إلى وجوب وغيره، والوجوب إلى عبادة وغيرها، والعبادة إلى صلاة وغيرها، والصلاة إلى نافلة وغيرها، فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، قال: وكذا في جانب الوصف، فأعم الأوصاف كونه يناط به الحكم، ثم المناسب، ثم الضروري. قوله:"لأن الاستقراء" هو متعلق بقوله: يفيد العلية، وتقديره أن المناسبة في هذه الأقسام الأربعة تفيد العلية؛ لأنا استقرينا أحكام الشرع فوجدنا كل حكم منها مشتملا على مصلحة عائدة إلى العباد، ويعلم منه أن الله تعالى شرع أحكامه لرعاية مصالح عباده على سبيل التفضل والإحسان لا على سبيل الحتم والوجوب خلافا للمعتزلة، وحينئذ فحيث ثبت حكم في الصورة وهناك وصف مناسب له متضمن لمصلحة العبد ولم يوجد غيره من الأوصاف الصالحة للعلية غلب على الظن أنه علة لكون الأصل عدم غيره، وإذا ثبت أنه علة ثبت أن المناسبة تفيد العلية وهو المدعي، وقال الإمام في المعالم: إنه لا يجوز تعليل الأحكام بالمصالح والمفاسد. قوله: "وإن لم تعتبر" هي بالتاء بنقطتين من فوق؛ لأنه قسيم لقوله: والمناسبة تفيد العلية، إذا اعتبرها الشارع فيه، وأشار بهذا إلى القسم الثالث وهو المناسب الذي لا يعلم هل اعتبره الشارع أو ألغاه وهو المسمى بالمناسب المرسل، وفي اعتباره خلاف يأتي مبسوطا في الكتاب الخامس إن شاء الله تعالى. قال الإمام: وذلك إنما يكون بحسب أوصاف هي أخص من كونه وصفا مصلحيا، وإلا فعموم كونه وصفا مصلحيا مشهود له بالاعتبار، ولأجل ما ذكره أعني الإمام عبر عن المناسب المرسل بأنه المناسب الذي اعتبر جنسه في جنسه، ولم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه، وهذا التفسير الذي فسر بأنه كلام المصنف للمرسل وهو أن لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه صرح به الآمدي، وكذلك المصنف في الغاية القصوى، وقال ابن الحاجب: المرسل هو الذي لم يعتبره الشارع سواء علم أنه ألغاه أم لم يعلم الاعتبار ولا إلغاء، وإنما حملنا كلام المصنف على الأول لكونه مطابقا لكلامه في الغاية، وموافقا لما نقله عن مالك، فإن مالكا لم يخالف في القسم الذي ألغاه الشارع. قال:"والغريب ما أثر هو فيه ولم يؤثر جنسه في جنسه، كالطعم في الربا، والملائم ما أثر جنسه في جنسه أيضا، والمؤثر ما أثر جنسه فيه. مسألة: المناسبة تبطل بالمعارضة؛ لأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه، ولا يصير نفعه غير نفع لكن يندفع مقتضاه". أقول: هذا تقسيم للقسم الأول وهو المناسب الذي علم اعتباره، وحاصله أنه ينقسم باعتبار تأثير نوعه وجنسه في نوع الحكم وجنسه إلى الغريب الملائم والمؤثر، والمناسب الغريب هو الذي أثر نوعه من نوع الحكم، ولم يؤثر
جنسه في جنسه، وسمي به لكونه لم يشهد غير أصله المعين باعتباره، ومثاله: الطعم في الربا، فإن نوع الطعم مؤثر في حرمة الربا، وليس جنسه مؤثرا في جنسه، وقد سبق له مثال آخر ذكره المصنف، وهو السكر مع المحرمة، والملائم هو ما أثر جنسه في جنسه كما أثر نوعه في نوعه، كالقتل العمد العدوان مع وجوب القصاص، فإن نوعه مؤثر في وجوب القصاص، وكذا جنسه وهو الجناية مؤثر في جنس القصاص وهو العقوبة، قال الآمدي: وهذا القسم متفق على قبوله بين القياسين وما عداه فمختلف فيه، والمؤثر هو ما أثر جنسه في نوع الحكم لا غير كالمشقة مع سقوط الصلاة مع ما مر. هكذا ذكره المصنف، وهو خلاف ما في أصليه الحاصل والمحصول، فأما المحصول ففيه قبيل الكلام على المشبه أن المؤثر هو ما أثر نوعه في بعض لحكم، قال: كامتزاج النسبين مع التقديم كما تقدم إيضاحه، وهذا عكس ما ذكره المصنف، وأما الحاصل ففيه في الموضع المذكور أيضا أن المؤثر هو ما أثر جنس في جنس الحكم، والظاهر أنه اشتبه عليه كلام الإمام فغلط في اختصاره له، وقد خالف ابن الحاجب أيضا هذا التقسيم، فقال: الوصف المناسب الذي اعتبره الشارع إن كان اعتباره بتنصيص الشارع على كونه علة أو بقيام الإجماع عليه فهو المؤثر، وإن كان اعتباره بترتيب الحكم على وفقه نظر، إن اعتبر عينه في جنس للحكم، أو بالعكس، أو جنسه في جنسه، فهو الملائم، وإن اعتبر نوعه في نوعه فهو الغريب، وإذا علمت هذا علمت أنه مخالف لكلام المصنف في المؤثر والملائم، وموافق له في الغريب. وأما الآمدي فتفسيره للملائم والغريب موافق لتفسير المصنف، وتفسيره للمؤثرات موافق لتفسير ابن الحاجب. واعلم أن أقسام المناسب على ما تقتضيه القسمة العقلية تسعة؛ لأنه إما أن يؤثر نوعه أو جنسه أو كلاهما في نوع الحكم، أو جنسه، أو كليهما، قال الآمدي: والواقع من هذه الأقسام خمسة، ذكر في الكتاب ألقابا ثلاثة منها، وبقي منها قسمان سبق مثالهما لم يتعرض للقبهما، أحدهما: أن يكون جنس الوصف مؤثرا في جنس الحكم دون النوع في النوع، كتأثير المظنة في مظنونها على ما سبق إيضاحه، وتمثيله بشرب الخمر، قال في الأحكام: وهو من جنس المناسب الغريب، والثاني: أن يكون نوع الوصف، نقله عنه. قوله: "مسألة
…
إلخ" اعلم أن الوصف إذا كان مشتملا على مصلحة لمشروعية الحكم، وعلى مفسدة تقتضي عدم مشروعيته، فهل يكون تضمنه للمفسدة موجبا لبطلان مناسبته للحكم أم لا؟ فيه مذهبان حكاهما في الأحكام من غير ترجيح، أحدهما وهو المختار عند ابن الحاجب: أنها تبطل إذا كانت المفسدة مساوية أو راجحة. والثاني: لا تبطل، وهو اختيار الإمام وأتباعه، واستدل المصنف عليه بأن الفعل وإن تضمن ضررا أزيد من نفعه لا يصير نفعه غير نفع لاستحالة انقلاب الحقائق، وإذا بقي نفعه بقيت مناسبته وهو المطلوب، غاية ما في الباب أنه لا يترتب عليه مقتضاه لكونه مرجوحا. قال: "الخامس: الشبه، قال القاضي
المقارن للحكم إن ناسبه بالذات كالسكر للحرمة فهو المناسب، أو بالتبع كالطهارة لاشتراط النية فهو الشبه، وإن لم يناسب فهو الطرد كبناء القنطرة للتطهير، وقيل: ما لم يناسب إن علم اعتبار جنسه القريب فهو الشبه وإلا الطرد، واعتبر الشافعي المشابهة في الحكم، وابن علية في الصورة، والإمام ما يظن استلزامه ولم يعتبره القاضي مطلقا. لنا أنه يفيد ظن وجود العلة فيثبت الحكم، قال: ما ليس بمناسب فهو مردود بالإجماع، قلنا: ممنوع". أقول: هذا هو الطريق الخامس من الطرق الدالة على العلية وهو الشبه، واختلفوا في تعريفه، فقال بعضهم: وهو الوصف الذي لا تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام، ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام، فهو دون المناسب، وفرق الطردي، ولأجل شبهه بكل منهما سمي الشبه، ومثاله قول الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة، وبالنظر إلى كون الشارع اعتبرها في بعض الأحكام كمس المصحف والصلاة والطواف، يوهم اشتمالها على المناسب، وهذا القول نقله الآمدي عن أكثر المحققين. قال: وهو الأقرب إلى قواعد الأصول ولم يذكره المصنف، قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الوصف المقارن للحكم إن ناسبه بالذات، فهو المسمى المناسب، كالسكر مع التحريم، وإن لم يناسبه بالذات بل بالتبع أي: بالاستلزام فهو الشبه، كتعليل وجوب النية في التيمم بكونه طهارة حتى يقاس عليه الوضوء، فإن الطهارة من حيث هي لا تناسب اشتراط النية، وإلا اشترطت في الطهارة عن النجس، لكن تناسبه من حيث إنها عبادة، والعبادة مناسبة لاشتراط النية، وإن لم تناسبه بالذات ولا بالتبع فهو الطرد، كاستدلال المالكي مثلا على جواز الوضوء بالماء المستعمل بقوله: إنه مائع، تبنى القنطرة على جنسه، فيجوز الوضوء به قياسا على الماء في النهر. فإن بناء القنطرة على الماء ليس مناسبا لكونه طهورا أو مستلزما له، وقال بعضهم: الوصف الذي لم يناسب الحكم إن علم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب لذلك الحكم فهو الشبه، وإن لم يعلم اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب فهو الطرد، ومثله بعضهم بإيجاب المهر بالخلوة بالزوجة على القول القديم. فإن الخلوة لا تناسب وجوب المهر؛ لأن وجوبه في مقابلة الوطء، إلا أن جنس هذا الوصف وهو كون الخلوة مظنة للوطء قد اعتبر في جنس الوجوب وهو الحكم، ووجه اعتباره فيه أنه قد اعتبر في التحريم، والحكم جنس له، فعلينا من التقسيم الأول أن الشبه هو الوصف المقارن للحكم المناسب له بالتبع، وهذا هو المعبر عنه بقياس الدلالة، وقد فسروه بأنه الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم، ولكن يستلزم المناسب، وعلمنا من التقسيم الثاني أنه الوصف الذي ليس مناسبا وعلم اعتبار جنسه القريب في جنس الحكم القريب، ولم يرجح الإمام ولا أتباعه شيئا من هذا الخلاف وكذلك ابن الحاجب أيضا، واعلم
أن التعبير عما ليس بمناسب ولا مستلزم للمناسب بالطرد ذكره جماعة، والتعبير المشهور فيه هو الطردي بزيادة الياء، وأما الطرد فمن جملة الطرق الدالة على العلية كما سيأتي في القسم الثاني. قوله: "واعتبر الشافعي
…
إلخ" هو فرع آخر سماه الشافعي: قياس الأشياء، وأدخله المصنف في مسألة قياس الشبه؛ لأن فيه مناسبة له، وحاصله أنه إذا تردد فرع بين أصلين قد أشبه أحدهما في الحكم والآخر في الصورة، قال الشافعي رحمه الله: يعتبر المشابهة في الحكم؛ ولهذا ألحق العبد المقتول بسائر المملوكات في لزوم قيمته على القاتل، وإن زادت على الدية، والجامع أن كلا منهما يباع ويشترى، واعتبر ابن علية المشابهة في الصورة حتى لا يزاد على الدية، ونقله إمام الحرمين في البرهان عن أبي حنيفة وأحمد؛ ولهذا أوجب أحمد التشهد الأول كالثاني، ولم يوجب أبو حنيفة الثاني كالأول. وقال الإمام فخر الدين: متى حصلت المشابهة فيما يظن أنه علة للحكم أو مستلزم لما هو علة له، صح القياس مطلقا سواء كان في الصورة أو الحكم، وقال القاضي أبو بكر: لا اعتبار بعلية ما ذكر هنا مطلقا، ومقتضى كلام المصنف أن القاضي خالف في الشبه وفي قياس الأشياء، وقد أخذ الشارحون ظاهره فصرحوا به، وليس كذلك؛ فقد صرح الغزالي في المستصفى بأن قياس الأشياء ليس فيه خلاف؛ لأنه متردد بين قياسين مناسبين، ولكن وقع التردد في تعيين أحدهما، ذكر ذلك في الطرف الثالث قبيل باب أركان القياس، وذكر في البرهان قريبا منه أيضا وكلام المحصول لا يرد عليه شيء، فإنه نقل خلاف القاضي في الشبه خاصة، ولكن الذي أوقع المصنف في الوهم أن الإمام بعد فراغه من تفسير المشبه قال: واعلم أن الشافعي رحمه الله يسمي هذا قياس غلبة الأشياء، وهو أن يكون الفرع واقعا بين أصلين إلى آخر ما قال، فتوهم المصنف أنه أشار بقوله هذا إلى ما تقدم من تفسير قياس الشبه وليس كذلك، بل إشارة إلى وقوع الفرع بين أصلين. قوله: "لنا" أي: الدليل على أن قياس الشبه معتبر وذلك أن الشبه يفيد ظن كون الوصف علة، أما على التفسير الأول من تفسيري المصنف فلأنه مستلزم للعلة، وأما على التفسير الثاني فلأنه لما ثبت أن الحكم لا بد له من علة، ورأينا تأثير جنس الوصف في جنس الحكم دون غيره من الأوصاف، كأن ظن إسناد الحكم إليه أقوى من ظن إسناده إلى غيره، وإذا ثبت إفادته للظن وجب العمل به لما تقدم غير مرة، واحتج القاضي بأن الشبه ليس بمناسب، وما ليس بمناسب فهو مردود، فإن كان مستلزما له فليس مردودا بالاتفاق بل هو حجة عندنا وهو أول المسألة. قال: "السادس: الدوران، وهو أن يحدث الحكم بحدوث وصف، وينعدم بعدمه، وهو يفيد ظنا، وقيل: قطعا، وقيل: لا قطعا، وقيل: ولا ظنا. لنا أن الحادث له علة، وغير المدار ليس بعلة؛ لأنه إن وجد قبله فليس بعلة التخلف، وإلا فالأصل عدمه، وأيضا علية بعض المدارات مع التخلف في شيء من الصور، لا تجتمع مع عدم علية بعضها؛ لأن ماهية الدوران إما أن تدل على علية المدار
فيلزم علية هذه المدارات، أو لا تدل فيلزم عدم علية تلك؛ للتخلف السالم عن المعارض. والأول ثابت فانتفى الثاني وعورض بمثله، وأجيب بأن المدلول قد لا يثبت لمعارض، قيل: الطرد لا يؤثر والعكس لم يعتبر، قلنا: يكون للمجموع ما ليس لأجزائه". أقول: الطريق السادس من الطرق الدالة على العلية: الدوران، وسماه الآمدي وابن الحاجب الطرد والعكس. وهو كما قال المصنف عبارة عن حدوث الحكم بحدوث الوصف وانعدامه بعدمه، وذلك الوصف يسمى مدارا، والحكم يسمى دائرا، ثم إن الدوران قد يكون في محل واحد كالسكر مع عصير العنب فإنه قبل أن يحدث فيه وصف الإسكار كان مباحا، وعند حدوثه حدثت الحرمة. وقد يكون في محلين كالطعم في تحريم الربا، فإنه لما وجد الطعم في التفاح كان ربويا، ولما لم يوجد في الحرير لم يكن ربويا، وأراد المصنف بحدوث الأحكام حدوث تعلقاتها، وأما ذواتها فهي قديمة، كما تقدم تعبيره بقوله: بحدوث، وبقوله: بعدمه، يقتضي أنه لا بد أن يكون الوصف علة للحدوث والعدم، فإن الياء دالة على التعليل. وقد صرح الغزالي في المستصفى وفي شفاء العليل بذلك، فقال: والمؤثر من الدوران هو أن يكون الثبوت بالثبوت والعدم بالعدم، وأما الدوران بمعنى الثبوت مع الثبوت، والعدم مع العدم فليس بعلة، واعترض عليه الإمام فخر الدين في الرسالة النهائية بأن قال: الثبوت بالثبوت هو كونه علة له، فكيف يستدل به على علية الوصف لثبوت الحكم؟ وهذا الاعتراض بعينه وارد على عبارة المصنف، لا جرم أن الإمام في المحصول عبر بالثبوت عند الثبوت وبالانتفاء عند الانتفاء، لكنه ينتقض بالمتضايقين كالنبوة والأبوة، فإن الحد صادق على ذلك مع أنه ليس من الدوران؛ لأن الدوران يفيد العلية كما سيأتي، وأحد المتضايقين ليس علة للآخر؛ لأن العلة متقدمة على المعلول، والمضافان معا، واختلفوا في أن الدوران هل يفيد العلية أم لا؟ فقال الإمام والمصنف: إنه يفيد التعليل ظنا، وقال بعض المعتزلة: يفيد العلية قطعا، وقال بعضهم: لا يفيدنا أصلا ولا قطعا ولا ظنا، واختاره الآمدي وابن الحاجب، وكلام المحصول في الأفعال الاختيارية قبل البعثة يقتضيه. قوله: "لنا" أي: الدليل على ما قلنا من وجهين أحدهما: أن الحكم لم يكن ثم كان فيكون حدثا، وكل حادث لا بد له من علة بالضرورة، فعلته إما الوصف المدار أو غيره، لا جائز أن يكون غير المدار وهو العلة؛ لأن ذلك الغير إن كان موجودا قبل صدور ذلك الحكم فليس بعلة له، وإلا لزم تخلف الحكم عن العلة وهو خلاف الأصل، وإن لم يكن موجودا فالأصل بقاؤه على العدم، وإذا حصل ظن أن غير المدار ليس بعلة حصل ظن أن المدار هو العلة وهو المدعى. والثاني ولم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل: أن عليه بعض المدارات للحكم الدائر مع تخلف ذلك الدائر عن ذلك المدار في شيء من صورة لا تجتمع مع عدم علية بعض المدارات للدائر؛ لأن ماهية الدوران من حيث هي، إما أن تدل على
علية المدار للدائر أولا، فإن دلت فيلزم علية هذه المدارات التي هي فرضنا عدم عليتها؛ لأنه حيث وجه الدوران وجد عليه المدار للدائر، فلا تجتمع علية المدارات مع عدم علية بعضها، وإن لم تدل ماهية الدوران على علية المدار للدائر، فيلزم عدم علية تلك المدارات أي: التي فرضنا عليتها، وتخلف عنها الدائرة في شيء من صورها لوجود المقتضي لعدم العلية، وهو تخلف الدائر عن المدار مع سلامته عن المعارض، وهو دلالة ماهية الدوران على العلية، فإن دلالة ماهية الدوران على العلية تقتضي علية الدوران والتخلف يقتضي عدم عليته، فبينهما تعارض، فثبت أن علية بعض المدارات مع التخلف لا تجتمع مع عدم علية بعضها، والأول وهو علية بعض المدارات مع التخلف ثابت بالاتفاق؛ لأن شرب السقمونيا علة الإسهال مع تخلف الإسهال في بعض الأمكنة بالنسبة إلى بعض الأشخاص. وإذا ثبت الأول انتفى الثاني وهو عدم علية بعض المدارات للدائر، ويلزم من انتفائه علية جميع المدارات وهو المدعى، وإنما قيد علية بعض المدارات بالتخلف المذكور ليستدل به على عدم علية تلك على تقدير عدم دلالة ماهية الدوران على العلة. وقوله:"وعورض" أي: عارض الخصم هذا الدليل بمثله، وتقدير المعارضة أن يعاد الدليل السابق بعينه فيقال: علية بعض المدارات مع التخلف
…
إلخ، إلا أنا نبدل قولهم: والأول ثابت فينتفي الثاني بقولنا، والثاني ثابت كالمتضايفين فينتفي الأول هذا هو الصواب في تقريره فاعتمده. وأجاب المصنف أن جواب المعارضة هو الترجيح وهو حاصل معنا؛ وذلك لأنه يلزم مما قلناه، وهو كون جميع المدارات علة للدائر مع التخلف في بعض الصور، أن يوجد الدليل بدون المدلول وهو أمر معقول، فإنه يجوز أن يتخلف المدلول المانع، ويلزم مما قالوه وهو كون المدارات ليست بعلة مع علية بعضها، أن يوجد المدلول بدون الدليل وهو غير معقول. قوله:"قيل: الطرد" أي: احتج من قال: إن الدوران لا يفيد العلية مطلقا بأن الدوران مركب من الطرد، وهو ترتب وجود الشيء على جوده غيره، والعكس وهو ترتب عدم الشيء على عدم غيره، والطرد لا يؤثر في إفادة العلية؛ لأن الطرد معناه سلامته مع الانتقاض، وسلامة المعنى من مبطل واحد من مبطلات العلية، لا توجب انتفاء كل مبطل، والعكس غير معتبر في العلل الشرعية على الصحيح؛ لأن عدم العلة مع وجود المعلول لعلة أخرى لا يقدح في علية العلة المعدومة لجواز أن يكون للمعلول علتان على التعاقب، كالبول والمس بالنسبة إلى الحدث. وأجاب المصنف بأنه لا يلزم من عدم دلالة كل واحد منهما على الانفراد عدم دلالة مجموعهما، فإنه يجوز أن يكون للهيئة الاجتماعية تأثير لا يكون لكل واحد من الأجزاء، كأجزاء العلة، فإن كلا منها منفردا غير مؤثر، ومجموعهما مؤثر. قال: "السابع: التقسيم الحاضر كقولنا: ولاية الإجبار، إما أن لا تعلل بالبكارة، أو الصغر، أو غيرهما والكل باطل سوى الثاني، فالأول والرابع للإجماع، والثالث لقوله عليه الصلاة
والسلام: "الثيب أحق بنفسها" 1 ، والسبر غير الحاصر مثل أن تقول: علة حرمة الربا إما الطعم أو الكيل أو القوت، فإن قيل: لا علة لها أو العلة غيرها، قلنا: قد بينا أن الغالب على الأحكام تعليلها، والأصل عدم غيرها". أقول: الطريق السابع من الطرق الدالة على العلية: التقسيم الحاصر، والتقسيم الذي ليس بحاصر، ويعبر عنهما بالسبر والتقسيم، ومعناه: أن الباحث على العلة يقسم الصفات التي يتوهم عليتها، بأن يقول: علة هذا الحكم إما هذه الصفة وإما هذه، يسبر كل واحدة منهما، أي يختبره ويلغي بعضها بطريقة، فيتعين الباقي للعلية، فالسبر هو أن يختبر الوصف هل يصلح للعلية أم لا؟ والتقسيم، وقولنا: العلة إما كذا وإما كذا، فكان الأولى أن يقدم التقسيم في اللفظ فيقال: التقسيم والسبر لكونه متقدما في الخارج، فالتقسيم الحاصر هو الذي يكون دائرا بين النفي والإثبات كقول الشافعي مثلا: ولاية الإجبار على النكاح إما أن لا تعلل بعلة أصلا أو تعلل، وعلى التقدير الثاني فإما أن تكون معللة بالبكارة أو الصغر أو بغيرهما، والأقسام الأربعة باطلة سوى القسم الثاني، وهو التعليل بالبكارة، فأما الأول وهو أن تكون معللة، والرابع وهو أن تكون معللة بغير البكارة والصغر فباطلان بالإجماع، وأما الثالث فلأنها لو كانت معللة بالصغر لثبتت الولاية على الثيب الصغيرة لوجود العلة وهو باطل، لقوله عليه الصلاة والسلام:"الثيب أحق بنفسها"، وهذا القسم يفيد القطع إن كان الحصر في الأقسام وإبطال غير المطلوب قطعيا، وذلك قليل في الشرعيات، وإن لم يكن كذلك فإنه يفيد الظن. وأما التقسيم الذي ليس بحاصر فهو الذي لا يكون دائرا بين النفي والإثبات، ويسمى بالتقسيم المنتشر وعبر عنه المصنف بالسبر غير الحاصر، وعبر عن الأول بالتقسيم الحاصر تنبيها على جواز إطلاق كل واحد من السبر، والتقسيم على كل واحد من القسمين، وهذا القسم لا يفيد إلا الظن، فلا يكون حجة في العقليات بل الشرعيات فقط، كقولنا: علة حرمة الربا إما الطعم أو الكيل أو القوت، والثاني والثالث باطلان بالنقض أو بغيره، فتعين الطعم وهو المطلوب، قال في المحصول2: وهذا إذا لم يتعرض الإجماع على تعليل حكمه وعلى حصر العلة في الأقسام، فإن تعرض لذلك كان قطعيا. قوله:"فإن قيل" أي: أورد على الاستدلال بالسبر غير الحاصر، فقيل: لا نسلم أن تحريم الربا معلن، فإن من الأحكام ما لا علة له بدليل أن علية العلة غير معللة، وإلا لزم التسلسل، سلمنا فلم لا يجوز أن تكون العلة غير هذه الثلاث فإنكم لم تقيموا دليلا على الحصر فيها، وأجاب المصنف عن الأول بأنا بينا في باب المناسبة أن الغالب على الأحكام الشرعية تعليلها بالصالح، فيكون ظن التعليل أغلب من ظن عدم التعليل، وعن الثاني بأن الأصل عدمه علة أخرى غير الأمور المذكورة، وذلك كافٍ في حصول الظن بعلية
1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح "67" والنسائي في سننه، كتاب النكاح "باب 32".
2 انظر المحصول، ص353، جـ2.
أحدهما. قال: "الثامن: الطرد، وهو أن يثبت معه الحكم فيما عدا المسارع فيه، فيثبت فيه إلحاقا للمفرد المتنازع بالأعم الأغلب، وقيل: تكفي مقارنته في صورة، وهو ضعيف". أول الطريق الثامن من الطرق الدالة على العلية الطرد، والطرد مصدر بمعنى الاطراد، وهو أن يثبت الحكم مع الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا ولا مستلزما للمناسب في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع، وقد اختلفوا فيه فمن لا يقول بحجة الدوران كالآمدي وابن الحاجب لا يقول بهذا بطريق الأولى، ومن يقول بحجته اختلفوا هنا، فذهب الغزالي في شفاء العليل، والإمام فخر الدين في الرسالة النهائية إلى أنه حجة، ومال إليه في المحصول، وصرح به صاحب الحاصل، وقطع به المصنف، وذهب جماعة منهم الغزالي في المستصفى إلى أنه ليس بحجة، واستدل الأولون بأن الحكم إذا كان ثابتا مع الوصف في الصور المغايرة لمحل النزاع، ثم وجد ذلك الوصف بعينه في محل النزاع، لزم أن يثبت الحكم فيه إلحاقا للمفرد بالأعم الأغلب، فإن كان استقراء الشرع يدل على أن النادر في كل باب ملحق بالغالب، وذهب بعضهم إلى أنه يكفي في التعليل بالوصف مقارنته للحكم في صورة واحدة؛ لأنا إذا سلمنا أن الحكم لا بد له من علة، وعلمنا حصول هذا الوصف ولم نعلم غيره ظننا أنه علة، إذ الأصل عدم ما سواه، قال المصنف: وهو ضعيف؛ لأن الظن لا يحصل إلا بالتكرار. قال: "التاسع: تنقيح المناط، بأن يبين إلغاء الفارق، وقد يقال: العلة، إما المشترك أو المميز، ولا يكفي أن يقال: محل الحكم، إما المشترك أو مميز الأصل؛ لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحكم". أقول: الطريق التاسع، وهو آخر الطرق الدالة على العلية: تنقيح المناط، أي: تلخيص ما أناط الشارع الحكم به أي: ربطه به وعقله عليه، وهو العلة، والمناط اسم مكان من الإناطة، والإناطة للتعليق والإلصاق، قال حبيب الطائي:
بلاد بها نِيطت عليَّ تماتمي
…
وأول أرض مس جلدي ترابها1
أي: علقت على الحروز بها، فلما ربط الحكم بالعلم وعلق عليها سميت مناطا، وتنقيح مناطي العلة هو أن يبين المستدل إلغاء الفارق بين الأصل والفرع، وحينئذ فيلزم اشتراكهما في الحكم، مثاله أن يقول الشافعي للحنفي: لا فارق بين القتل بالمثقل والمحدد، لا كونه محددا، وكونه محددا لا مدخل له في العلية؛ لكون المقصود من القصاص هو حفظ النفوس، فيكون القتل هو العلة وقد وجد في المثقل، فيجب فيه القصاص. وهذا النوع عند الحنفية يسمونه بالاستدلال، وليس عندهم من باب القياس كما تقدم بسطه. قوله:"قد يقال" أي: قد يقرر بعبارة أخرى، فيقال: علة الحكم إما المشترك بين الأصل والفرع، وهو القتل العمد في مثالنا، أو المميز للأصل عن الفرع،
1 حبيب بن أوس الطائي: أبو تمام، الشاعر الأديب، أحد أمراء البيان، ولد في جاسم "من قرى حوران بسورية" ورحل إلى مصر، واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على الشعراء في وقته، توفي سنة "231هـ""الأعلام 2/ 165".
أي: الذي اختص به الأصل، وهو كونه قتلا بالمحدد. والثاني باطل لكذا، فثبت الأول، ويلزم من ذلك ثبوت الحكم في الفرع، قال في المحصول: وهذا طريق جيد، إلا أنه هو بعينه طريقة السبر والتقسيم من غير تفاوت. قوله:"ولا يكفي" أي: لا يكفي أن يقال في تقريره: إن هذا الحكم لا بد له من محل، وهو إما المشترك بين الأصل والفرع أو المميز، والثاني باطل لكذا، فتعين الأول، وإنما قلنا: لا يكفي؛ لأنه لا يلزم منه ثبوت الحكم في الفرع؛ لأنه لا يلزم من ثبوت المحل ثبوت الحال، والفرق بين تنقيح وتخريج المناط، وتحقيق المناط، على ما نقله الإمام الغزالي، أن تنقيح المناط هو إلغاء الفارق كما بيناه، وأما تخريج المناط فهو استخراج علة معينة للحكم ببعض الطرق المتقدمة كالمناسبة، وذلك كاستخراج الطعم أو القوت أو الكيل بالنسبة إلى تحريم الربا، وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، أي إقامة الدليل على وجودها فيه، كما إذا اتفقا على أن العلة في الربا هي القوت، ثم يختلفان في أن التين هل هو مقتات حتى يجري فيه الربا أم لا؟ قال:"تنبيه: قيل: لا دليل على عدم عليته فهو علة، قلنا: لا دليل على عليته فليس بعلة، قيل: لو كان علة لتأتى القياس المأمور به، قلنا: هو دور". أقول: نبه المصنف بهذا على فساد طريقين، ظن بعض الأصوليين أنهما مفيدان للعلية، أحدهما: أن يقال: هذا الوصف علة لأنه لا دليل على عدم عليته، وإذا انتفى الدليل على عدم عليته انتفى عدم عليته لأنه يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول، وإذا انتفى عدم عليته ثبتت عليته لامتناع ارتفاع النقيضين. والجواب أنا نعارضه بمثله فنقول: هذا الوصف ليس بعلة؛ لأنه لا دليل على عليته، وإذا انتفى الدليل عليها لزم انتفاؤها، وإذا انتفت ثبت عدم عليته بعين ما قالوه. الطريق الثاني: أن يقال: إن الوصف على تقدير عليته يتأتى معه العمل بالقياس، وعلى تقدير عدم عليته لا يتأتى معه ذلك والقياس مأمور به، ولا شك أن العمل بما يستلزم المأمور به أولى من غيره، وأجاب المصنف بأن هذا الطريق يلزم منه الدور؛ لأن تأتي القياس متوقف على كون الصفة علة، فلو أثبتنا كونه علة يتأتى القياس لزم الدور، وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا مختصر كلامه. واعلم أن تقرير الطريق الثاني على الوجه الذي ذكره المصنف فاسد، فإن قوله: لو كان علة لتأتى القياس المأمور به، إنما يكون محصلا للمدعي، وهو كونه علة لو كان القياس الاستثنائي منتجا لعين المقدم عند الاستثناء عين التالي، كقولنا لكنه يتأتى معه القياس المأمور به فيكون علة، وليس كذلك، فإن المنتج في القياس الاستثنائي أمران، أحدهما: استثناء عين المقدم لإنتاج عين التالي، والثاني: استثناء نقيض التالي لإنتاج نقيض المقدم، أما استثناء عين التالي أو نقيض المقدم فإنهما لا ينتجان، والطريق في إصلاح هذا أن يجعل قياسا اقترانيا، فيقال: علية الوصف توجب تأتي القياس، وكل ما يوجب تأتي القياس فهو أولى، فينتج أن علية الوصف أولى، قال: " الطرف الثاني: فيما يبطل العلة وهو ستة، الأول:
النقض وهو إبداء أو صنف بدون الحكم، مثل أن نقول لمن لم يبيت: تعرى أول صومه عن النية، فلا يصح، فينتقض بالتطوع، قيل: يقدح، وقيل: لا مطلقا، وقيل: في المنصوصة، وقيل: حيث مانع، وهو المختار، وقياسا على التخصيص، والجامع جمع الدليلين، ولأن الظن باقٍ بخلاف ما إذا لم يكن مانع، قيل: العلة ما يستلزم الحكم، وقيل: انتفاء المانع لم يستلزمه، قلنا: بل إما يغلب على ظنه وإن لم يخطر المانع وجودا أو عدما، والوارد استثناء لا يقدح كمسألة العرايا؛ لأن الإجماع أدل على النقض". لما فرغ المصنف من الطرق الدالة على كون الوصف علة، شرع في الطرق الدالة على كونه ليس بعلة وهي ستة: النقض، وعدم التأثير، والكسر، والقلب بالموجب، والفرق الأول النقض، وهو إبداء الوصف المدعى عليته بدون وجود الحكم في صورة يعبر عنه بتخصيص الوصف، كقول الشافعي في حق من لم يبيت النية: تعرى أول صومه عنها، فلا يصح فيجعل عراء أول الصوم عن النية علة لبطلانه، فيقول الحنفي: هذا ينتقض بصوم التطوع، فإنه يصح بدون التبييت فقد وجدت العلة وهو العراء بدون الحكم وهو عدم الصحة، إذا علمت هذا فنقول: النقض إن كان واردا على سبيل الاستثناء كالعرايا فسيأتي أنه لا يقدح، وإن لم يكن كذلك ففيه أربعة أقوال، أحدها: يقدح مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان تخلف الحكم عن الوصف لمانع أم لا، واختاره الإمام فخر الدين، وقال الآمدي: إنه الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعي في العلة المستنبطة، قال: وقيل: إنه منقول عن الشافعي نفسه، وتوجيه كون النقض قادحا في العلة المنصوصة ما قاله الغزالي، وهو أنا نتبين بعد وروده أن ما ذكر لم يكن تمام العلة بل جزءا منها، كقولنا: خارج، فينقض الطهر أخذا من قوله عليه الصلاة والسلام: "الوضوء بما خرج" 1 ثم إنه لم يتوضأ من الحجامة، فنعلم أن العلة هو الخروج من المخرج المعتاد لا مطلق الخروج، والثاني: لا يقدح مطلقا، والثالث: لا يقدح في العلة المنصوصة سواء حصل مانع أم لا، ويقدح في العلة المستنبطة مطلقا، والرابع، اختاره المصنف: لا يقدح حيث وجد مانع مطلقا، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، فإن لم يكن مانع قدح مطلقا، وإلى المذهبين الأخيرين أشار بقوله: وقيل في المنصوصة وقيل: حيث مانع، وتقديره وقيل: لا يقدح في المنصوصة، وقيل: لا يقدح حيث مانع، وإنما لم يصرح بالنفي لكونه معطوفا على منفي، واختار ابن الحاجب أنه إن كانت مستنبطة فلا يجوز تخصيصها إلا لمانع، أو انتفاء شرط، وإن كانت منصوصة فإنها تختص بالنص المنافي لحكمها، وحينئذ فيقدر المانع في صورة التخلف، وذكر الآمدي نحوه أيضا. قوله: "قياسا" أي: الدليل على ما قلناه من وجهين أحدهما: قياس النقض على التخصيص، فكما أن التخصيص
1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: "الوضوء مما خرج""1/ 243" والبيهقي في سننه "1/ 116" والعجلوني في كشف الخفاء "2/ 465".
لا يقدح في كون العام حجة، فكذا النقض لا يقدح في كون الوصف علة، والجامع بينهما هو الجمع بين الدليلين المتعارضين، فإن مقتضى العلة ثبوت الحكم في جميع مجالها، ومقتضى المانع عدم ثبوته في بعض تلك الصور، فيجمع بينهما بأن ترتيب الحكم على العلية فيما عدا صورة وجود المانع، كما أن مقتضى العام ثبوت حكمه في جميع أفراده، ومقتضى المخصوص عدم ثبوته في بعضها، وقد جمعنا بينهما فالنقض للمانع المعارض العلة كالتخصيص للمخصص والمعارض للعام. الدليل الثاني: أن ظن العلة باقٍ إذا كان التخلف المانع؛ لأن التخلف والحالة هذه يسنده العقل إلى المانع لا العدم المقتضي، بخلاف التخلف لا المانع، فإن العقل يسنده إلى العدم المقتضي؛ لأن انتفاء الحكم إما لانتفاء العلة أو لوجود المانع. والثاني: منتف فتعين الأول، وحينئذ فيزول ظن العلية، وإذا بقي الظن بعلية الوصف مع النقض لمانع لم يكن قادحا بخلاف ما إذا انتفى لأن المراد بالعلية هو الظن بها. قوله:"قيل: العلة" أي: احتج القائلون بأن النقض يقدح مطلقا بأن العلة هو ما يستلزم الحكم، والوصف مع وجود المانع لا يستلزمه فلا يكون علة، وحينئذ فيكون النقض مع المانع قادحا، وإذا قدح مع المانع قدح مع عدمه بطريق الأول، وعبر المصنف عن حالة وجود المانع بقوله: وقيل: انتفاء المانع، وهي عبارة ركيكة، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن العلة هو ما يستلزم الحكم، بل العلة عندنا هو ما يغلب على الظن وجود الحكم بمجرد النظر إليه، وإن لم يخطر بالبال وجود المانع أو عدمه. قوله: "والوارد
…
إلخ" يعني: أن ما تقدم جميعا فمحله فيما إذا لم يكن النقض الوارد بطريق الاستثناء، فإن كان مستثنى أي: ناقضا لجميع العلل، واردا على خلاف القياس، لازما لجميع المذاهب فإنه لا يقدح، كما جزم به المصنف، وقال في الحاصل: إنه الأصح ونقله في المحصول عن قوم، ولم يصرح بمخالفتهم ولا موافقتهم، ومثال ذلك العرايا وهو بيع الرطب على رءوس النخل بالتمر فإنها ناقضة لعلة تحريم الربا قطعا؛ لأن الإجماع منعقد على أن العلة في تحريمه، إما الطعم أو الكيل أو القوت أو المال، وكل منها موجود في العرايا، ثم استدل المصنف على كونه لا يقدح بأن النقض وإن دل على الوصف المنقوض بعلة، لكن الإجماع منعقد على كونه علة، ودلالة الإجماع على العلية أقوى من دلالة النقض على عدم العلية؛ لكون الإجماع قطعيا، فلذلك لم يقدح له الإمام أيضا بضرب الدية على العاقبة فإنه ناقض لعلة عدم المؤاخذة وهو عدم الجناية وفيه نظر، فإن هذا من باب العكس، وهو إبداء الحكم بدون العلة لأن الجناية علة لوجوب الضمان؛ فلذلك اختار المصنف التمثيل بالعراة وادعى إمام الحرمين في البرهان أن الصورة المستثناة لا تكون معقولة المعنى، وخالفه، واختلف الأصوليون في أنه هل يجب على المستدل أن يتحرز في دليله على النقض في المستثنى؟ على مذهبين حكاهما في المحصول من غير ترجيح، وحكى ابن الحاجب في الاحتراز عن النقض
مطلقا مذاهب، ثالثها: أنه يجب في الصورة المستثناة دون غيرها، واختار أنه لا يجب مطلقا. قال:"وجوابه منع العلة لعدم قيد، وليس الدليل على وجوده؛ لأنه نقل، ولو قال: ما دللت به على وجوده هنا دل عليه ثمة، فهو نقل إلى نقض الدليل، أو دعوى الحكم مثل أن يقول: السلم: عقد معاوضة فلا يشترط فيه التأجيل كالبيع، فينتقض بالإجارة، قلنا: هناك لاستقرار المعقود عليه، لا لصحة العقد ولو تقديرا، كقولنا: رق الأم علة رق الولد، ويثبت في ولد المغرور تقديرا، وإلا لم تجب قيمته أو إظهار المانع".
أقول: لما تقدم أن النقض عبارة عن إبداء الوصف بدون الحكم، وأنه إنما يقدح إذا تخلف لغير مانع لزم أو يكون جوابه بأحد أمور ثلاثة، وهو إما منع وجود العلة في صورة النقض أو دعوى وجود الحكم فيها أو إظهار المانع؛ فلذلك أردفه المصنف به وأهمله رابعا، وهو بيان كونه واردا على سبيل الاستثناء. الأول من الأمور الثلاثة: منع وجود العلة في صورة النقض لعدم قيد من القيود المعتبرة في علية الوصف، مثاله ما قاله المصنف في أول هذه المسألة وهو أن يقول الشافعي فيمن لم يبيت النية في رمضان: يعرى أول صومه عنها، فلا يصح فينقضه الحنفي بالتطوع فيجيبه الشافعي: أن العلة في البطلان هو عراء أول الصوم بقيد كونه واجبا لا مطلق الصوم، وهذا القيد مفقود في التطوع فلم توجد العلة فيه، ثم إذا منع المعلل وجود العلة في صورة النقض لعدم القيد كما فرضنا، فهل للمعترض أن يقيم الدليل على وجود الوصف بتمامه في صورة النقض؟ فيه مذاهب حكاها ابن الحاجب من غير ترجيح أحدها، وبه جزم الإمام والمصنف أنه ليس له ذلك لأنه نقل من مرتبة المنع إلى مرتبة الاستدلال وعلله الإمام بأنه نقل من مسألة إلى مسألة، يعني أن الانتقال إلى وجود العلة في صورة النقض انتقال من مسألة إلى أخرى في غير التي كانا فيها وكلام المصنف يحتمل الأمرين، والثاني: له ذلك مطلقا: لأن النقض مركب من مقدمتين، إحداهما إثبات العلة، والثانية تخلف الحكم وإثبات مقدمة من مقدمات المطلوب ليس نقلا من بحث إلى آخر، والثالث وهو رأي الآمدي: أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في دفع كلام المستدل وجب قبوله، وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود. قوله: "ولو قال
…
إلخ" يعني: إذا منع المعلل وجود العلة في محل النقض ولم يمكن المعترض من إقامة الدليل على وجودها كما بينا، وكان المعلل قد استدل على وجود العلة في محل التعليل بدليل موجود في محل النقض كما ستعرفه، فتمسك به المعترض فقال: ما ذكرت من الدليل على وجود العلة في محل التعليل فهو بعينه يدل على وجودها في محل النقض، فجزم الآمدي بأنه لا يكون مسموعا أيضا قال: لكونه انتقالا من نقض العلة إلى نقض دليلها، وذكر ابن الحاجب مثله أيضا ثم قال: وفيه نظر وظاهر كلام المحصول أو صريحه يدل على أنه مقبول، وكلام المصنف محتمل الأمرين وهو إلى عدم القبول أقرب، ومثال ذلك أن يقول الحنفي: من نوى صوم رمضان قبل الزوال فصومه صحيح، قياسا على من نوى
ليلا والجامع هو الإتيان بمسمى الصوم في الصورتين؛ لأن الصوم عبارة عن الإمساك مع النية؛ فيقول الشافعي: فهو منقوض بما إذا نوى بعد الزوال، فإن العلة وهي الإتيان بمسمى الصوم موجودة هناك مع عدم الصحة، فيقول الحنفي: لا نسلم أن العلة موجودة هناك، فيقول الشافعي له: ما ذكرته من الدليل على وجود العلة في صورة الخلاف، دل بعينه على وجودها في صورة النقض، ثم قال الآمدي وابن الحاجب وغيرهما: إن طريق المعترض والحالة هذه أن يقول ابتداء: يلزمك إما انتقاض دليلك أو انتقاض علتك؛ لأن العلة إن كانت موجودة في صورة النقض فقد انتقضت، وإن لم تكن موجودة فقد انتقض الدليل. قوله:"أو دعوى الحكم" هذا هو الطريق الثاني في دفع النقض، وهو أن يدعي المعلل ثبوت الحكم في تلك الصورة التي نقض بها المعترض ثبوته، وقد يكون تحقيقيا وقد يكون تقديريا، فالتحقيق مثل أن يقول الشافعي: السلم عقد معاوضة، فلا يشترط فيه التأجيل قياسا على البيع فينقضه الحنفي بالإجارة، فإنها عقد معاوضة مع أن التأجيل يشترط فيها، فيقول الشافعي: ليس الأجل شرطا لصحة عقد الإجارة أيضا، بل التأجيل الذي هو فيها إنما هو الاستقرار المعقود عليه وهو الانتفاع بالعين، إذ لا يتصور استقرار المنفعة المعدومة في الحال، ولا يلزم من كون الشيء شرطا في الاستقرار، أن يكون في الصحة ومثال التقدير أن يقول المستدل: رق الأم علة لرق الولد، فينقضه المعترض بولد المغرور بحرية الجارية، فإن رق الأم موجود مع انتفاء رق الولد، فيقول المعلل: رق الولد موجود تقديرا؛ لأنا لو لم نقدر رقه لم نوجب قيمته؛ لأن القيمة للرقيق لا للحر. الأول وهو التحقيق يدفع النقض إن كان ثبوت الحكم فيه مذهبا للمعلل سواء كان مذهبا للمعترض أم لا، كما قاله في المحصول1 وفي تمكن المعترض من الاستدلال على عدمه الأقول التي تقدمت في العلة كما قاله ابن الحاجب وغيره، وأما الثاني وهو التقديري فتوقف فيه الإمام ومختصرو كلامه وجزم المصنف بأنه يدفع ولم يتعرض له الآمدي ولا ابن الحاجب. قوله:"أو إظهار المانع" هذا هو الطريق الثالث في دفع النقض، ومثاله أن يقول الشافعي: القتل العمد العدوان علة في وجوب القصاص، وحينئذ فيجب في المثقل فينقضه الحنفي بقتل الوالد ولده، فيقول الشافعي: إنما لم أوجبه على الولد لوجود المانع، وهو كون الوالد سببا لوجود الولد، فلا يكون الولد سببا لعدمه. قال:"تنبيه: دعوى ثبوت الحكم أو نفيه عن صورة معينة، أو مبهمة ينتقض بالإثبات، أو النفي العامين بالعكس". أقول: لما تقدم الكلام في حد النقض ومحل قدحه وطريق دفعه، شرع في بيان ما يكون نقضا مما لا يكون؛ فنقول: دعوى الحكم قد تكون في بعض الصور، وقد تكون في كلها، فإن كانت في البعض ففيه أربعة أقسام؛ لأنه إن ادعى ثبوت الحكم فقد يكون في صورة معينة أو مبهمة، وإن ادعى نفيه فقد يكون في صورة معينة
1 انظر المحصول، ص372، جـ2.
أو مبهمة، فدعوى ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة ينتقض بالنفي العام، أي: بنفي ذلك الحكم عن كل صورة؛ لأن الموجبة الجزئية تناقضها السالبة الكلية، لا بالنفي عن بعض الصور؛ لأنه لا مناقضة بين القضيتين الجزئيتين، ودعوى نفي الحكم عن صورة معينة أو مبهمة تنتقض بالإثبات العام أي: بإثباته في كل صورة لأن السالبة الجزئية تناقضها الموجبة الكلية، لا بإثباته في بعض الصور لما قلناه من عدم التناقض بين الجزئيتين. نعم دعوى الثبوت في صورة معينة تنتقض بالنفي عن تلك الصورة وكذلك بالعكس، ولم يصرح به المصنف. وإلى هذه الأقسام أشار بقوله: دعوى ثبوت الحكم إلى العامين، وتقرير كلامه دعوى ثبوت الحكم في صورة معينة أو مبهمة تنتقض بالنفي العام، ودعوى نفي الحكم عن صورة معينة أو مبهمة تنتقض بالإثبات العام وهو من باب اللفّ والنشر، على جعل الأول للثاني والثاني للأول، وإن كان الأحسن عكسه كما قاله الشلوبين1 ليكون على وفق الترتيب. قوله:"بالعكس" أشار به إلى القسم الآخر وهو أن يكون دعوى الحكم عاما، ويدخل فيه أيضا أربعة أقسام، وتقديره دعوى ثبوت الحكم العام تنتقض بنفيه عن صورة معينة أو مبهمة، ودعوى النفي العام تنتقض بإثباته في صورة معينة أو مبهمة؛ لأن الكلية تناقضها الجزئية، ولا ينتقض الإثبات العام بالنفي العام وعكسه؛ لأنه لا تناقض بين كليتين. قال:"الثاني: عدم التأثير بأن يبقى الحكم بعده، وعدم العكس بأن يثبت الحكم في صورة أخرى بعلة أخرى. فالأول كما لو قيل: "مبيع لم يره" فلا يصح كالطير في الهواء. والثاني: الصبح لا يقصر، لا يقدم أذانه كالمغرب، ومنع التقديم ثابت فيما قصر، والأول يقدح إن منعنا تعليل الواحد بالشخص بعلتين، والثاني: حيث يمتنع تعليل الواحد بالنوع بعلتين، وذلك جائز في المنصوصة كالإيلاء واللعان، والقتل والردة، لا في المستنبطة لأن ظن ثبوت الحكم لأحدهما يصرفه عن الآخر وعن المجموع". أقول: الثاني من الطرق الدالة على كون الوصف ليس بعلة عدم التأثير وعدم العكس، وإنما جمع المصنف بينهما لتفاوت معنييهما، فعدم التأثير هو أن يبقى الحكم بعد زوال الوصف الذي فرض أنه علة، وعدم العكس هو أن يثبت الحكم في صورة بعلة أخرى غير العلة الأولى وسماه الإمام العكس، والصواب عدم العكس كما قاله المصنف؛ لأن العكس هو انتفاء الحكم لانتفاء العلة، فمثال الأول قول الشافعي في الدليل على بطلان بيع الغائب: مبيع غير مرئي، فلا يصح كالطير في الهواء، والجامع بينهما هو عدم الرؤية فيه، فيقول المعترض: هذه الرؤية ليست مؤثرا في عدم الصحة لبقاء هذا الحكم في هذه الصورة بعينها بعد زوال هذا الوصف، فإنه ولو رآه لا يصح بيعه لعدم
1 أبو علي الشلوبين: عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي، الشلوبيني أو الشلوبين، من كبار علماء النحو واللغة، مولده ووفاته بإشبيلية، من كتبه: القوانين، والتوطئة، وشرح المقدمة الجزولية، وغيرها، توفي عام "645هـ". "الأعلام 5/ 62".
القدرة على تسليمه، ومثال الثاني استدلال الحنفية على منع تقديم أذان الصبح بقولهم: صلاة الصبح صلاة لا تقصر، فلا يجوز تقديم أذانها على وقتها قياسا على صلاة المغرب، والجامع بينهما هو عدم جواز القصر. فيقول الشافعي: هذا الوصف غير منعكس؛ لأن هذا الحكم وهو منع التقديم ثابت بعد زوال هذا الوصف في صورة أخرى غير محل النزاع، كالظهر مثلا فإنها تقصر مع امتناع تقديم أذانها، وهذا المنع لعلة أخرى غير عدم القصر بالضرورة لزوال عدم القصر مع بقاء المنع. وقد اختلفوا في عدم التأثير وعدم العكس هل يقدحان أم لا؟ وبنى المصنف الأول على أن الحكم الواحد بالشخص هل يجوز تعليله بعلتين مستقلتين؟ فعند من ذهب إلى امتناعه يكون قادحا؛ لأن عدم الوصف المفروض علة مع بقاء الحكم كما كان من غير أن يكون ثابتا بعلة أخرى، يحصل العلم بأن ذلك الوصف غير علة، وعند من جوزه لا يكون قادحا؛ لجواز أن يكون بقاء الحكم لوصف آخر غير ذلك الوصف المفروض لعلة. وأما الثاني وهو العكس، فبناه على أن الحكم الواحد بالنوع هل يجوز تعليله لعلتين أم لا؟ وبناؤه ظاهر مما تقدر، فإن من يجوز ذلك لا يجعل هذا قادحا لجواز ثبوت حكم في صورة العلة، وثبوت مثله في صورة أخرى لعة أخرى. وقد علمت من هذا الحكم الواحد، إن بقي شخصه بعد زوال العلة فهو عدم التأثير، وإن بقي نوعه فهو عدم العكس، ووجه كون الأول واحدا بالشخص أن امتناع بيع الطير في الهواء قد بقي بعينه بعد الرؤية كما كان قبلها بخلاف منع تقديم الأذان، فإن الباقي منه بعد زوال العلة وهو كون الصلاة لا تقصر إنما هو المنع في الرباعية، والذي كان ثابتا مع العلة إنما هو منع غيرها لكنهما مشتركان في النوعية، وهو منع تقديم الأذان، وبناء عدم التأثير على تعليل الواحد بالشخص يلزم منه أن يكون المراد ببقاء الحكم فيه إنما هو البقاء في تلك الصورة بعينها فافهمه. إذ علمت ذلك فقد اختلفوا في جواز تعليل الحكم لواحد بعلتين على مذاهب، أحدها: يجوز مطلقا واختاره ابن الحاجب. والثاني: لا يجوز مطلقا واختاره الآمدي. والثالث: يجوز في المنصوصة دون المستنبطة، واختاره الإمام كما نص عليه بعد هذه المسألة في الكلام على الفرق، وتابعه المصنف هنا، ثم إن مقتضى كلام المصنف أن الخلاف جارٍ في الواحد بالشخص الواحد بالنوع، وقال الآمدي: محل الخلاف في الواحد بالشخص، وأما الواحد بالنوع فيجوز بلا خلاف، وهذا الخلاف هو المعبر عنه بأن العكس هل هو معتبر في العلل أم لا، لكن الإمام لما حكاه هنا ذكر أن العلل الشرعية لا يشترط فيها العكس. قال: وفي العقلية خلاف بين أصحابنا والمعتزلة، ثم اختار مذهب المعتزلة، وهو أنه لا يشترط. وقد اختصر صاحب التحصيل كلامه على وجهه، وأما صاحب الحاصل فإنه نقل عن الأشاعرة أنهم خالفوا في العقليات والشرعيات، وليس مطابقا لما في المحصول، وإذا جمعت بين ما قاله الإمام هنا وبين قوله: إنه لا يجوز
تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، علمت أن حكمه بجواز العكس في العلل الشرعيات إنما هو في المنصوصة دون المستنبطة، ثم استدل المصنف على أن الحكم الواحد بالشخص يجوز تعليله بعلتين منصوصتين بالوقوع، فإن اللعان والإيلاء علتان مستقلتان في تحريم وطء المرأة وكذلك من ارتد والعياذ بالله وجنى على شخص فقتله، كل منهما علة مستقلة في إراقة دمه. وإذا ثبت ذلك الواحد بالشخص ثبت في الواحد بالنوع بطريق الأولى؛ لأن كل من قال بالأول قال بالثاني بخلاف العكس كما تقدم وهو من محاسن كلام المصنف فاعلمه، واجتنب ما قاله الشارحون فيه. نعم التمثيل بالإيلاء فاسد، فإن الزوجة لا تحرم به أصلا، وليس فيه الحنث على تقدير الوطء، وهذا المثال لم يذكره الإمام هنا، غير أنه ذكر في موضع آخر ما يوافقه، وتبعه فيه المصنف، وكأنه توهم أن الحلف على الشيء يكون محرما له، ولو مثل بالظهار لاستقام، وأما المنع في المستنبطة فاستدل عليه بأن الحكم فيها، وإنما هو مستبد إلى ما ظن المجتهد أنه علة له. وعلى هذا التقدير يمتنع التعليل بعلتين؛ لأن ظن ثبوت الحكم لأجل أحد الوصفين يصرفه عن ثبوته لأجل الوصف الآخر أو لأجل مجموع الوصفين، وحينئذ فلا يحصل الظن بعلية كل منهما. ومثال ذلك إذا أعطى شيئا لفقيه، فإنه يحتمل أن يكون الإعطاء للفقه، وأن يكون للفقر فلا يجوز إسناده إليهما لما قلنا، وهذا الدليل منقوض بالعلل المنصوصة. واختلف القائلون بالجواز إذا اجتمعت، فقيل: كل واحدة علة مستقلة ورجحه ابن الحاجب، وقيل: المجموع علة واحدة، وقيل: العلة واحدة لا بعينها. إذا علمت جميع ما قاله المصنف وهو أن عدم التأثير وعدم العكس إنما يقدحان إذا منعنا تعليل الحكم الواحد بعلتين، وأن الراجح في التعليل بعلتين منه في المستنبطة دون المنصوصة، علمت أن الراجح عنده أنهما يقدحان في المستنبطة دون المنصوصة، وهو خلاف ما في المحصول، فإن حاصل ما فيه أنهما لا يقدحان. قال:"الثالث: الكسر وهو عدم تأثير أحد الجزأين ونقض الآخر، كقولهم: صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها، فيجب أداؤها قبل خصوصية الصلاة، ملغى؛ لأن الحج كذلك فيبقى كونه عبادة، وهو منقوض بصوم الحائض". أقول: الثالث من الطرق الدالة على إبطال العلة: الكسر، وهو أن تكون العلة مركبة، فيبين أن المعترض عدم تأثير أحد جزأيها، ثم ينقض الجزء الآخر كما إذا استدل الشافعي على وجوب فعل الصلاة في حال الخوف بقوله: صلاة الخوف صلاة يجب قضاؤها، فيجب أداؤها قياسا على صلاة الأمن، فالعلة كونها صلاة يجب قضاؤها وهو مركب من قيدين فيقول الحنفي: خصوصية القيد الأول وهو كونه صلاة، ملغى لا أثر له؛ لأن الحج كذلك أي: يجب قضاؤها، فيجب أداؤه، مع أنه ليس بصلاة فبقي كونها عبادة يجب قضاؤها، وهو منقوض بصوم الحائض فإنه عبادة يجب قضاؤها مع أنه لا يجب أداؤها. وهذا الذي قرره المصنف من كون وجوب قضاء الحج علة لوجوب أدئه غير مستقيم؛ فإن
التطوع يجب قضاؤه ولا يجب أداؤه، وقد اختار الآمدي أن الكسر يقدح كما اختاره المصنف، ولكنه عبر عنه بالنقض المكسور، وفسر الكسر بتخلف الحكم عن الحكمة المقصودة منه، ونقل عن الأكثرين أنه لا يقدح واختاره، ومثل له بأن يقول الحنفي في مسألة العاصي بسفره: مسافر فيترخص كالمطيع في سفره، ويبين مناسبة السفر للترخيص بما فيه من المشقة، فيقال: ما ذكرته من الحكمة قد وجدت في الحضر في حق أرباب الصنائع الشاقة مع عدم الترخيص، واختار ابن الحاجب في جميع ذلك ما اختاره الآمدي. قال:"الرابع: القلب، وهو أن يربط، خلاف قول المستدل على علته إلحاقا بأصله، وهو إما نفي مذهبه صريحا كقولهم: المسح ركن من الوضوء فلا يكتفى فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم، كالوجه فيقول: ركن منه، فلا يقدر بالربع كأوجه، أو ضمنا كقولهم: بيع الغائب عقد معاوضة فيصح كالنكاح، فيقول: فلا يثبت فيه خيار الرؤية، ومنه قلب المساواة، كقولهم: المكره مالك مكلف، فيقع طلاقه كالمختار، فيقول: فنسوي بين إقراره وإيقاعه، أو إثبات مذهب المعترض كقولهم: الاعتكاف لبث مخصوص، فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة، فيقول: فلا يشترط الصوم فيه كالوقوف بعرفة. قيل: المتنافيان لا يجتمعان. قلنا: التنافي حصل في الفرع بعرض الإجماع، تنبيه: القلب معارضة، إلا أن علة المعارضة وأصلها يكون مغايرا لعلة المستدل". أقول: الطريق الرابع من الطرق المبطلات العلية: القلب، وهو أن يربط المعترض خلاف قول المستدل على العلة التي استدل بها، إلحاقا بالأصل الذي جعله مقيسا عليه، وعبر في المحصول بقوله: نقيض قول المستدل وهو لا يستقيم، فإن الحكم الذي يثبته القالب يشترط أن يكون مغايرا له لا نقيضا كما سيأتي؛ فلذلك أبدله المصنف بالخلاف، والقلب ثلاثة أقسام الأول: أن يكون لنفي مذهب المستدل صريحا، كقوله الحنفية: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فلا يكفي فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم قياسا على الوجه، فيقول الشافعي: مسح الرأس ركن من أركان الوضوء، فلا يقدر بالربع قياسا على الوجه. فهذا القلب قد نفى مذهب المستدل صريحا، ولم يثبت مذهب المعترض لجواز أن يكون الحق هو الاستيعاب كما قاله مالك. الثاني: أن يكون لنفي مذهب المستدل ضمنا، أي: يدل على بطلان لازم من لوازمه، كقول الحنفية: بيع الغائب عقد معاوضة، فيصح مع عدم رؤية المعقود عليه قياسا للنكاح، فيقول الشافعي: بيع الغائب عقد معاوضة فلا يثبت فيه خيار الرؤية كالنكاح، وقبول خيار الرؤية لازم لصحة بيع الغائب عندهم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم. قوله:"ومنه" أي: ومن القلب الذي ذكره المعترض لنفي مذهب المستدل ضمنا قلب المساواة، وهو أن يكون في الأصل حكمان، أحدهما: منتف عن الفرع بالاتفاق بينهما والآخر مختلف فيه، فإذا أراد المستدل إثبات المختلف فيه بالقياس على الأصل، فيقول المعترض: تجب التسوية بين الحكمين في الفرع بالقياس على الأصل، ويلزم من وجوب التسوية بينهما
في الفرع انتفاء مذهبه، مثاله استدلال الحنفية على وقوع طلاق المكره بقولهم: المكره مالك للطلاق، مكلف فيقع طلاقه بالقياس على المختار، فيقول الشافعي: المكره مالك مكلف فنسوي بين إقراره بالطلاق وإيقاعه إياه، قياسا على المختار، ويلزم من هذا أن لا يقع طلاقه ضمنا؛ لأنه إذا ثبتت المساواة بين إقراره وإيقاعه، مع أن إقراره معتبر بالاتفاق، لزم أن يكون الإيقاع أيضا غير معتبر. الثالث: أن يكون لإثبات مذهب المعترض، كاستدلال الحنفية على اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف، بقولهم: الاعتكاف لبث مخصوص فلا يكون بمجرده قربة كالوقوف بعرفة، فإنما صار قربة بانضمام عبادة أخرى إليه وهو الإحرام، فيقول الشافعي: لبث مخصوص فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة، وقوله: قيل: المتنافيان
…
إلخ، أشار به إلى ما ذكره في المحصول1، وهو أن من الناس من أنكر إمكان القلب، محتجا عليه بأنه لما اشترط فيه اتحاد الأصل المقيس عليه مع الاختلاف في الحكم لزم منه اجتماع الحكمين المتنافيين في أصل واحد وهو محال. وجوابه أن التنافي بين الحكمين إنما حصل في الفرع فقط لأمر عارض، وهو إجماع الخصمين على أن الثابت فيه إنما هو أحد الحكمين فقط، وأما اجتماعها في الأصل فغير مستحيل؛ لأن ذات الحكمين غير متنافيين، ألا ترى أن الأصل في المثال الأول وهو غسل الوجه قد اجتمع فيه الحكمان وهما عدم الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم، وعدم تقديره بالربع، وهذان الحكمان يمتنع اجتماعهما في الفرع، وهو مسح الرأس؛ لأن الإمامين قد اتفقا على أن الثابت فيه هو أحدهما. وكذلك الأصل في المثال الثاني وهو النكاح فإن الحكمين مجتمعان فيه، وهما صحته بدون الرؤية وعدم ثبوت الخيار فيه، ولكن الثابت في الفرع وهو بيع الغائب إنما هو أحدهما، وكذلك الأصل في المثال الثالث وهو الوقوف بعرفة، فإن الحكمين مجتمعان فيه وهما أن الصوم لا يشترط، وأنه بمجرده ليس بقربة. قوله: "تنبيه
…
إلخ" لما بين القلب وأقسامه، شرع في الفرق بينه وبين المعارضة، فقال: القلب في الحقيقة معارضة، فإن المعارضة تسليم دليل الخصم وإقامة دليل آخر على خلاف مقتضاه، وهذا بعينه صادق عن القلب، إلا أن الفرق بينهما أن العلة المذكورة في المعارضة والأصل المذكور فيها يكونان مغايرين للعلة والأصل اللذين ذكرهما المستدل بخلاف القلب، فإن علته وأصله علة المستدل وأصله، قال الإمام: وليس للمستدل الاعتراض على القلب لاستلزامه القدح في علة نفسه أو أصله، بخلاف المعارضة فإن للمستدل أن يعترض عليها بكل ما للمعترض أن يعترض به على دليل المستدل من المنع والمعارضة، وله أن يقلب قلبه، وحينئذ فيسلم أصل القياس. قال: "الخامس: القول بالموجب، وهو تسليم مقتضى قول المستدل مع بقاء
1 المحصول، ص377، جـ2.
الخلاف، مثاله في النفي أن تقول: التفاوت في الوسيلة لا يمنع القصاص، فيقول مسلم: ولكن لا يمنعه عن غيره، ثم لو بينا أن الموجب قائم ولا مانع غيره، لم يكن ما ذكرناه تمام الدليل. وفي الثبوت قولهم: الخيل يسابق عليها فتجب الزكاة بها كالإبل. فنقول: مسلم في زكاة التجارة". أقول: الطريق الخامس من مبطلات العلية: القول بالموجب أي: القول بموجب دليل المستدل، وهو عبارة عن تسليم مقتضى ما جعله المستدل دليلا لحكم مع بقاء الخلاف بينهما فيه، وذلك بأن يتخيل أن ما ذكره من النص أو القياس مستلزم لحكم المسألة المتنازع فيها، من أنه غير مستلزم له، فلا ينقطع النزاع بتسليمه. وهذا الحد أولى من قول المحصول: إنه تسليم ما جعل المستدل موجب العلة مع استيفاء الخلاف؛ لخروج القول بالموجب الذي يقع في غير القياس، وكأنه أراد تعريف ما يقع في القياس خاصة؛ لأن الكلام في مبطلات العلية، والقول بالموجب قسمان أحدهما: أن يقع في النفي، وذلك إذا كان مطلوب المستدل نفي الحكم، واللازم من دليله كون شيء معين غير موجب لذلك، فيتمسك به لتوهمه أنه ما أخذ الخصم، مثاله أن يقول الشافعي في القتل بالمثقل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص، كالتفاوت في التوسل إليه، يعني: أن المحدد والمثقل وسيلتان إلى القتل والتفاوت الذي بينهما لا يمنع الوجوب، كما لا يمنعه التفاوت في المتوسل إليه، وهو التفاوت في المقتولين من الصغر والكبر والخساسة والشرف، فيقول الحنفي: كون التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص مسلم، ونحن نقول بموجب، ولكن لم يجز أن يمنع من وجوبه أمر موجود في المثقل غير التفاوت، وأنه لا يلزم من إبطال هذا المانع إبطال جميع الموانع، ثم إن الشافعي المستدل لو ادعى بعد ذلك أنه يلزم من تسليم ذلك الحكم تسليم محل النزاع، وبينه بأن الموجب للقصاص وهو القتل العمد العدوان، قائم في صورة القتل بالمثقل، وأنه لا مانع فيه غير التفاوت في الوسيلة بالأصل، أو بغيره من الطرق لكان منقطعا أيضا، أي: حتى لا يسمع ذلك منه؛ لأنه ظهر أن المذكور أولا ليس هو دليلا تاما بل جزءا من الدليل. هكذا قاله الإمام وتبعه المصنف وفيه نظر ظاهر، ولم يتعرض ابن الحاجب لذلك. القسم الثاني: أن يقع الإثبات، وذلك إذا كان مطلوب المستدل إثبات الحكم في الفرع، واللازم من دليله ثبوته في صورة ما من الجنس كاستدلال الحنفية على وجوب الزكاة في الخيل، بقولهم: الخيل حيوان يسابق عليه، فتجب الزكاة فيه قياسا على الإبل، فنقول لهم: مقتضى دليلكم وجوب مطلق الزكاة، ونحن نقول بموجبه، فإنا نوجب فيه زكاة التجارة، ومحل النزاع إنما هو في زكاة معين، ولا يلزم من إثبات المطلق إثبات جميع أنواعه. قال: "السادس: الفرق، وهو جعل تعين الأصل علة، أو الفرع مانعا، والأول يؤثر حيث لم يجز التعليل بعلتين، والثاني عند من جعل النقض مع المانع قادحا". أقول: الطريق السادس وهو آخر الطرق المبطلات للعلية: الفرق، وهو
ضربان الأول: أن يجعل المعترض تعين أصل القياس، أي: الخصوصية التي فيه علة لحكمه، كقول الحنفي: الخارج من غير السبيلين ناقض للوضوء، بالقياس على ما خرج منهما، والجامع هو خروج النجاسة، فيقول المعترض: الفرق بينهما أن الخصوصية التي في الأصل وهي خروج النجاسة من السبيلين، هي العلة في انتقاض الوضوء لا مطلق خروجها. الثاني: أن يجعل تعين الفرع أي: خصوصيته، مانعا من ثبوت حكم الأصل فيه، كقول الحنفية: يجب القصاص على المسلم بقتل الذمي قياسا على غير المسلم، والجامع هو القتل العمد العدوان، فيقول المعترض: الفرق بينهما أن تعين الفرع وهو كونه مسلما، مانع من وجوب القصاص عليه لشرفه. قوله:"الأول" يعني أن الفرق بالطريق الأول، وهو جعل تعين الأصل علة، هل يؤثر أي: يفيد غرض المعترض يقدح في العلية أم لا؟ فيه خلاف ينبني على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستقلتين، فإن جوزناه لم يقدح هذا الفرق؛ لأن الحكم في الأصل إذا علل بالمعنى المشترك بينه وبين الفرع، ثم علل بعد ذلك بتعينه لم يكن التعليل الثاني مانعا من التعليل الأول، إذ لا يلزم منه إلا التعليل بعلتين. والغرض من جوازه وإن منعناه قدح هذا الفرق؛ لأن تعين الأصل غير موجود في الفرع، والحكم مضاف إليه أعني: إلى التعين، فلا يكون أيضا مضافا إلى المشترك وإلا لزم التعليل بعلتين، وأما الثاني وهو الفرق بتعين الفرع، فإنه يؤثر عند من جعل النقض مع المانع قادحا في كون الوصف علة؛ لأن الوصف الذي جعله المستدل علة إذا وجد في الفرع، ولم يترتب الحكم على وجوده لمانع وهو تعين الفرع، فقد تحقق النقض مع المانع، والنقض مع المانع قادح، وأما من لا يجعله قادحا يقول: الفرق بتعين الفرع لا يؤثر؛ لأن تخلف الحكم عنه إنما هو المانع، هذا حاصل كلام المصنف، وقد استفدنا منه أن الفرق بتعين الأصل إنما يؤثر عنده في المستنبطة دون المنصوصة؛ لأنه اختار التفصيل كما تقدم، وأن الفرق بتعين الفرع لا يؤثر مطلقا؛ لأنه اختار أن النقض مع المانع غير قادح، واعلم أن بناء تأثير الفرق الأول على التعليل بعلتين صحيح. وأما الثاني فلا، بل يؤثر مطلقا في دفع كلام المستدل، وبيانه أن الشافعي في مثالنا لما فرق بتعين الفرع وهو كونه مسلما فإن قلنا: إن النقض مع المانع قادح في العلية، فقد فسد دليل المستدل لفساد علته، وهي القتل العمد العدوان، فإنها وجدت في حق المسلم مع تخلف الحكم عنها، وحينئذ فيحصل مقصود الشافعي المعترض، وإن قلنا: إنه غير قادح كانت العلة صحيحة، لكن قام بالفرع وهو المسلم مانع يمنع من ترتب مقتضاها عليها؛ لأن الغرض أن ذلك من باب التخلف المانع، ويستحيل وجود الشيء مع مقارنة المانع منه، وحينئذ فيحصل للشافعي أيضا مقصوده، وهو عدم إيجاب القصاص، فثبت أن بناءه عليه فاسد؛ ولذلك لم يتعرض الإمام وأتباعه ولا ابن الحاجب لهذا البناء أصلا، نعم أطلق الإمام أن قبول الفرق مبني على تعليل الحكم
الواحد بعلتين، وإذا حملنا كلامه على الفرق بتعين الأصل لم يرد شيء. قال:"الطرف الثالث في أقسام العلة: علة الحكم، إما محله أو جزؤه، أو خارج عنه، عقلي حقيقي، أو إضافي، أو سلبي، أو شرعي، أو لغوي، متعدية أو قاصرة، وعلى التقديرات إما بسيطة، أو مركبة". أقول: هذا الطرف معقود لبيان أقسام العلة، وبيان ما يصح به التعليل منها، وما لا يصح؛ فنقول: كل حكم ثبت في محل فعله ذلك الحكم على ثلاثة أقسام، وهي إما ذلك المحل كتعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما جوهري الأثمان، وإما جزء ذلك المحل، كتعليل خيار الرؤية في بيع الغائب بكونه عقد معاوضة، وإما خارج عنه، والخارج على ثلاثة أقسام: عقلي وشرعي ولغوي، فزاد في المحصول على هذه الثلاثة العرفي، فأما الأمر العقلي فثلاثة أقسام: حقيقي كتعليل حرمة الخمر بالإسكار، وإضافي كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة، وسلبي كتعليل عدم وقوع طلاق المكره بعدم الرضا، والمراد بالحقيقي ما يمكن تعلقه باعتبار نفسه، والإضافي ما يتعلق باعتبار غيره. وأما الأمر الشرعي فكتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه، وأما الأمر اللغوي فكقولنا في النبيذ: إنه سمي خمرا فيحرم كالمعتصر من العنب، والتعليل بهذا جائز على المشهور، وقيل: لا، وقيل: إن كان مشتقا جاز وإلا فلا، هكذا حكاه القرافي وغيره، والقائل بالصحة هو الذي يجوز القياس في اللغات كما تقدم ذكره هناك، وادعى الإمام هنا أنه لا يصح اتفاقا، وليس كذلك فإنه ممن حكى الخلاف هناك، وأما العرفي الذي زاده الإمام فمثل له بقولنا في بيع الغائب: إنه مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف، ثم أعاده بعد ذلك ومثل له بالشرف والخسة، والكمال والنقصان. قال: ولكن إنما يعلل به بشرط أن يكون مضبوطا متميزا عن غيره، وأن يكون مطردا لا يختلف باختلاف الأوقات، فإنه لو لم يكن كذلك لجاز أن يكون ذلك العرف حاصلا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذ لا يجوز التعليل به، وحاصل هذا التقسيم الذي ذكره المصنف سبعة أقسام: منها خمسة في تقسيم الخارج، وهذا على تقدير أن يكون ما بعد الخارج من الأقسام إنما هو أقسام للخارج فقط، وبه صرح في المحصول، ثم العلة إما متعدية أو قاصرة، فالمتعدية هي التي توجد في غير المحل المنصوص عليه كالسكر، والقاصرة بخلاف ذلك، كتعليل حرمة الربا بجوهري الثمنية، وعلى كل واحد من التقديرات المذكورة، فأما أن تكون العلة بسيطة كالأمثلة المذكورة، أو مركبة، وحينئذ فقد تكون مركبة من الصفة الحقيقية والإضافية، كقولنا: قتل صدر من الأب فلا يجب به القصاص، فالقتل حقيقي والأبوة إضافية، أو من الحقيقية والسلبية كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد الذي ليس بحق. قال:"قيل: لا يعلل بالمحل؛ لأن القابل لا يفعل، قلنا: لا نسلم، ومع هذا فالعلة المعرف". أقول: لما ذكر المصنف أقسام العلة، شرع في بيان ما وقع فيه الخلاف منها، وبيان شبه المخالف مع الجواب عنها، وحاصل ما حكي فيه
الخلاف منها ست مسائل، منها تعليل الحكم بمحله، وقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب، أصحها عند الإمام الآمدي وابن الحاجب: أنه إن كانت العلة متعدية فإنه لا يجوز؛ لأنه يستحيل حصول مورد النص بخصوصه في غيره، وإن كانت قاصرة فيجوز، سواء كانت العلة مستنبطة أو منصوصة، فإنه لا استبعاد في أن يقول الشارع: حرمت الخمر لكونه خمرا، ولا في أن يعرف كون الخمر مناسبا لحرمة استعماله. والثاني: لا يجوز مطلقا ونقله الآمدي عن الأكثرين. والثالث: يجوز مطلقا وهو مقتضى إطلاق المصنف، واحتج المانعون بأن محل الحكم قابل للحكم، فإنه لو لم يقبله لم يصح قيامه به، وكذلك كل معنى مع محله، وحينئذ فلو كان المحل علة لكان فاعلا في الحكم؛ لأن العلة تؤثر في المعلول وتفعل فيه، ويستحيل كون الشيء قابلا للشيء وفاعلا فيه كما تقرر في علم الكلام؛ لأن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان، ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب، وبين الوجوب والإمكان تناف، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: لا نسلم أن القابل لا يفعل، وقولكم في الاستدلال عليه: إن الوجوب والإمكان متنافيان ممنوع، فإنه إنما يعزم ذلك أن لو كان المراد في الإمكان هو الإمكان الخاص وليس كذلك، بل المراد به الإمكان العام، وقد تقدم أيضا ذلك في الكلام على الاشتراك. الثاني: سلمنا أن القابل لا يفعل، لكن لا نسلم أنه لو كان علة له لكان فاعلا، وإنما يكون كذلك أن لو كان المراد من العلة هو المؤثر ونحن لا نقول به، بل العلة عندنا هو المعرف. واعلم أن الأقول المذكورة في التعليل بالمحل جارية أيضا في التعليل بجزئه، ولكن الصحيح هنا عند الآمدي الجواز مطلقا، وبه جزم المصنف في التقسيم السابق، ونقل أعني الآمدي عن الأكثرين المنع مطلقا، وقال ابن الحاجب: إن كانت العلة قاصرة جاز، وإن كانت متعدية فلا. قال:"قيل: لا يعلل بالحكم غير المضبوطة كالمصالح والمفاسد؛ لأنه لا يعلم وجود القدر الحاصل في الأصل في الفرع، قلنا: لو لم يجز لما جاز بالوصف المشتمل عليها، فإذا حصل الظن بأن الحكم لمصلحة وجدت في الفرع يحصل ظن الحكم فيه". أقول: التعليل قد يكون بالضابط المشتمل على الحكمة، كتعليل جواز القصر بالسفر؛ لاشتماله على الحكمة المناسبة له، وهي اختلاط الأنساب، وقد يكون بنفس الحكمة أي: بمجرد المصالح والمفاسد، كتعليل القصر بالمشقة، ووجوب الحد باختلاط الأنساب، فالأول لا خلاف في جوازه، وأما الثاني ففيه ثلاثة مذاهب حكاها الآمدي، أحدها: الجواز مطلقا، ورجحه الإمام والمصنف وكلام ابن الحاجب يقتضي رجحانه أيضا. والثاني: المنع مطلقا، ونقله الآمدي عن الأكثرين، وأشار إليه المصنف بقوله: قيل: لا يعلل بالحكم، وهو بكسر الحاء وفتح الكاف جمع لحكمة. والثالث واختاره الآمدي: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز، وإن لم تكن كذلك فلا، كالمشقة فإنها
خفية غير منضبطة، بدليل أنها قد تحصل للحاضر وتنعدم في حق المسافر. قوله:"لأنه لا يعلم" أي: استدل المانع بأن القدر الحاصل من المصلحة في الأصل، وهو الذي رتب الشارع علة الحكم فيه لا يعلم وجوده في الفرع؛ لكون المصالح والمفاسد من الأمور الباطنة التي لا يمكن الوقوف على مقاديرها، ولا امتياز كل واحدة من مراتبها التي لا نهاية لها من الرتبة الأخرى، وحينئذ فلا يجوز للمستدل إثبات حكم الفرع بها، وأجاب المصنف بأنه لو لم يجز التعليل بها لكونها غير معلومة لما جاز بالوصف المشتمل عليها؛ لأن العلم باشتمال الوصف عليها من غير العلم بها ممتنع، لكنه يصبح التعليل بالوصف المشتمل عليها بالاتفاق، كالسفر مثلا فإنه علة لجواز القصر لاشتماله على المشقة لا لكونه سفرا، وحينئذ فإذا حصل الظن بأن الحكم في الأصل لتلك المصلحة أو المفسدة المقدرة وحصل الظن أيضا بأن قدر تلك المصلحة أو المفسدة حاصل في الفرع، لزم بالضرورة حصول الظن بأن الحكم قد وجد في الفرع، والعمل بالظن واجب. قال:"قيل: العدم لا يعلل به؛ لأن الأعدام لا تتميز وأيضا ليس على المجتهد سبرها، قلنا: لا يسلم، فإن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم، إنما سقط عن المجتهد لعدم تناهيها، قيل: إنما يجوز التعليل بالحكم المقارن، وهو أخذ التقادير الثلاثة، فيكون مرجوحا، قلنا: ويجوز بالمتأخر لأنه معرف". أقول: يجوز تعليل الحكم العدمي بالعلة العدمية، وفي تعليل الحكم الوجودي بها مذهبان، أصحها عند المصنف أنه يجوز واختاره الإمام هنا؛ لأن دوران الحكم قد يحصل مع بعض العدميات والدوران يفيد العلية كما تقدم، وأصحهما عند الآمدي وابن الحاجب أنه لا يجوز، واختاره الإمام في الكلام على الدوران لوجهين، أحدهما: أن الأعدام لا تتميز عن غيرها وما لا يتميز عن غيره لا يجوز أن يكون علة، أما الصغرى فلأن المتميز عن غيره لا بد أن يكون موصوفا بصفة التميز، والموصوف بصفة التميز ثابت، والعدم نفي محض، وأما الكبرى فلأن الشيء الذي يكون علة لا بد أن يتميز عما لا يكون علة، وإلا لم يعرف كونه علة. الثاني: أن المجتهد يجب عليه سبر الأوصاف الصالحة العلية، أي: اختبارها لتميز العلة عن غيرها، فلو كانت الأعدام صالحة للعلية لكان يجب عليه أن يسبرها لكنه لا يجب، وأجاب المصنف عن الأول بأنا لا نسلم أن الأعدام لا تتميز بل تقبل التمييز، بل إذا كانت من الأعدام المضافة، بدليل أن عدم اللازم متميز عن عدم الملزوم، فإنا نحكم بأن عدم اللازم يستلزم عدم الملزوم ولا ينعكس، وأما استدلالهم عليه فجوابه أن الموصوف بالتميز إنما يستدعي الثبوت في الذهن فقط، والعدم له ثبوت فيه، نعم الأعدام المطلقة ليس لها تميز، ونحن نسلم امتناع التعليل بها، والجواب عن الثاني أن سبر الأعدام إنما سقط عن المجتهد لعدم قدرته عليها لا تنتهي، لا لكونها غير صالحة للعلية. قوله: "قيل: إنما يجوز
…
إلخ" اختلفوا في تعليل الحكم الشرعي بالحكم، فجوزه الإمام والمصنف مطلقا؛ لأن الحكم
قد يدور مع حكم آخر، والدوران يفيد العلية، ومنعه قوم مطلقا، واحتجوا بأن الحكم الذي يفرض كونه علة إنما يجوز التعليل به إذا كان مقارنا للحكم الذي هو معلول له؛ لأنه إن كان متقدما عليه فلا يجوز تعليله به، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته، وإن كان متأخرا فلا يجوز أيضا وإلا لزم تقدم المعلول على علته، فثبت أنه يصح التعليل على تقدير واحد، ولا يصح على تقديرين، فيكون التعليل به مرجوحا، وعدم صحة التعليل به راجحا، فإن التقدير الواحد مرجوح بالنسبة إلى التقديرين، ولا شك أن العبرة في الشرع بالراجح لا بالمرجوح، وأجاب المصنف بأنه يجوز التعليل أيضا بالمتأخر؛ لأن المراد من العلة هو المعرف لا المؤثر، والمعرف يجوز أن يكون متأخرا كالعالم مع الصانع سبحانه تعالى، وحينئذ فيصح التعليل به على تقديرين من ثلاثة، ويلزم منه أن يكون راجحا بعين ما قلتم، ولقائل أن يقول: إن كان المراد من التقدم والتأخر إنما هو الزماني فهو مستحيل في الحكم الشرعي، ولكونه قديما، وإن كان المراد به الذاتي فهو ثابت لكل علة ومعلول، فإن العلة متقدمة بذاتها على معلولها، وأيضا فلا نسلم أن المتقدم بالزمان لا يصح للعلية، وإنما يكون كذلك لو كان التخلف لغيره مانعا، قلتم: إنه ليس كذلك، واختار ابن الحاجب أنه يجوز إن كان التعليل به باعثا على تحصيل مصلحة، كما مثلنا من تعليل رهن المشاع بجواز بيعه، ولا يجوز إن كان لدفع مفسدة، كتعليل بطلان البيع بالنجاسة، وللآمدي في هذه المسألة تفصيل يطول ذكره وهو مبني على قواعد مخالفة لاختيار الإمام وغيره. واعلم أن هذا الذي ذكره الإمام والمصنف من جواز تعليل حكم الأصل بعلة متأخرة الوجود عنه خالف فيه الآمدي، وقال: الصحيح أنه لا يجوز، وإن جعلنا العلة بمعنى العرف، لأن تعريف المعرف محال، وتبعه ابن الحاجب عليه. قال:"قالت الحنفية: لا يعلل بالقاصرة لعدم الفائدة. قلنا: معرفة كونه على وجه المصلحة فائدة، ولنا أن التعدية توقفت على العلية، فلو توقفت هي عليها للزم الدور". أقول: العلة القاصرة كتعليل حرمة الربا في النقدين، وإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فيجوز التعليل بها بالاتفاق، كما قاله الآمدي وابن الحاجب وغيرهما، وهو مقتضى كلام الإمام، وإن كانت ثابتة بالاجتهاد والاستنباط فكذلك عند الإمام والآمدي وأتباعهما، ونقله إمام الحرمين ومن بعده عن الشافعي، ونقله الآمدي وابن الحاجب عن الأكثر أيضا، وقالت الحنفية: لا يجوز لعدم فائدته؛ لأن فائدة التعليل إنما هو إثبات الحكم وهو غير حاصل، أما في الأصل فلثبوته بالنص، وأما في غيره فلعدم وجود العلة فيه؛ لأن الغرض أنها قاصرة، وإذا انتفت الفائدة في التعليل بها استحال وروده من الشارع؛ لأن الحكيم لا يفعل العبث، وأجاب الإمام بثلاثة أجوبة، أحدها وعليه اقتصر المصنف: أنا لا نسلم انحصار الفائدة في إثبات الحكم، بل لها فائدة أخرى وهي معرفة كون الحكم على وجه المصلحة، ووفق الحكمة لتكون النفس إلى قبوله أميل. الثاني: أن ما قالوه بعينه
وارد في المنصوصة. الثالث: أن معرفة اقتصار الحكم على محل النص وانتفائه عن غيره من أعظم الفوائد، وهي حاصلة هنا فإنا إذا لم نجوز التعليل بالعلة القاصرة، ووجدنا في الأصل وصفا متعديا يناسب ذلك الحكم، فإنه يجب التعليل به لخلوه عن المعارض، وحينئذ يلزم إثبات الحكم في الفرع بخلاف ما إذا جوزنا التعليل به، ونقل إمام الحرمين في البرهان عن بعضهم أن فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين بكونهما نقدين، هو تحريم التفاضل في الفلوس إذا راجت رواج النقود، قال: وهذا خطأ؛ لأن النقدية في الشرع مختصة بالنوعين، ولأن النص إن تناولها بقي الأمر على ما هو عليه من عدم حصول الفائدة من التعليل، وإن لم يتناولها كانت العلة متعدية وكلامنا في القاصرة. واعلم أن هذا الدليل المنقول عن الحنفية إنما يستقيم إذا قلنا: إن الحكم في مورد النص لا يمكن ثبوته بالعلة، وقد نقله عنهم في المحصول، وعللوه بأن الحكم معلوم والعلة مظنونة، المظنون لا يكون طريقا إلى المعلوم، ثم نقل هو والآمدي وابن الحاجب عن أصحابنا أنهم جوزوا ثبوته بها، وحينئذ فيندفع الدليل من أصله. قوله:"لنا" أي: استدل أصحابنا على الجواز بأن تعدية العلة إلى الفرع متوقفة على كونها علة، فلو توقف كونها علة على تعديتها للزم الدور، وأجاب ابن الحاجب بأن هذا الدور غير محال لكونه دور معية، وأجاب غيره بأن كل واحدة من التعدية والعلية مستلزمة للأخرى، كالنبوة مثلا لا متوقفة عليها، فلا يلزم الدور؛ لأن الدور إنما هو على تقدير التوقف، وأيضا إن كان المراد من التعدية وجود الوصف في صورة أخرى فلا نسلم توقفه على العلية وهو واضح، وإن كان المراد بها كون الوصف علة في صورة أخرى فنسلم توقفها على العلية، لكن لا نسلم توقف العلة على التعدية بهذا المعنى، بل إنما تتوقف على وجود الوصف في صورة أخرى، وحينئذ فلا دور. قال:"قيل: لو علل بالمركب، فإذا انتفى جزء تنتفي العلية، ثم إذا انتفى جزء آخر يلزم التخلف، أو تحصيل الحاصل، وإن قلنا: علية عدمية فلا يلزم ذلك". أقول: ذهب الأكثرون ومنهم الإمام والآمدي وأتباعهما إلى جواز تعليل الحكم بالوصف المركب، كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان؛ لأنه مناسب له ودائر معه، وهما يفيدان العلية كما تقدم، وعلى هذا قال بعضهم: يشترط أن لا تزيد الأجزاء على سبعة، قال الإمام: ولا أعرف لهذا الحصر حجة، واحتج المانع بأنه لو صح التعليل به لكان عدم كل واحد من أجزائه علة تامة لعدم عليته؛ لأن عدم كل واحد منها علة لعدم ذاته، وإذا ارتفعت الذات ارتفعت الصفات بالضرورة، وحينئذ فنقول: إذا انتفى جزء من المركب تنتفي العلية لما قلناه، ثم إذا انتفى جزء آخر منه فإن لم تنتف عليه يلزم تخلف المعلول عن علية التامة، وإن انتفت يلزم تحصيل الحاصل، وكلاهما محال، فالتعليل بالمركب محال، وأجاب المصنف بأن العلية صفة عدمية، فإنها من النسب والإضافات التي هي أمور يعتبرها العقل لا وجود لها في الخارج، وإذا كانت
العلية عدمية كان انتفاؤها وجوديا، فإن أحد النقيضين لا بد أن يكون وجوديا، وإذا كان انتفاؤها وجوديا امتنع أن يكون عدم كل جزء علة له؛ لأن الأمور العدمية لا تكون علة للأمر الوجودي، هذا غاية ما يقرر به جواب المصنف وفيه تكلف وضعف ومخالفة، أما التكلف فواضح، وأما الضعف فلأن هذه الطريقة تنعكس فيقال: العلة من الأمور الوجودية؛ لأن نقيضها عدمي وهو عدم العلية، وأما المخالفة فقد سبق أنه يجوز تعليل الوجودي بالعدم عند المصنف، ولم يجب الإمام به عن هذه الشبهة، وإنما أجاب به عن شبهة أخرى، وذلك أنهم قالوا: كون الشيء علة لغيره صفة لذلك الشيء، فإذا كان الموصوف بالعلية أمرا مركبا، فإن قامت تلك الصفة بتمامها بكل واحد من أجزاء المركب فيلزم أن يكون كل واحد منها علة مستقلة، وإن قام بكل واحد من تلك الأجزاء جزء من تلك الصفة فيلزم انقسام الصفة العقلية، ويكون حينئذ للعلية نصف وثلث وهو محال، هذا هو السؤال الذي أجاب عنه الإمام بكون العلية عدمية، وهو مطلق فترك صاحب الحاصل ذكر هذه الشبهة، ونقل جوابها إلى الشبهة الأولى، وتبعه المصنف، والظاهر أنه إنما حصل عن سهو، وأجاب ابن الحاجب بجوابين أحدهما: لا نسلم أن عدم الجزء علة لعدم العلية، بل وجود كل جزء شرط للعلية فعدمه يكون عدما لشرط العلية. الثاني: أن هذه علامات على عدم العلية واجتماع العلامات على الشيء الواحد جائز، سواء كانت مترتبة، أو في وقت واحد، كالنوم واللمس بالنسبة إلى الحدث. قال:"وهنا مسائل: الأولى: يستدل بوجود العلة عن الحكم لا بعليتها؛ لأنها نسبة تتوقف عليه، الثانية: التعليل بالمانع لا يتوقف على المقتضى؛ لأنه إذا أثر معه فبدونه أولى، قيل: لا يسند العدم المستمر، قلنا: الحادث يعرف الأزلي كالعالم للصانع. الثالثة: لا يشترط الاتفاق على وجود العلة في الأصل، بل يكفي انتهاض الدليل عليه. الرابعة: الشيء يدفع الحكم كالعدة، أو يرفعه كالطلاق، أو يدفع ويرفع كالرضاع. الخامسة: العلة قد يعلل بها ضدان، ولكن بشرطين متضادين". أقول: لما فرغ من شرائط العلة شرع في ذكر مسائل تتعلق بها الأولى: الإشكال في أنه يصح الاستدلال على الحكم بوجود العلة، كما يقال: وجد في صورة القتل بالمثقل علة وجوب القصاص، وهو القتل العمد العدوان فيجب فيها القصاص؛ لأن وجود العلة يستلزم وجود المعلول، ولا يجوز أن يستدل بعلية العلة على وجود الحكم، كما يقال: علية القتل العمد العدوان لوجوب القصاص ثابتة في القتل بالمثقل فيجب فيه القصاص، وإنما قلنا: إنه لا يجوز لأن العلية نسبة بين العلة والحكم، والنسبة متوقفة على المنتسبين، فتكون العلة متوقفة في وجودها على ثبوت الحكم، فلو أثبتنا الحكم بها لزم الدور، وهذا الجواب ضعيف بوجهين ذكرهما صاحب التحصيل، أحدهما: أن النسبة إنما تتوقف على المنتسبين في الذهن لا في الخارج. والثاني: أن المراد بالعلة هو المعرف كما سبق، وحينئذ فلا يلزم الدور. المسألة
الثانية: تعليل عدم الحكم بالمانع هل يتوقف على وجود المقتضى له؟ فيه مذهبان أرجحهما عند الإمام والمصنف وابن الحاجب أنه لا يتوقف؛ لأن المقتضى والمانع بينهما معاندة ومضادة، والشيء لا يتقوى بضده بل يضعف به، فإذا جاز التعليل بالمانع حال ضعفه وهو وجود المقتضى فجوازه عند قوته وهو حال عدم المقتضى أولى، لكن إذا قلنا بهذا فانتفاء الحكم لانتفاء المقتضى أظهر في العقل من انتفائه لحصول المانع، هكذا قاله في المحصول1، وعلى هذا فمدعي الأول أرجح من مدعي الثاني فاعلمه، فإنه كثير الوقوع في المباحث. والمذهب الثاني: أن التعليل بالمانع يتوقف على وجود المقتضى، واختاره الآمدي لأن المعلول إن كان هو العدم المستمر فباطل؛ لأن المانع حادث والعدم المستمر أولى، واستناد الأزلي إلى الحادث ممتنع، وإن كان هو العدم المتجدد فهو المطلوب؛ لأن العدم المتجدد إنما يتصور بعد قيام المقتضى، وأجاب المصنف بأن المعلل هو العدم المستمر ولا استحالة فيه، لأن العلل الشرعية معرفات، والحادث يجوز أن يكون معرفا للأزلي كما أن العالم معرف للصانع، واعلم أن هذه المسألة من تفاريع تخصيص العلة، بأنه يمتنع الجمع بين المقتضى والمانع عند من يمنع التخصيص، ولا يمتنع ذلك عند من يجوزه. المسألة الثالثة: الوصف الذي جعل علة في الأصل المقيس عليه لا يشترط الاتفاق على وجوده فيه على الصحيح، بل يكفي قيام الدليل عليه سواء كان ذلك الدليل قطعيا أو ظنيا لحصول المقصود به، وقياسا على سائر المقدمات، وسيأتي الكلام على وجوده في الفرع. المسألة الرابعة: الوصف المانع قد يكون دافعا للحكم فقط، أي: إذا قارن ابتداء دفعه وإن وجد في الأثناء لم يقدح، وقد يكون رافعا فقط أي بالعكس مما تقدم، وقد يكون دافعا ورافعا، فالأول كالعدة فإنها تمنع ابتداء النكاح لا دوامه، فإن المرأة لو اعتدت عن وطء الشبهة لم ينفسخ نكاحها، وأما الثاني فكالطلاق فإنه يرفع النكاح ولكن لا يدفعه، فإن الطلاق لا يمنع وقوع نكاح جديد، وأما الثالث فكالرضاع وهو واضح. المسألة الخامسة: العلة الواحدة قد يعلل بها معلول واحد وهو ظاهر، وقد يعلل بها معلولان متماثلان أي: في ذاتين، كالقتل الصادر من زيد وعمر، فإنه يوجب القصاص على كل واحد منهما، ولا يتأتى ذلك في الذات الواحدة لاستحالة اجتماع المثلين، وقد يعلل بها معلولان مختلفان بجواز اجتماعهما، كالحيض فإنه علة لتحريم القراءة، ومس المصحف، والصوم، والصلاة، وقد يعلل بها معلولان متضادان لكن بشرطين متضادين كالجسم يكون علة للسكون بشرط البقاء في الحين، وللحركة بشرط الانتقال عنه، وقد اقتصر المصنف على هذا الأخير، وإنما اشترطنا فيه حصول الشرطين المتضادين؛ لأنه إن لم يكن للمعلومين
1 أخرجه الشافعي في مسنده بلفظ: "لا تبيعن طعاما""239".