المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في صيغته - نهاية السول شرح منهاج الوصول

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌ترجمة البيضاوي صاحب منهاج الوصول إلى علم الأصول

- ‌ترجمة الإسنوي: صاحب نهاية السول شرح منهاج الوصول

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌تعريفات:

- ‌الباب الأول في الحكم:

- ‌الفصل الأول: تعريفه

- ‌الفصل الثاني: تقسيماته

- ‌التقسيم الأول:

- ‌التقسيم الثاني:

- ‌التقسيم الثالث:

- ‌التقسيم الرابع:

- ‌التقسيم الخامس:

- ‌التقسيم السادس:

- ‌الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه

- ‌الفصل الأول: في الحكم

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفصل الثاني: في المحكوم عليه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌الفصل الثالث: في المحكوم به

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الكتاب الأول: في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في اللغات

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الفصل الخامس:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسالة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسالة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌الفصل السادس

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفرع الثالث:

- ‌الفرع الرابع:

- ‌الفرع الخامس:

- ‌الفرع السادس:

- ‌الفصل السابع:

- ‌الفصل الثامن:

- ‌الفصل التاسع:

- ‌الباب الثاني: في الأوامر والنواهي

- ‌الفصل الأول: في لفظ الأمر

- ‌الفصل الثاني: في صيغته

- ‌الفصل الثالث: في النواهي

- ‌الباب الثالث: في العموم والخصوص

- ‌الفصل الأول: في العموم

- ‌الفصل الثاني: في الخصوص

- ‌الفصل الثالث: في المخصص

- ‌الباب الرابع: في المجمل والمبين

- ‌الفصل الأول: في المجمل

- ‌الفصل الثاني: في المبين

- ‌الفصل الثالث: في المبين له

- ‌الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الأول: في النسخ

- ‌الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ

- ‌خاتمة في النسخ:

- ‌الكتاب الثاني: في السنة

- ‌الباب الأول: الكلام في أفعاله

- ‌الباب الثاني: في الأخبار

- ‌الفصل الأول: فيما علم صدقه

- ‌الفصل الثاني: فيما علم كذبه

- ‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

- ‌الكتاب الثالث: في الإجماع

- ‌الباب الأول: في بيان كونه حجة

- ‌الباب الثاني: في أنواع الإجماع

- ‌الباب الثالث: في شرائطه

- ‌الكتاب الرابع: في القياس

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في بيان أنه حجة

- ‌الباب الثاني: في أركانه

- ‌الفصل الأول: في العلة

- ‌الفصل الثاني: في الأصل والفرع

- ‌الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها

- ‌الباب الأول: في المقبولة

- ‌الباب الثاني: في المردودة

- ‌الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح:

- ‌الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

- ‌الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة

- ‌الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

- ‌الباب الأول: في الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الاجتهاد

- ‌الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

- ‌الباب الثاني: في الإفتاء

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل الثاني: في صيغته

‌الفصل الثاني: في صيغته

"الفصل الثاني: في صيغته وفيه مسائل؛ الأولى: أن صيغة افعل ترد لستة عشر معنى، الأول: الإيجاب مثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 110] الثاني: الندب {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ومنه التأديب: " كل مما يليك" الثالث: الإرشاد: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] الرابع: الإباحة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] الخامس: التهديد {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ومنه الإنذار {قُلْ تَمَتَّعُوا} [إبراهيم: 30] السادس: الامتنان {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 88] السابع: الإكرام {ادْخُلُوهَا} [الحجر: 46] الثامن: التسخير {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] التاسع: التعجيز {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [يونس: 38] العاشر: الإهانة {ذُقْ} [الدخان: 49] الحادي عشر: التسوية {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] الثاني عشر: الدعاء "اللهم اغفر لي" الثالث عشر: التمني:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

.............................

الرابع عشر: الاحتقار {بَلْ أَلْقُوا} [طه: 66] الخامس عشر: التكوين {كُنْ فَيَكُونُ} [ياسين: 82] السادس عشر: الخبر "فاصنع ما شئت" وعكسه {الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأةُ المرأةَ""1. أقول: لما تقدم أن الأمر هو القول الطالب للفعل، شرع في ذكر صيغته وهي افعل ويقوم مقامها اسم الفعل، والمضارع المقرون باللام والضمير في صيغته إما عائد إلى الأمر أو إلى القول الطالب وهو الأقرب. وهذه الصيغة ترد لستة عشر معنى يمتاز بعضها عن بعض بالقرائن، وقال في المحصول: لخمسة عشر، وجعل السادس عشر مسألة مستقلة، وسيأتي أن إطلاقها على ما عدا الإيجاب من هذه المعاني مجاز، والمجاز لا بد فيه من علاقة وسنذكر ذلك محررا في موضعه فاعتمده فإن بعض شراح المحصول قد تعرض لذلك فغلط في كثير منه غلطا إلا يظهر بالتأمل، الأول: الإيجاب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} [البقرة: 110] والثاني: الندب كقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} "ومنه" أي: ومن الندب "التأديب" كقوله عليه الصلاة والسلام: "كل مما يليك" 2 فإن الأدب مندوب إليه وعبارة المحصول يقرب منه، وإنما نص على أنه منه؛ لأن الإمام قد نقل عن بعضهم أنه جعله قسما آخر، والفرق بينهما هو الفرق ما بين العام والخاص؛ لأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق والمندوب أعم، وقد نص الشافعي رضي الله عنه على أن الأكل مما لا يليه حرام. ذكر ذلك في الربع الأخير من كتاب الأم في باب صفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعد باب من أبواب الصوم، وقيل: باب من أبواب إبطال الاستحسان، فقال ما نصه: فإن أكل مما لا يليه، ومن رأس الطعام، أو عرس على قارعة الطريق، أي: برك ليلا أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما بما نهى النبي صلى الله عليه وسلم.

1 أخرجه الهندي في كنز العمال، حديث رقم "44680" والدارقطني في سننه "3/ 228".

2 أخرجه البخاري في صحيحه "7/ 88"، والهيثمي في مجمع الزوائد "5/ 23"، والهندي في كنز العمال، حديث رقم "41698".

ص: 160

وهذا لفظ الشافعي بحروفه ومن الأم نقلته، ونص في البويطي في الباب المذكور على نحوه أيضا، وكذلك في الرسالة قبيل باب أصل العلم. الثالث: الإرشاد كقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} وقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} والفرق بين الندب والإرشاد على ما قاله في المحصول تبعا للمستصفى أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة، والإشارد لمنافع الدنيا إذ ليس في الإشهاد على البيع ولا في تركه ثواب، والعلاقة التي بين الواجب وبين المندوب والإرشاد هي المشابهة المعنوية لاشتراكها في الطلب. الرابع: الإباحة كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ} هكذا قرره وفيه نظر، فإن الأكل والشرب واجبان لإحياء النفس، والصواب حمل كلام المصنف على إرادة قوله تعالى:{كلوا من الطيبات} ثم إنه يجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر حتى تكون قرينة لحمله على الإباحة كما وقع العلم به هنا والعلاقة هي الإذن، وهي مشابهة معنوية أيضا. الخامس: التهديد كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64]"ومنه" أي: ومن التهديد "الإنذار" كقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وعبارة المحصول ويقرب منه، وإنما نص عليه لأن جماعة جعلوه قسما آخر، والفرق بينهما ما قاله الجوهري في الصحاح، فإنه ذكر في باب الدال أن التهديد هو التخويف، ثم ذكر في باب الراء أن الإنذار هو الإبلاغ ولا يكون إلا في التخويف، هذا كلامه، فقوله تعالى:{قُلْ تَمَتَّعُوا} أمر بإبلاغ هذا الكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر وهو {تَمَتَّعُوا} فيكون أمرا بالإنذار. وقد فرق الشارحون بفروق أخرى لا أصل لها فاجتنبها، والعلاقة التي بينه وبين الإيجاب هي المضادة؛ لأن المهدد عليه إما حرام أو مكروه. السادس: الامتنان كقوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة هي الإذن المجرد والامتنان أن يقترن به ذكر احتياجنا إليه، أو عدم قدرتنا عليه ونحوه، كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه، وفرق بعضهم بأن الإباحة تكون في الشيء الذي سيوجد بخلاف الامتنان والعلاقة هي مشابهة الإيجاب في الإذن؛ لأن الامتنان إنما يكون في مأذون فيه. السابع: الإكرام كقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} فإن قرينة قوله: {بِسَلامٍ آمِنِينَ} يدل عليه والعلاقة هي المشابهة في الإذن أيضا. الثامن: التسخير كقوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} والفرق بينه وبين التكوين الآتي أن التكوين سرعة الوجود عن العدم وليس فيه انتقال من حالة إلى حالة، والتسخير هو الانتقال إلى حالة ممتهنة إذ التسخير لغة هو الذلة والامتهان في العمل، ومنه قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] أي: ذلله لنا لنركبه وقولهم: فلان سخره السلطان، والبارئ تعالى خاطبهم بذلك في معرض التذليل، والعلاقة فيه وفي التكوين هي المشابهة المعنوية، وهي التحتم في وقوع هذين، وفي فعل الواجب. وقد يقال: العلاقة فيهما هو الطلب

ص: 161

والتعبير بالتسخير صرح به القفال في كتاب الإشارة ثم الغزالي في المستصفى ثم الإمام وأتباعه. وادعى بعض الشارحين أن الصواب السخرية وهي الاستهزاء، ومنه قوله تعالى:{لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] هذا عجيب، فإن فيه ذهولا عن المدلول السابق الذي ذكرته وتغليظا لهؤلاء الأئمة، وتكرارا لما يأتي، فإن الاستهزاء لا يخرج عن الإهانة أو الاحتقار وكلاهما سيأتي، والتاسع: التعجيز كقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} والعلاقة بينه وبين الإيجاب هي المضادة؛ لأن التعجيز إنما هي من الممتنعات، والإيجاب في الممكنات. العاشر: الإهانة كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} والعلاقة فيه وفي الاحتقار هو المضادة؛ لأن الإيجاب على العباد تشريف لهم لما فيه من تأهيلهم لخدمته، إذ كل أحد لا يصلح لخدمة الملك ولما فيه من رفع درجاتهم، قال صلى الله عليه وسلم:"وما تقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضته". الحادي عشر: التسوية بين الشيئين كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} وعلاقته هي المضادة أيضا؛ لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة لوجوب الفعل. الثاني عشر: الدعاء كقول القائل: اللهم اغفر لي، والعلاقة فيه وفيما بعده ما عدا الأخير هو الطلب، وقد تقدم لبعضها علاقة أخرى. الثالث عشر: التمني كقول امرئ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح، وما الإصباح منك بأمثل

وإنما جعل المصنف هذا الشاعر متمنيا ولم يجعله مترجيا؛ لأن الترجي يكون في الممكنات، والتمني في المستحيلات، وليل المحب لطوله كأنه مستحيل الانجلاء؛ ولهذا قال الشاعر:

وليل المحب بلا آخر

فلذلك جعله متمنيا. الرابع عشر: الاحتقار كقوله تعالى حكاية عن موسى يخاطب السحرة: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} يعني: أن السحر في مقابلة المعجزة حقير، والفرق بينه وبين الإهانة أن الإهانة إنما تكون بقول أو فعل، أو ترك قول أو ترك فعل، كترك إجابته، والقيام له عند سبق عادته، ولا يكون بمجرد الاعتقاد، فإن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه لا يقال: إنه احتقره ولا يقال: إنه أهانه، والحاصل أن الإهانة هي الإنكار كقوله تعالى:{ذُقْ} والاحتقار عدم المبالاة كقوله: بل ألقوا. الخامس عشر: التكوين كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} . السادس عشر: الخبر كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 1 أي صنعت ما شئت. وقيل: المعنى إذا لم تستح من شيء لكونه جائزا فاصنعه، إذ الحرام يستحيا منه بخلاف الجائز. قوله:"وعكسه" أي: إن الخبر قد يستعمل لإرادة الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي: ليرضعن قال في المحصول: والسبب في جواز هذا المجاز أن الأمر والخبر يدلان على وجود الفعل، وأراد أن بين المعنيين مشابهة في المعنى وهي المدلولية فلهذا يجوز إطلاق اسم أحدهما على الآخر، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تنكح المرأة المرأة"

1 أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه "12/ 136"، والطبراني في المعجم الكبير "17/ 236".

ص: 162

يعني أن الخبر قد يقع موقع النهي أيضا، كما يقع موقع الأمر كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها" فإن المراد منه النهي وصيغته صيغة الخبر لوروده مضموم الحاء، إذ لو كان نهيا لكان مجزوما مكسورا على أصل التقاء الساكنين. وأهمل المصنف عكس هذا القسم تبعا لصاحب الحاصل وقد ذكره الإمام ومثل له، لكن بمثال فيه نظر. قال: ووجه المجاز أن النهي وهذا الخبر النافي يدلان على عدم الفعل. قال: "الثانية: أنه حقيقة في الوجوب مجاز في الباقي، وقال أبو هاشم: إنه للندب وقيل: للإباحة وقيل: مشترك بين الوجوب والندب وقيل: للقدر المشترك بينهما وقيل: لأحدهما ولا نعرفه وهو قول الحجة، وقيل: مشترك بين الثلاثة، وقيل: بين الخمسة". أقول: اتفقوا على أن صيغة افعل ليست حقيقة في جميع المعاني المتقدمة؛ لأن التسوية مثلا ونحوها إنما استفدناها من القرائن لا من الصيغة. قال في المحصول: وإنما وقع الخلاف في الأحكام الخمسة التي هي: الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والتحريم، ووجه دلالة افعل على الكراهة والتحريم أنها تستعمل في التهديد كما تقدم، والتهديد يستدعي ترك الفعل فيكون إما حراما أو مكروها، لكن دعوى الإمام حصر الاختلاف في الخمسة ممنوعة لما سيأتي في آخر المسألة، والخلاف الناشئ من هذه الخمسة كبير. وحكى المصنف منه ثمانية مذاهب تبعا للإمام، الأول: أنه حقيقة في الوجوب فقط، وصححه المصنف وابن الحاجب ونقله في المحصول عن أكثر الفقهاء والمتكلمين. وفي شرح اللمع للشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه الذي أملاه الأشعري على أصحاب أبي إسحاق الإسفرائيني ببغداد. ولكن هل يدل على الوجوب بوضع اللغة أم بالشرع؟ فيه مذهبان محكيان في شرح اللمع المذكور، والأول هو كونه بالوضع نقله في البرهان عن الشافعي. ثم اختار هو أنه بالشرع، وفي المستوعب قول ثالث أنه بالعقل، ولقائل أن يقول: قد جزم الإمام في المحصول والمنتخب في أثناء الاشتراك بأن الماضي مشترك بين الخبر والدعاء نحو: غفر الله لزيد، فلم يجعل الماضي حقيقة في الدعاء ولم يجعل الأمر حقيقة. الثاني: أنه حقيقة في الندب ونقله الغزالي في المستصفى والآمدي في كتابيه قولا للشافعي. ونقله المصنف عن أبي هاشم وليس مخالفا لما نقله عنه صاحب المعتمد كما ظنه بعض الشارحين فافهمه. الثالث: أنه حقيقة في الإباحة؛ لأن الجواز محقق والأصل عدم الطلب. الرابع: أنه مشترك بين الوجوب والندب وجزم به الإمام في المنتخب وكذلك صاحب التحصيل، كلاهما في أثناء الاشتراك. وهذا المذهب نقله الآمدي في منتهى السول عن الشيعة، ونقل في الأحكام عنهم أنه مشترك بينهما وبين الإرشاد. الخامس: أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب، وفي المستوعب للقيرواني والمستصفى للغزالي أن الشافعي نص على أن الأمر متردد بين الوجوب والندب، وهذا محتمل لهذا المذهب ولما قبله. السادس: أنه حقيقة في أحدها أي الوجوب أو الندب، ولكن لا يعرف هل هو حقيقة في الوجوب، مجاز في الندب

ص: 163

أو بالعكس؟ ونقله المصنف عن حجة الإسلام الغزالي تبعا لصاحب الحاصل، وليس كذلك فإن الغزالي نقل في المستصفى عن قوم أنه حقيقة في الوجوب فقط، وعن قوم أنه حقيقة في الندب فقط، وعن قوم أنه مشترك بينهما، قال: كلفظ العين، ثم نقل عن قوم التوقف بين هذه المذاهب الثلاثة، قال: وهو المختار، ونقله في المحصول عنه على الصواب. وقال في المنخول: وظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه. هذا لفظه وهو مخالف لكلامه في المستصفى. السابع: أنه مشترك بين الثلاثة وهي: الوجوب والندب والإباحة، وقيل: إنه مشترك بينهما ولكن بالاشتراك المعنوي، وهو الإذن، حكاه ابن الحاجب. الثامن: أنه مشترك بين الخمسة وهذا محتمل لأمرين أحدهما: أن يكون مراده الخمسة المذكورة في كلامه أولا للقرينة إرادته في المذهب الذي قبله وهو الاشتراك بين الثلاثة؛ لأنه صرح به في بعض النسخ فقال: بين الخمسة الأول، فإن أراده فهو صحيح صرح به المعالمي والغزالي في المستصفى، قال ما نصه: فالوجوب والندب والإرشاد والإباحة والتهديد خمسة وجوه محصلة. ثم قال: فقال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة كلفظ العين والقرء، هذا لفظه وترتيبه وهو ترتيب المصنف بعينه. والثاني: أن يكون مراده الأحكام الخمسة وهي عبارة الحاصل يعني الخمسة المعهودة وهي: الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم، وقد تقدم أن دلالتها على الكراهة والتحريم لكونها تستعمل في التهديد، والتهديد يستدعي ترك الفعل المنقسم إلى الحرام والمكروه، فإن أراد هذه الخمسة فهو صحيح أيضا صرح به الإمام في المحصول وذكره الآمدي في الأحكام بالمعنى ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشيخ أبي الحسن الأشعري فقال: ذهب الشيخ إلى التردد بين هذه الأمور، فقال قائلون: لكونه مشتركا، وقائلون: لكونه موضوعا لواحد منها ولا ندريه، هذا معنى كلامه ونقل ابن برهان في الوجيز عن الأشعري أنه مشترك بين الطلب والتهديد والتعجيز والإباحة والتكوين، وقد استفدنا من كلام المعالمي والغزالي أنه حقيقة في الإرشاد، وحكاه في الأحكام أيضا، واستفدنا من كلام ابن برهان أنه حقيقة في التعجيز والتكوين أيضا. والإمام نفى الخلاف عن ذلك كله كما تقدم، وذهب الأبهري في أحد أقواله على ما حكاه في المستوعب إلى أن أمر الله تعالى للوجوب، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم للندب. وصحح الآمدي التوقف لكن بين الوجوب والندب والإرشاد كما صرح به في الأحكام لاشتمال الثلاثة على طلب الفعل ونفي ما عداها، وقد نقلت عن الشيعة مذاهب أخرى غير ما تقدم وكذلك عن الأشعري لكن اتفق جمهورهم على أن مذهبه التوقف بين أمور، ويعبر عنه أيضا بأن الأمر ليست له صيغة تخصه. وقال في البرهان: والمتكلمون من أصحابنا مجمعون على اتباعه في الوقت ولم يساعد الشافعي على الوجوب إلى الإسناد. قال: "لنا وجوه، الأول: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ثم على ترك المأمور فيكون واجبا.

ص: 164

الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] قيل: ذم على التكذيب قلنا: الظاهر أنه للترك والويل للتكذيب قيل: لعل هناك قرينة أوجبت قلنا: رتب الذم على ترك مجرد افعل. الثالث: أن تارك الأمر مخالف له كما أن الآتي به موافق والمخالف على صدد العذاب لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قبل الموافقة اعتقاد حقيقة الأمر، فالمخالفة اعتقاد فساده. قلنا: ذلك لدليل الأمر لا له. قيل: الفاعل ضمير والذين مفعول، قلنا: الإضمار خلاف الأصل، ومع هذا فلا بد له من مرجع قيل: الذين ينسلون قلنا: هم المخالفون، فيكف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم؟ وإن سلم فيضيع. قوله تعالى:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قيل: فليحذر لا يوجب قلنا: يحسن وهو دليل مقام المقتضى، قيل: عن أمره لا يعم قلنا: عام لجواز الاستثناء. الرابع: أن تارك الأمر عاصٍ لقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] والعاصي يستحق النار لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] قيل: لو كان العصيان ترك الأمر لتكرر في قوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] قلنا: الأول ماض أو حال، والثاني: مستقبل قيل: المراد الكفار لقرينة الخلود قلنا: الخلود المكث الطويل. الخامس: أنه عليه الصلاة والسلام احتج لذم أبي سعيد الخدري على ترك استجابته وهو يصلي بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ". أقول: استدل المصنف على أن صيغة افعل حقيقة في الوجوب بخمسة أوجه، الأول: أن الله سبحانه وتعالى ذم إبليس على مخالفته قوله: {اسْجُدُوا} فقال: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} لأن هذا الاستفهام ليس على حقيقته، فإنه تعالى عالم بالمانع فتعين أن يكون للتوبيخ والذم وإذا ثبت الذم على ترك المأمور ثبت أن الأمر للوجوب، إذ لو لم يكن لكان لإبليس أن يقول: إنك ما ألزمتني ففيم الذم؟ وأيضا لو لم يكن لم يذم عليه؛ لأن غير الواجب لا يذم تاركه. الدليل الثاني: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] أي: صلوا وتقريره كما قبله اعترض الخصم بأمرين أحدهما: لا نسلم أن الذم على ترك المأمور بل على تكذيب الرسل في التبليغ بدليل قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 19] قلنا: الظاهر أن الذم على الترك؛ لأنه مرتب عليه والترتيب مشعر بالعلية، والويل على التكذيب لما قلناه، وأيضا فلتكثير الفائدة في كلام الله تعالى وحينئذ فإن صدور الترك والتكذيب من طائفتين عذبت كل منهما على ما فعلته، وإن صدرا من طائفة واحدة عذبت عليهما معا، فإن الكافر عندنا يعاقب على الفروع كالأصول. الثاني: سلمنا أن الذم على الترك، لكن الصيغة تفيد الوجوب إجماعا عند انضمام قرينة إليها، فلعل الأمر بالركوع قد اقترن به ما يقتضي إيحاءه، وجوابه أن الله تعالى رتب الذم على مجرد افعل فدل على أنه منشأ الذم لا القرينة. الدليل الثالث: تارك الأمر أي: المأمور به مخالف لذلك الأمر؛ لأن الآتي بالمأمور به موافق له، والمخالف ضد الموافق فإذا ثبت

ص: 165

أن الآتي موافق ثبت أن التارك مخالف، والمخالف ضد الموافق فإذا ثبت أن الآتي موافق ثبت أن التارك مخالف، والمخالف للأمر على صدد العذاب لقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أمر الله مخالف أمره بالحذر عن العذاب بقوله: {فَلْيَحْذَرِ} والأمر بالحذر عنه إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزوله وإذا ثبت المقدمتان ثبت أن تارك الأمر على صدد العذاب ولا معنى للوجوب إلا هذا. واعترض الخصم بأربعة أوجه مرتبة بالترتيب الجدلي، أحدها وهو اعتراض عن المقدمة الأولى: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه حتى ينتج ما قلتم، بل الموافقة عبارة عن اعتقاد حقية الأمر أي: كونه حقا صدقا واجبا قبوله، وعلى هذا فالمخالفة عبارة عن اعتقاد بطلانه وكذبه، لا ترك الأمر قلنا: فرق بين الأمر وبين الدليل الدال على أن ذلك الأمر حق وهو المعجزة الدالة على صدق الرسول، فاعتقاد حقية الأمر موافقة الدليل الدال على أن ذلك الأمر حق يجب قبوله له موافقة الأمر، فإن موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه، فإن دل على كون الشيء صدقا لدليل الأمر، فموافقته الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه، فإن دل على كون الشيء صدقا لدليل الأمر فموافقته هي اعتقاد الحقية وإن دل على إيقاع الفعل كالأمر فموافقته هي الإتيان بذلك الفعل. الثاني وهو اعتراض على المقدمة الثانية: لا نسلم أن الآية تدل على أنه تعالى أمر المخالفين بالحذر بل على أنه تعالى أمر بالحذر عن المخالفين فيكون فاعل قوله: {فَلْيَحْذَرِ} ضميرا و {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ} مفعولا به وجوابه وجهين، أحدهما ولم يذكره في المحصول: أن الإضمار على خلاف الأصل. الثاني: أنه لا بد للضمير من اسم ظاهر يرجع إليه وهو مفقود هنا، فإن قيل: يعود على الذين يتسللون قلنا: الذين يتسللون هم المخالفون لأن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد واستماع الخطبة، وكانوا يلوذون بمن يستأذن للخروج فإذا أذن له انسلوا معه، فنزلت هذه الآية وقيل: نزلت في المتسللين عن حفر الخندق، وإذا كنا سلمنا هذا لكن يلزم منه أن يصير التقدير: فليحذر الذين يتسللون منكم لو إذا الذين يخالفون وحينئذ يكون لفظ الحذر قد استوفى فاعله ومفعوله وليس هو مما يتعدى إلى مفعولين، فيصير قوله تعالى:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] ضائعا ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده، فإن قيل: يكون مفعولا لأجله، فإن الحذر لأجل إصابة ذلك قلنا: أجاب بعضهم بأنه لو كان كذلك لوجب الإتيان باللام؛ لأنه غير متحد به في الفاعل؛ لأن الحذر هو فعل المتسللين والإصابة فعل الفتنة أو فعل الله تعالى. وهذا الجواب مردود، فإن القاعدة النحوية أنه لا يجب الإتيان بالجار إذا كان المجرور أنّ أو أن نحو عجبت من أنك قائم وعجبت من أن تقوم، فيجوز حذف من في الموضعين بل الجواب أنه لو كان مفعولا لأجله لكان مجامعا للحذر؛ لأن الفعل يجب أن يجامع علته واجتماعهما مستحيل، ولقائل أن يجيب أيضا عن قولهم أولا أن الفاعل ضمير يعود على

ص: 166

المتسللين بأنه لو كان كذلك لوجب إبرازه فيقال: فليحذر؛ لأنه عائد على جمع. سلمنا لكن تحذير الناس عنهم لما وقعوا فيه أبلغ في الذم من تحذيرهم أنفسهم، ويستلزمه أيضا بخلاف تحذير أنفسهم فإنه لا يستلزم تحذير الغير منهم. الاعتراض الثالث: وهو اعتراض على المقدمة الثالثة أيضا وتقريره أن يقال: سلمنا أن قوله: {فَلْيَحْذَرِ} أمر للمخالفين وأنه لا ضمير في الآية، ولكن لم قلتم: إنه يوجب عليه الحذر؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به وكون الأمر للوجوب هو محل النزاع وقلنا: نحن لا ندعي أنه يدل على وجوب الحذر، ولكن يدل على حسنه وحسن الحذر من العذاب دليل على قيام المقتضي للعذاب؛ لأنه لو لم يوجد المقتضي لكان الحذر عنه سفها وعبثا وذلك محال على الله تعالى. وإذا ثبت وجود المقتضي ثبت أن الأمر للوجوب؛ لأن المقتضى للعذاب هو ترك الواجب دون المندوب. الرابع وهو أيضا اعتراض على المقدمة الثانية: أن قوله عن أمره مفرد، فيفيد أن أمرا واحدا للوجوب ونحن نسلمه، ولا يفيد كون جميع الأوامر كذلك مع أن المدعي هو الثاني. وأجاب في المحصول بثلاثة أوجه أحدها وعليه اقتصر المصنف: أنه عام بدليل جواز الاستثناء، فإنه يصح أن يقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا الأمر الفلاني وسيأتي أن معيار العموم جواز الاستثناء. الثاني: أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية. الثالث: أنه إنما استحق العقاب في بعض الصور لعدم المبالاة وهو موجود في الباقي. الدليل الرابع: تارك الأمر أي: المأمور به عاصٍ لقوله تعالى حكاية عن قول موسى لأخيه هارون عليهما السلام: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] وقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] وكل عاص يستحق النار لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] عبر بمن التي هي للعموم، فدل على ما قلناه؛ فينتج أن تارك الأمر يستحق النار ولا معنى للوجوب إلا ذلك. وقد جعل المصنف كبرى الشكل الأول مهملة فقال: والعاصي يستحق النار مع أن شرطها أن تكون كلية، والصواب أن يقول: وكل عاص كما قررته. اعترض الخصم بوجهين أحدهما: لا نسلم المقدمة الأولى؛ لأنه لو كان العصيان عبارة عن ترك المأمور لكان قوله تعالى: {يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} معناه: لا يتركون أي: يفعلون فيكون قوله بعد ذلك: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} تكرارا، وجوابه أن الأمر المذكور أولا للماضي أو الحال، والأمر المذكور ثانيا للاستقبال فلا تكرار، وتقدير الآية: لا يعصون الله ما أمرهم به في الماضي أو الحال، ويفعلون ما يؤمرون به في الاستقبال هذا هو الصواب في تقريره على ما أراده المصنف فاعتمده، ولك أن تقول: النزاع في أن تارك الأمر عاصٍ أم لا، وأما العكس وهو أن العصيان بترك الأمر فليس النزاع فيه ودعواه باطلة لأن العصيان قد يكون بترك الأمر وقد يكون بترك الفعل الواجب اتباعه، وقد يكون بارتكاب النهي وغير ذلك، فالصواب أن يقول في تقرير الاعتراض: قيل: لو كان تارك

ص: 167

الأمر عاصيا بدلا عن قوله: لو كان العصيان ترك الأمر، وأيضا فينبغي أن يقول في الجواب قلنا: الأول ماض والثاني حال أو مستقبل؛ لأن الثاني مضارع وهو يصلح للحال والاستقبال، والأول لا يصلح لكون ماضيا ولم يتعرض في المحصول لذكر الحال. الاعتراض الثاني: لا نسلم المقدمة الثانية؛ لأن المراد بالعصاة في الآية هم الكفار لا تارك الأمر لقرينة الخلو، فإن غير الكفار لا يخلد في النار كما تقرر في علم الكلام، وجوابه أن الخلود لغة هو المكث الطويل سواء كان دائما أو غير دائم، أي: يكون حقيقة في القدر المشترك حذرا من الاشتراك والمجاز، ويدل على ما قلناه قولهم: خلد الله ملك الأمير. الدليل الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا سعيد الخدري وهو في الصلاة فلم يجبه فقال: "ما منعك أن تجيب وقد سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا} [الأنفال: 24] الآية؟ " 1 وهذا الاستفهام ليس على حقيقته؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه في الصلاة كما نقله ابن برهان وغيره، فتعين أن يكون للتوبيخ والذم حينئذ، فالذم عند ورود الأمر دليل على أنه للوجوب، واعلم أن المصنف ذكر أن أبا سعيد هذا هو الخدري وهو غلط تبع فيه صاحب الحاصل وصاحب الحاصل تبع الإمام في المحصول والإمام تبع الغزالي في المستصفى، والصواب أنه أبو سعيد بن المعلى، كذا وقع في صحيح البخاري في أول كتاب التفسير، وفي سنن أبي داود في الصلاة وفي جامع الأصول في كتاب الفضائل وفي غيرها أيضا، واسمه الحارث بن أوس بن المعلى الأنصاري الخزرجي الرزقي، واسم الخدري: سعد بن مالك بن سنان من بني خدرة، أنصاري خزرجي أيضا، وقد وقع على الصواب في بعض نسخ الكتاب وهو من إصلاح الناس. قال:

"احتج أبو هاشم بأن الفارق بين الأمر والسؤال هو الرتبة والسؤال للندب، فكذلك الأمر. قلنا: السؤال إيجاب وإن لم يتحقق، وبأن الصيغة لما استعملت فيهما، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فتكون حقيقة في القدر المشترك. قلنا: يجب المصير إلى المجاز لما بينا من الدليل، وبأن تعرف مفهومها لا يمكن بالعقل ولا بالفعل؛ لأنه لم يتواتر والآحاد لا تفيد القطع. قلنا: المسألة وسيلة إلى العمل فيكفيها الظن وأيضا يتعرف بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كما سبق". أقول: ذكر المصنف هنا أدلة ثلاثة، واختلف النسخ في التعبير عن المحتج بها، ففي أكثرها احتج أبو هاشم كما ذكره وهو غير مستقيم؛ لأن الثالث لا يطابق مذهبه ولا الثاني على أحد التقريرين الآتيين وفي بعضها احتج المخالف وهو صحيح مطابق لتعبير الإمام، وفي بعضها احتجوا وهو قريب مما قبله وهما من إصلاح الناس. الدليل الأول: وهو احتجاج أبي هاشم على أن افعل حقيقة في الندب، وتقريره أن أهل اللغة قالوا: لا فارق بين السؤال والأمر إلا في الرتبة فقط أي: إن رتبة الأمر أعلى من رتبة السائل، والسؤال إنما يدل على الندب فكذلك الأمر

1 أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب "15"، والنسائي من كتاب الافتتاح، باب "25".

ص: 168

لأن الأمر لو دل على الإيجاب لكان بينهما فرق آخر وهو خلاف ما نقلوه، وجوابه أن السؤال يدل على الإيجاب أيضا؛ لأن أهل اللغة وضعوا افعل لطلب الفعل مع المنع مع الترك عند من يقول: الأمر للإيجاب، وقد استعملها السائل لكنه لا يلزم منه الوجوب، إذ الوجوب لا يثبت إلا بالشرع فلذلك لا يلزم المسئول القبول من السائل، ولقائل أن يقول على تقدير أن يدل السؤال على الإيجاب، فيلزم أن يفترقا من وجه آخر؛ لأن إيجاب الأمر دال على الوجوب بخلاف إيجاب السؤال، وقد يجاب بأن المعنى بالرتبة هو كون إيجاب الأمر يقتضي الوجوب بخلاف السؤال وفيه نظر، فإنهما مدلولان متغايران، ولك أن تمنع ما ذكره من تفريقه بالرتبة، فإنه مذهب المعتزلة كما تقدم، بل الفرق أن السؤال أمر صادر بتذلل، والأمر أعم، وقد يترتب الوجوب على إيجاب السؤال كسؤال العطشان، وقد لا يترتب على إيجاب الأمر كطلب السيد من عبده ما لا يقدر عليه، فتخلص أنها سواء في الإيجاب والوجوب. قوله:"وبأن الصيغة" معطوف على قوله: بأن الفارق، وتقريره من وجهين أحدهما: أن الصيغة قد استعملت في الوجوب كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وفي الندب كقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] فإن كانت موضوعة لكل لزم الاشتراك أو لأحدهما فقط فيلزم المجاز، فتكون حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الفعل دفعا للاشتراك والمجاز. وعلى هذا التقرير يكون دليلا للقائل بأنها حقيقة في القدر المشترك وهو مدلول كلام المصنف، لكن عطفه على دليل أبي هاشم فاسد. التقرير الثاني وهو تقرير الإمام وأتباعه كلهم: أن نضم إلى التقرير الأول زيادة أخرى فنقول: والدال على المعنى المشترك وهو الأعم غير دال على الأخص، فيكون لفظ الأمر غير دال على الوجوب ولا على الندب بل على الطلب، وجواز الترك معلوم بالبراءة الأصلية، فتحصلنا على طلب الفعل مع جواز الترك، ولا معنى للندب إلا ذلك، وعلى هذا فيصح عطفه على دليل أبي هاشم لكنه بعيد من كلام المصنف، وجوابه: أن المجاز وإن كان على خلاف الأصل لكنه يجب المصير إجماعا إذ دل عليه دليل، وههنا كذلك للأدلة الخمسة التي أقمناها على أنه حقيقة في الوجوب فقط. وقوله: "وبأن تعرف

إلخ" هذا دليل الغزالي وموافقيه على التوقف، وقد تقدم أن عطفه على دليل أبي هاشم لا يصح، وتقريره أن الطريق إلى معرفة مدلول افعل إما أن يكون بالعقل وهو محال؛ لأنه لا مجال له في اللغات، وإما بالنقل المتواتر وهو محال أيضا، وإلا لكان بديهيا حاصلا لكل أحد من هذه الطائفة فلا يبقى بينهم نزاع، وإما بالآحاد وهو باطل لأن الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه، كما نقله الأنباري شارح البرهان عن العلماء قاطبة؛ وذلك لفرط الاهتمام بالقواعد، وإذا انتفت طرق المعرفة تعين الوقف، وأجاب المصنف بوجهين أحدهما: لا نسلم أنها علمية؛ لأن المقصود من كون الأمر للوجوب

ص: 169

إنما هو العمل به لا مجرد اعتقاده، والعمليات مظنونة يكتفي فيها بالظن فكذلك ما كان وسيلة إليها، هذا هو الصواب في تقريره وأما قول بعض الشارحين أنه يكتفي فيها بالظن مع كونها علمية لكونها وسيلة للعمل فباطل؛ لأن المعلوم يستحيل إثباته بطريق مظنونة، وقد منع في المحصول أيضا كونها علمية ولم يذكر تعليل المصنف بل قال: لأنا بينا أنه لا تعين في المباحث اللغوية وذلك لتوقفها على نفي الاحتمالات العشرة. ونفيها ما ثبت إلا بالأصل الثاني لا نسلم الحصر؛ لأنا قد نتعرفه بتركيب عقلي من مقدمات نقلية كقولنا: تارك الأمر عاص، وكل عاص يستحق النار فإنه يدل على أن الأمر للوجوب وقد تقدم ذكره في الدليل الرابع من هذه المسألة. وقولنا: إن الجمع المحلى بالألف واللام يدخله الاستثناء وإن الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله، فإنه يدل على أن الجمع المحلى للعموم كما تقدم في آخر الفصل الأول من باب اللغات، وذلك بالطريق الذي قلناه؛ لأن نفس المقدمتين نقلية وتركيبهما تركيب عقلي علم من العلوم العقلية، وعبر الإمام في المحصول والمنتخب عن هذا بقوله: إنه يعرف بدليل مركب من العقل والنقل، فأورد عليه أن هذا الدليل نقل محض لأن المقدمتين نقليتان وحظ العقل إنما هو تفطنه لاندراج الصغرى في الكبرى؛ فلذلك عدل صاحب الحاصل إلى ما تقدم وتبعه عليه المصنف، وقول المصنف كما سبق يحتمل كلا من المثالين المتقدمين، والأول أولى للتصريح به في الحاصل والمحصول، ولكونه دليلا على نفس المسألة المتنازع فيها، ولأنه أقرب. وعن هذا الدليل جواب ثالث لم يذكره المصنف ينفع في مواضع، وهو التزام حصوله بالتواتر، ولا يلزم منه رفع الخلاف لأنه قد يصل إلى بعضهم بكثرة المطالعة لأقضيتهم وتواريخهم، وغيره لم يشتغل بذلك فيقع الخلاف، ولقائل أن يقول: ينبغي للمصنف على طريقة الجدليين تقديم جوابه الثاني على الأول كما فعل في الحاصل والمحصول، فيقول: أولا لا نسلم الحصر، سلمنا لكن نختار تعرفه بالآحاد، وذلك لأن الثاني فيه تسليم للحصر فلا يحسن منه منعه بعد ذلك فإن قيل: دعواه أنه يعلم بتركيب عقلي من مقدمات نقلية لا يدفع السؤال؛ لأن هذه المقدمات النقلية إما أن يكون نقلها بالتواتر أو بالآحاد، ويعود السؤال بعينه وجوابه باختيار التواتر، ولا يلزم منه أن يعرف كل أحد أنه للوجوب، وإنما يلزم ذلك أن لو كان التركيب العقلي ضروريا وهو ممنوع. قال:"الثالثة: الأمر بعد التحريم للوجوب وقيل: للإباحة. لنا أن الأمر يفيده، ووروده بعد الحرمة لا يدفعه. قيل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] للإباحة قلنا: معارض بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا} [التوبة: 5] واختلف القائلون بالإباحة في النهي بعد الوجوب". أقول: إذا فرعنا على أن الأمر للوجوب فورد بعد التحريم ففيه مذهبان، أصحهما عند الإمام وأتباعه، ومنهم المصنف أن يكون أيضا للوجوب ونقله ابن برهان في الوجيز عن القاضي والآمدي عن المعتزلة، والثاني أنه يكون للإباحة وهو الذي نص عليه الشافعي كما نقله

ص: 170

عنه القيرواني في كتاب المستوعب وابن التلمساني في شرح المعالم1 والأصفهاني في شرح المحصول2 ونقله ابن برهان في الوجيز عن أكثر الفقهاء والمتكلمين، ورجحه ابن الحاجب وتوقف إمام الحرمين وصرح أيضا به الآمدي في الأحكام ومع ذلك فله ميل إلى الإباحة، قال عقبه: واحتمال الإباحة أرجح نظرا لغلبته، قال في المحصول: والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد التحريم وذلك بأن استأذن على فعل شيء فقال له: افعله، واستدل المصنف على الوجوب بأن الأمر يفيده إذ التفريع عليه ووروده بعد الحرمة ليس معارضا حتى يدفع ما ثبت له؛ لأن الوجوب والإباحة منافيان للتحريم ومع ذلك لا يمتنع الانتقال من التحريم إلى الإباحة فكذلك الوجوب احتج الخصم بورودها للإباحة كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 42]، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . وفي الحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا" 3 وجوابه أن هذه الأدلة معارضة بقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإن القتال فرض كفاية بعد أن كان حراما، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا أدبرت الحيضة، فاغسلي عنك الدم وصلي" 4 فإذا تعارضا تساقطا وبقي دليلنا سالما عن المنبع فيفيد الوجوب. قوله: "واختلف القائلون" يعني: إن القائلين بالإباحة في الأمر الوارد بعد الحظر اختلفوا في النهي الوارد بعد الوجوب، فمنهم من طرد القياس وحكم بالإباحة؛ لأن تقدم الوجوب قرينة، ومنهم من حكم بأنه للتحريم كما لو ورد ابتداء بخلاف الأمر بعد التحريم، والفرق في وجهين أحدهما: أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك وهو على وفق الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل وحمل الأمر على الوجوب يقتضي الفعل وهو خلاف الأصل. الثاني: أن النهي لدفع المفسدة المتعلقة بالمنهي عنه والأمر لتحصيل المصلحة المتعلقة بالمأمور واعتبار الشرع بدفع المفاسد أكثر من جلب المصالح، وأما القائلون: إن الأمر بعد التحريم للوجوب فلا خلاف عندهم أن النهي بعد الوجوب للتحريم. قال: "الرابعة: الأمر المطلق لا يفيد التكرار ولا يدفعه وقيل: للتكرار، وقيل: للمرة، وقيل: بالتوقف للاشتراك أو الجهل بالحقيقة. لنا تقييده بالمرة والمرات من غير تكرار ولا نقض، وأنه ورد مع التكرار ومع عدمه فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز. وأيضا لو كان للتكرار لعم الأوقات، فيكون تكليفا بما لا يطاق ولنسخه كل تكليف بعده لا يجامعه". أقول: إذا ورد الأمر مقيدا بالمرة أو بالتكرار حمل عليه، وإن ورد مقيدا بصفة

1 شرح المعالم في أصول الفقه للرازي، وهو لشرف الدين أبي محمد عبد الله بن محمد بن علي الفهري، المعروف بابن التلمساني "كشف الظنون: 1727".

2 شرح المحصول في علم الأصول للرازي، وهو لشمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، المتوفى سنة "678هـ"، وهو حافل، ومات ولم يكمله كما ذكره السبكي وأبو العباس القرافي.

3 أخرجه الهندي في كنز العمال "42554"، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 245".

4 أخرجه الدارمي في سننه "1/ 198".

ص: 171

أو شرط فسيأتي أنه يتكرر قياسا لا لفظا، وإن كان مطلقا أي: عاريا من هذه القيود ففيه مذاهب، أحدها: أنه لا يدل على التكرار ولا على المرة بل يفيد طلب الماهية من غير إشعار بتكرار أو مرة إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به، لا جرم أنه يدل عليها من هذا الوجه، وهذا المذهب اختاره الإمام وأتباعه ونقله عن الأقلين، واختاره أيضا الآمدي وابن الحاجب والمصنف وعبر عن المرة بقوله: ولا يدفعه لأنه لو كان للمرة لكان دافعا للتكرار؛ لأنهما متقابلان. الثاني: أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمل وهو رأي الأستاذ وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، لكن بشرط الإمكان كما قاله الآمدي. الثالث: يدل على المرة وهو قول أكثر أصحابنا، كما حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع، ونقل القيرواني في المستوعب عن الشيخ أبي حامد أنه مقتضى قول الشافعي. الرابع: أنه مشترك بين التكرار والمرة فيتوقف أيضا، واختار إمام الحرمين التوقف، ونقل عنه ابن الحاجب المذهب الأول تبعا للآمدي وليس كذلك فافهمه. قوله:"لنا" أي: الدليل على ما قلناه من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه يصح أن يقال: افعل ذلك مرة أو مرات وليس فيه تكرار ولا نقض إذ لو كان للمرة لكان تقييده بالمرة تكرارا وبالمرات نقضا، ولو كان للتكرار لكان تقييده به تكرارا وبالمرة نقضا، وهذا الدليل لا يثبت به المدعى؛ لأن عدم التكرار والنقض قد لا يكون لكونه موضوعا للماهية من حيث هي، بل لكونه مشتركا أو لأحدهما، ولا نعرفه كما قد قيل به، فيكون التقييد للدلالة على أحدهما. الثاني: أن الأمر المطلق ورد تارة مع التكرار شرعا كآية الصلاة، وعرفا نحو: احفظ دابتي، وورد تارة للمرة شرعا كآية الحج، وعرفا كقوله: ادخل الدار، فيكون حقيقة في القدر المشترك بين التكرار والمرة وهو طلب الإتيان بالفعل، مع قطع النظر عن التكرار والمرة؛ لأنه لو كان حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك، وإن كان في أحدهما فقط لزم المجاز وهما خلاف الأصل. وهذا الدليل قد استعمله الإمام وأتباعه في مواضع كثيرة وفيه نظر؛ لأنه إذا كان موضوعا لمطلق الطلب ثم استعمل في طلب خاص فقد استعمل في غير ما وضع له؛ لأن الأعم غير الأخص، ولكنه مشتمل على ما وضع له فيجوز على سبيل المجاز. وأيضا فلأن الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الذهنية كما تقدم، فإذا استعمل فيما تشخص منها في الخارج فيكون مجازا؛ لأنه غير ما وضع له فاستعمال الأمر في المقيد بالتكرار وبالمرة مجاز لما قلناه، ففر من مجاز واحد فوقع في مجازين، وهذا البحث يجري في سائر الألفاظ الموضوعة لمعنى كلي، وإن كان مستبعدا لكن القواعد قد أدت إليه، وقد صرح الآمدي في الأحكام بموافقة ما ذكرته، فقال في أوائل الكتاب في القسمة الثانية جوابا عن سؤال ما نصه: لأنه لا يخفى أن حقيقة المطلق مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك، فإذا كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة فاستعماله في الدابة

ص: 172

المقيدة على الخصوص يكون استعمالا له في غير ما وضع له هذا لفظه. الثالث وهو دليل على إبطال التكرار خاصة: أنه لو كان للتكرار لعم الأوقات كلها؛ لعدم أولوية وقت دون وقت والتعميم باطل بوجهين أحدهما: أنه تكليف بما لا يطاق. الثاني: أنه يلزم بنسخه كل تكليف يأتي بعده لا يمكن أن يجامعه في الوجود؛ لأن الاستغراق الثابت بالأول يزول بالاستغراق الثابت بالثاني، وليس كذلك. واحترز بقوله: لا يجامعه عن نحو الصوم مع الصلاة، ولك أن تقول: قد تقدم أن القائل بالتكرار يقول: إنه بشرط الإمكان فلا يرد ما قاله من التكليف بما لا يطاق. قال: "قيل: تمسك الصديق على التكرار بقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} من غير نكير قلنا: لعله عليه الصلاة والسلام بين تكراره وقيل: النهي يقتضي التكرار، فكذلك الأمر، قلنا: الانتهاء أبدا ممكن دون الامتثال، قيل: لو لم يتكرر لم يرد النسخ، قلنا: وروده قرينة التكرار، قيل: حسن الاستفسار دليل الاشتراك، قلنا: قد يستفسر عن أفراد المتواطئ". أقول: احتج من قال بأن الأمر يفيد التكرار بثلاثة أوجه الأول: أن أهل الردة لما منعوا الزكاة تمسك أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وجوب تكرارها بقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. قال في المحصول: فكان ذلك إجماعا منهم على أنها للتكرار والجواب أنه لعل النبي صلى الله عليه وسلم بين للصحابة أن هذه الآية للتكرار، فإن قيل: الأصل عدمه قلنا: لما أجمعوا على التكرار مع أن الصيغة المجردة لا تقتضي ذلك كما بيناه تعين ما قلناه جمعا بين الأدلة، وهذا الدليل وجوابه يقتضيان أن الإمام يسلم أن ذلك إجماع وهو مناقض لما سيأتي من كونه ليس بإجماع ولا حجة. الثاني: النهي يقتضي التكرار فكذلك الأمر قياسا عليه والجامع أن كلا منهما للطلب، وجوابه أن الانتهاء عن الشيء أبدا ممكن؛ لأن فيه بقاء على العدم وأما الاشتغال به أبدا فغير ممكن، وهذا الكلام من المصنف مناقض لقوله بعد ذلك: إن النهي كالأمر في التكرار والفور. الثالث: لو لم يدل على التكرار بل دل على المرة، لم يجز ورود النسخ؛ لأن وروده إن كان بعد فعلها فهو محال لأنه لا تكليف وإن كان قبله فهو يدل على البداء وهو ظهور المصلحة بعد خفائها أو بالعكس، وهو على الله تعالى محال. ولكن ورود النسخ جائز فدل على أنه للتكرار، وجوابه أن النسخ لا يجوز وروده على الأمر الذي يقتضي مرة واحدة، ولكن إذا ورد على الأمر المطلق صار ذلك قرينة في أنه كان المراد به التكرار، وحمل الأمر على التكرار لقرينة جائز، هكذا ذكره في المحصول فتبعه عليه المصنف. ولك أن تقول: إن صح هذا الجواب فيلزم أن لا يكون جواز الاستثناء دليلا على العموم البتة، لا مكان دعواه في كل استثناء وذلك مبطل؛ لقوله بعد ذلك: ومعيار العموم جواز الاستثناء. وأيضا فهو مناقض لقولهم: إن النسخ قبل الفعل جائز لا سيما أنهم استدلوا عليه بقصة إبراهيم مع أن الذبح يستحيل تكراره. وأيضا فيلزم منه التكليف بما لا يعلمه الشخص. قوله: "قيل: حسن الاستفسار" أي: استدل من قال بأن الأمر مشترك بين التكرار والمرة بأنه

ص: 173

يحسن الاستفسار فيه فيقال: أردت بالأمر واحدة أم دائما؛ ولذلك قال سراقة للنبي صلى الله عليه وسلم: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ مع أنه من أهل اللسان وأقره عليه، فلو كان الأمر موضوعا في لسان العرب للتكرار أو للمرة لاستغنى عن الاستفسار، وجوابه أن ما قاله ممنوع فإنه قد يستفسر عن أفراد المتواطئ كما إذا قال: أعتق رقبة فتقول: أمؤمنة أم كافرة؟ سليمة أم معيبة؟ قال: "الخامسة: الأمر المعلق بشرط أو صفة، مثل {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لا يقتضي التكرار لفظا ويقتضيه قياسا، أما الأول فلأن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه، ولأنه لو قال: "إن دخلت الدار فأنت طالق" لم يتكرر، وأما الثاني فلأن الترتيب يفيد العلية فيتكرر الحكم بتكررها، وإنما لم يتكرر الطلاق لعدم اعتبار تعليله". أقول: الأمر المعلق بشرط كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أو بصفة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] يقتضي تكرار المأمور به عند تكرر شرطه أو صفته، إن قلنا: الأمر المطلق يقتضيه، فإن قلنا: إنه لا يقتضيه ولا يدفعه فهل يقتضيه هنا؟ فيه ثلاثة مذاهب، أحدها: يقتضيه من جهة اللفظ أي: إن هذا اللفظ قد وضع للتكرار. والثاني: لا يقتضيه أي: لا من جهة اللفظ ولا من جهة القياس، وهذا هو القائل بأن ترتيب الحكم على الوصف لا يدل على العلية. والثالث: أنه لا يقتضيه لفظا ويقتضيه من جهة ورود الأمر بالقياس، قال في المحصول: وهذا هو المختار؛ فلذلك جزم به المصنف واختار الآمدي وابن الحاجب أنه لا يدل عليه، قالا: ومحل الخلاف فيما لم يثبت كونه علة كالإحصان، فإن ثبت كالربا فإنه يتكرر بتكرر علته اتفاقا وهذا منافٍ لكلام الإمام حيث مثل بالسرقة والجنابة مع أنه قد ثبت التعليل بهما. قوله:"أما الأول" أي: الدليل على الأول وهو أنه لا يقتضي التكرار لفظا من وجهين، أحدهما: أن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه، فإن اللفظ إنما دل على تعليق شيء على شيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل الصور أو في صورة واحدة بدليل صحة تقسيمه إليهما والأعم لا يدل على الأخص فلزم من ذلك أن التعليق لا يدل على التكرار. الثاني: أنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإن الطلاق لا يتكرر بتكرر الدخول ولو كان يدل عليه من جهة اللفظ لكان يتكرر كما لو قال: كلما، لكن هذا الدليل من باب تعليق الإنشاء على الشرط وكلامنا في تعليق الأمر فينبغي أن يقال: وإذا ثبت في هذا ثبت في ذلك القياس أو يمثل بقوله لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار، نعم إن كان تعليق الخبر والإنشاء كتعليق الأمر في ثبوت الخلاف حصل المقصود، لكن كلام الآمدي في الأحكام يقتضي أن الإنشاء لا يتكرر اتفاقا وصرح به في الخبر كقولنا: إن جاء زيد، جاء عمرو. وأما الدليل على الثاني وهو أنه يقتضي التكرار قياسا فلأن ترتيب الحكم على الصفة أو الشرط يفيد علية الشرط أو الصفة لذلك الحكم، كما سيأتي في القياس فيتكرر الحكم بتكرر ذلك؛ لأن

ص: 174

المعلول يتكرر بتكرر علته. قوله: "وإنما لم يتكرر الطلاق" جواب عن سؤال مقدر وتوجيه السؤال أن يقال: لو كان تعليق الحكم بالشرط دالا على تكراره بالقياس لكان يلزم تكرار الطلاق بتكرار القيام فيما إذا قال: إن قمت فأنت طالق وليس كذلك. وجوابه أن تعبيره بذلك دال على أنه جعل القيام علة للطلاق ولكن المعتبر تعليل الشارع؛ لأن وقوع الطلاق حكم شرعي وآحاد الناس لا عبرة بتعليلهم في أحكام الله تعالى؛ لأن من نصب علة الحكم فإنما يتكرر حكمه بتكرر علته لا حكم غيره؛ فلذلك لم يتكرر الطلاق منه؛ ألا ترى أنه لو صرح بالتعليل فقال: طلقها لقيامها، لم تطلق امرأة أخرى له قامت. قال:"السادسة: الأمر المطلق لا يفيد الفور خلافا للحنفية، ولا التراخي خلافا لقوم، وقيل: مشترك لنا ما تقدم قيل: إنه تعالى ذم إبليس على الترك ولو لم يقتض الفور لما استحق الذم قلنا: لعل هناك قرينة عيّنت الفورية قيل: {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] يوجب الفور، قلنا: فمنه لا من الأمر، قيل: لو جاز التأخير فإما مع بدل فيسقط، أو لا معه فلا يكون واجبا. وأيضا إما أن يكون للتأخير أمد وهو إذا ظن فواته وهو غير شامل؛ لأن كثيرا من الشبان يموتون فجأة، أو لا فلا يكون واجبا، قلنا: منقوض بما إذا صرح به، قيل: النهي يفيد الفور فكذا الأمر، قلنا: لأنه يفيد التكرار". أقول: الأمر المجرد عن القرائن إن قلنا: إنه يدل على التكرار دل على الفور، وإن قلنا: لا يدل على التكرار فهل يدل على الفور أم لا؟ حكى المصنف فيه أربعة مذاهب، أحدها: أنه لا يدل على الفور ولا على التراخي بل يدل على طلب الفعل. قال في البرهان: وهذا ما ينسب إلى الشافعي وأصحابه، وقال في المحصول: إنه الحق، واختاره الآمدي وابن الحاجب والمصنف. والثاني: أنه يفيد الفور أي: وجوبا وهو مذهب الحنفية. والثالث: أنه يفيد التراخي أي: جوازا. قال الشيخ أبو إسحاق: والتعبير بكونه يفيد التراخي غلط، وقال في البرهان: إنه لفظ مدخول، فإن مقتضى إفادته التراخي أنه لو فرض الامتثال على الفور لم يعتد به، وليس هذا معتقد أحد. نعم حكى ابن برهان عن غلاة الواقفية أنا لا نقطع بامتثاله بل يتوقف فيه إلى ظهور الدلائل لاحتمال إرادة التأخير، قال: وذهب المقتصدون منهم إلى القطع بامتثاله، وحكاه في البرهان أيضا. والرابع هو مذهب الواقفية: أنه مشترك بين الفور والتراخي، ومنشأ الخلاف في هذه المسألة كلامهم في الحج. قوله:"لنا ما تقدم" أي: في الكلام على أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وأشار إلى أمرين أحدهما: أنه يصح تقييده بالفور وبالتراخي من غير تكرار ولا نقض. والثاني: أنه ورد الأمر مع الفور ومع عدمه، فيجعل حقيقة في القدر المشترك وهو طلب الإتيان به دفعا للاشتراك والمجاز، وقد تقدم الكلام في هذين الدليلين وما فيهما مبسوطا، وقد تقدم هناك دليل ثالث لا يأتي هنا. قوله:"قيل: إنه تعالى" أي: استدل القائلون بأن الأمر يفيد الفور بأربعة أوجه، أحدها: أنه تعالى ذم إبليس -لعنه الله- على ترك السجود لآدم عليه السلام بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}

ص: 175

[الأعراف: 12] كما تقدم بسطه في الكلام على أن الأمر للوجوب، فلو لم يكن الأمر للفور لما استحق الذم ولكان لإبليس أو يقال: إنك ما أوجبته على الفور ففيم الذم؟ وأجاب المصنف تبعا للإمام بأنه يحتمل أن يكون ذلك الأمر مقرونا بما يدل على أنه للفور، وفي الجواب نظر لأن الأصل عدم القرينة وقد تمسك المصنف بهذه الآية على أن الأمر للوجوب، مع أن ما قاله بعينه يمكن أن يقال له: فما كان جوابا له كان جوابا لهم، بل الجواب أن يقول: ذلك الأمر الوارد وهو قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] وفيه قرينتان دالتان على الفور، إحداهما: الفاء والثانية: أن فعل الأمر "هو قوله تعالى: {فَقَعُوا} " عامل في إذا؛ لأن إذا ظرف، والعامل فيها جوابها على رأي البصريين، فصار التقدير: فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه. الدليل الثاني: أن قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] الآية يوجب كون الأمر للفور؛ لأن الله تعالى أمر بالمسارعة والمسارعة هي التعجيل فيكون التعجيل مأمورا به وقد تقدم أن الأمر للوجوب فتكون المسارعة واجبة، ولا معنى للفور إلا ذلك، ثم إن حمل المغفرة على حقيقتها غير ممكن؛ لأنها فعل الله تعالى فيستحيل مسارعة العبد إليها فحمل على المجاز، وهو فعل المأمورات لكونها سببا للمغفرة، فأطلق اسم المسبب وأريد به السبب. والجواب: أنا لا نسلم أن الفورية مستفادة من الأمر، بل إيجاب الفور مستفاد من قوله تعالى:{وَسَارِعُوا} لا من لفظ الأمر وتقرير هذا الكلام من وجهين أحدهما: أن حصول الفورية ليس من صيغة الأمر بل من جوهر اللفظ؛ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيفما تصرف. الثاني وهو تقرير صاحب الحاصل: أن ثبوت الفور في المأمورات ليس مستفادا من مجرد الأمر بها بل من دليل منفصل وهو قوله تعالى: {وَسَارِعُوا} ، ولك أن تقلب هذا الدليل فتقول: الآية معنى دال على عدم الفور؛ لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقت مع جواز الإتيان به في غيره، وأيضا فالمقتضى أن المضمر لصحة الكلام لا عموم له كما سنعرفه في العموم، فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله ولا يعم كل مأمور. الدليل الثالث: لو لم يكن الأمر للفور لكان التأخير جائزا، لكنه لا يجوز لأمرين، أحدهما: أن جوازه إن كان مشروطا بالإتيان ببدل يقوم مقامه وهو العزم على رأي من شرطه فيلزم سقوطه لأن البدل يقوم مقام المبدل، وإن كان جائزا بدون بدل فيلزم أن لا يكون واجبا؛ لأنه لا معنى لغير الواجب إلا ما جاز تركه بلا بدل. الثاني: أن التأخير إما أن يكون له أمد معين لا يجوز للمكلف إخراجه عنه أم لا، وكل من القسمين باطل. أما الأول فلأن القائلين به اتفقوا على أن ذلك الأمد المعين هو ظن الفوات على تقدير الترك، إما لكبر السن أو للمرض الشديد، وذلك الأمر غير شامل للمكلفين؛ لأن كثيرا من الشبان يموتون فجأة ويقتلون غيلة، فيقتضي ذلك عدم الوجوب عليهم في نفس الأمر؛ لأنه لو كان واجبا لامتنع تركه، والفرض أنا جوزنا له الترك في كل الأزمان المتقدمة على

ص: 176