الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأن أو ههنا ليست للشك بل هي لأقسام المحدود وهو الحكم، كما تقول: الكلمة: اسم أو فعل أو حرف يدل عليه تعبيركم بالترديد ولا بالتردد، فإن قولنا: تردد في الشيء ترددا يستدعي الشك فيه بخلاف ردد بين الشيئين ترديدا، فإنه لا يستلزمه لصحة استعماله في التقسيم، وفي تعبير المصنف نظر لأنه إن عنى بالترديد ما قلناه فهو واقع في أجزاء الحد ضرورة فكيف يقول: لا في الحد، وإن عنى به الشك فهو منتفٍ عن أقسامه قطعا، ولو اقتصر على قوله: والتردد في أقسام المحدود لاستقام، وقد يجاب عن هذا بأن يقال: المراد بالتردد التقسيم كمما قلناه ولا نسلم أنه واقع في الحد وذلك لأن الترديد إنما هو في أحدهما معين وأحدهما معين أخص من أحدهما مطلقا، فيكون غيره وأحدهما مطلقا هو المعتبر في الحد، ولم يقع فيه ترديد فلا ترديد في الحد، إنما الترديد في الاقتضاء والتخيير اللذين هما من أقسام المحدود الذي هو الحكم، وإلى هذا أشار في المحصول فإنه أجاب عن أصل السؤال بقولنا: قلنا: مرادنا أن كل ما وقع على أحد الوجوه كان حكما.
الفصل الثاني: تقسيماته
التقسيم الأول:
قال: "الفصل الثاني في تقسيماته، فالأول: الخطاب إن اقتضى الوجود ومنع النقيض فوجوب، وإن لم يمنع لندب وإن اقتضى الترك بمنع النقيض فحرمة وإلا فكراهة، وإن خير فإباحة" أقول: لما فرغ من تعريف الحكم شرع في تقسيماته وهو ينقسم باعتبارات مختلفة إلى تقسيمات ستة، الأول: باعتبار الفصول التي صيرت أقسامه أنواعا خمسة، فقول في تقسيمه أي: في تقسيم الحكم ثم إنه لما قدم أن الحكم هو خطاب الله تعالى
…
إلخ صح التقسيم في الخطاب وأن كلامه في تقسيم الحكم وقرن الخطاب بالألف واللام لإفادة المعهود السابق وهو خطاب الله تعالى، وحاصله: أن خطاب الله تعالى قد يكون فيه اقتضاء، وقد يكون فيه تخيير كما تقدم، فإن اقتضى شيئا نظر إن اقتضى وجوب الفعل ومنع من نقيضه وهو الترك، فإنه الوجوب وإن اقتضى الوجود ولم يمنع من الترك فهو الندب، وإن اقتضى الفعل ومنع من نقيضه وهو الإتيان به فهو الحرمة، وإن اقتضى الترك لكن لم يمنع من الإتيان به الكراهة، وإن كان الخطاب لا يقتضي شيئا بل خيرنا بين الإتيان والترك فهو الإباحة، وهذا التقسيم يعلم منه الحدود، فالإيجاب مثلا طلب الفعل مع المنع من الترك، وأمثلة الباقي لا تخفى وهو تقسيم محدد لا إيراد عليه لكن تعبير المصنف بالوجوب والحرمة لا يستقيم بل الصواب الإيجاب والتحريم؛ لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى كما تقدم، والخطاب إنما يصدق على الإيجاب والتحريم لا على الوجوب والحرمة؛ لأنهما مصدر وجب وحرم، والإيجاب والتحريم مصدران لأوجب وحرم بتشديد الراء، فمدلول خاطبنا الله تعالى بالصلاة مثلا هو أوجبها علينا وليس مدلوله وجبت، نعم إذا أوجبها فقد وجبت وجوبا قال:"ويرسم الواجب بأنه الذي يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا، ويرادفه الفرض وقالت الحنفية: الفرض ما ثبت بقطعي والواجب بظني".
أقول: المعرفات للماهية خمسة: الحد التام، والحد الناقص، والرسم التام، والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ أشهر منه، فالحد التام هو التعريف بالجنس، والفصل، كقولنا في الإنسان: إنه الحيوان الناطق، والحد الناقص كالتعريف بالفصل وحده كقولنا: الناطق، والرسم التام هو التعريف بالجنس والخاصة كقولنا: الإنسان حيوان ضاحك، أو كاتب فالضحك معنى خاص بالإنسان والتبديل باللفظ الأشهر كقولنا: البر هو القمح، إذا علمت ذلك فالأحكام الخمسة لها حدود ورسوم فالتقسيم السابق، ذكره المصنف لمعرفة حدودها كما تقدمت الإشارة إليه، ثم شرع الآن في التعريف بالخواص فلذلك قال: ويرسم ولكنه لم يرسم نفس الأحكام، بل رسم الأفعال التي تعلقت بها هذه الأحكام، فإن الفعل الذي تعلق به الوجوب هو الواجب، والذي تعلق به الندب هو المندوب، والذي تعلق به التحريم هو الحرام، والذي تعلقت به الكراهة هو المكروه، والذي تعلقت به الإباحة هو المباح، وهذا الرسم نقله في المحصول عن اختيار القاضي أبي بكر، ولم يصرح باختياره، نعم صرح بذلك في المنتخب فقال: إنه الصحيح من الرسوم لكن فيه تغيير ستعرفه، فقوله: الذي يذم أي: الفعل الذي يذم فالفعل جنس للخمسة، وقوله: يذم احترز عن المندوب والمكروه والمباح لأنه لا ذم فيها، قال في المحصول تبعا للغزالي في المستصفى: وهو خير من قولنا: يعاقب تاركه لجواز العفو ومن قولنا: يتوعد بالعقاب على تركه؛ لأن الحلف في خبره محال فيلزم أن لا يوجد العفو ومن قولنا: لا يخالف العقاب على تركه؛ لأن المشكوك في وجوبه غير واجب مع وجوب الخوف والمراد بقولنا: يذم تاركه أن يرد في كتاب الله تعالى، أو في سنة رسوله، أو إجماع الأمة ما يدل على أنه بحالة لو تركه لكان مستنقصا وملوما بحيث ينتهي الاستنقاص واللوم إلى حد يصلح لترتب العقاب، وقوله: شرعا قال في المحصول: هو إشارة إلى أن الذم عندنا لا يثبت إلا بالشرع على خلاف ما قاله المعتزلة، وقوله: تاركه احتراز عن الحرام فإنه يذم شرعا فاعله لا قوله قصدا، فيه تقريران موقوفان على مقدمة وهي أن هذا التعريف إنما هو بالحيثية أي: هو الذي بحيث لو ترك للذم تاركه إذ لو لم يكن قيد الحيثية لاقتضى أن كل واجب لا بد من حصول الذم على تركه وحصول الذم على تركه موقوف على تركه، فيلزم من ذلك أن الترك لا بد منه وهو باطل. إذا عرفت ذلك فأحد التقريرين أنه إنما أتى بالقصد؛ لأنه شرط لصدق هذه الحيثية إذ التارك لا على سبيل القصد لا يذم، والثاني أنه احترز به عما إذا مضى من الوقت مقدار يتمكن فيه من إيقاع الصلاة ثم تركها بنوم أو نسيان أو موت، فإن هذه الصلاة واجبة لأن الصلاة تجب عندنا بأول الوقت وجوبا موسعا بشرط الإمكان كما سيأتي في الواجب للوسع، وقد تمكن ومع ذلك لم يذم شرعا تاركها؛ لأنه ما تركها قصدا فأتى بهذا القيد لإدخال هذا الواجب في الحد ويصير به جامعا، ولا ذكر له في المحصول والمنتخب ولا في التحصيل
والحاصل، وقوله: مطلقا فيه أيضا تقريران موقوفان أيضا على مقدمة، وهي أن الإيجاب باعتبار الفاعل قد يكون على الكفاية كالجنازة، وقد يكون على العين كالصلوات الخمس، وباعتبار المفعول قد يكون مخيرا كخصال الكفارة، وقد يكون محتما كالصلاة أيضا، وباعتبار الوقت المفعول فيه قد يكون موسعا كالصلاة، وقد يكون مضيقا كالصوم، فإذا ترك الصلاة في أول وقتها صدق أنه ترك واجبا إذ الصلاة تجب بأول الوقت، ومع ذلك لا يذم عليها إذ أتى بها في أثناء الوقت ويذم إذا أخرجها عن جميع الوقت إذا ترك إحدى خصال الكفارة، فقد ترك ما يصدق عليه أنه واجب، مع أنه لا ذم فيه إذا أتى بغيره، وإذا ترك صلاة الجنازة فقد ترك ما هو واجب عليه؛ لأن فرض الكفاية يتعلق بالجميع ولا يذم عليه إذا فعله غيره، بخلاف تارك إحدى الصلوات الخمس فإنه مذموم سواء وافقه غيره أم لا إذا عرف بذلك، فنعود إلى ذكر التقريرين أحدهما: أن قوله: مطلقا عائد إلى الذم وذلك لأنه قد تلخص أن الذم على الواجب الموسع، والواجب المخير، والواجب على الكفاية من وجه دون وجه، والذم على الواجب المضيق والمحتم، والواجب على العين من كل وجه؛ فلذلك قال: مطلقا أي: سواء كان الذم من بعض الوجوه أو من كلها، فلو لم يذكر ذلك لقيل له: من ترك صلاة الجنازة مثلا لإتيان غيره بها، فقد ترك واجبا عليه مع أنه لا يذم أو يقال له: الآتي بها آت بالواجب مع أنه لو تركه لم يذم وأنت قد قلت: إن الواجب ما يذم تاركه، فلما ذكر هذا القيد اندفع الاعتراض لأنه وإن كان لا يذم عليه من هذا الوجه فيذم عليه من وجه آخر، وهو ما إذا تركه هو وغيره وبه صار الحد جامعا للواجب الموسع، والواجب المخير، والواجب على الكفاية، وعبر عنه الإمام في المحصول والمنتخب بقوله: على بعض الوجوه، وتبعه صاحب التحصيل، لكن صاحب الحاصل أبدله بقوله: مطلقا فتبعه المصنف وهو أحسن من عبارة الإمام؛ لأن القيود لا بد أن تخرج أضدادها فالتقييد بالبعض يخرج ما يذم تاركه من كل وجه، فيلزم أن يخرج من الحد أكثر الواجبات وهي المضيقة والمحتمة وفروض الأعيان، لا جرم أن في بعض مقطوعا كان أو مظنونا، فالتخصيص تحكم، قال الفنري: وفيه نظر، إذ المظنون لما لم يعلم تقديره علينا، كيف يقال: إنه فرض أي: مقدر علينا؟ والمقطوع لما كان معلوم التقدير كيف يقال: إنه ساقط؟ أقول: الحكم بأنه مقدر علينا لا يتوقف على القطع بل يكتفي فيه الظن، وكون الشيء معلوم التقدير لا ينافي السقوط علينا بمعنى النسخ، ولو على بعض الوجوه بزيادة: ولو. الثاني: أن مطلقا عائد إلى الترك والتقدير: تركا مطلقا ليدخل المخير والموسع وفرض الكفاية، فإنه إذا ترك فرض الكفاية لا يأثم وإن صدق أنه ترك واجبا وكذلك الآتي به آتٍ بالواجب مع أنه لو تركه لم يأثم وإنما يأثم إذا حصل الترك المطلق أي: منه ومن غيره، وهكذا في الواجب المخير والموسع، ودخل فيه أيضا الواجب المحتم، والمضيق، وفروض العين؛ لأن كل ما ذم الشخص عليه إذا تركه وحده ذم
عليه أيضا إذا تركه هو وغيره.
قوله: "ويرادفه الفرض" أي: الفرض والواجب عندنا مترادفان، وقالت الحنفية: إن ثبت التكليف بدليل قطعي مثل الكتاب والسنة المتواترة فهو الفرض كالصلوات الخمس، وإن ثبت بدليل ظني كخبر الواحد والقياس فهو الواجب، ومثلوه بالتواتر على قاعدتهم، فإن ادعوا أن التفرقة شرعية أو لغوية فليس في اللغة ولا في الشرع ما يقتضيه وإن كانت اصطلاحية فلا مشاحة في الاصطلاح، قال في الحاصل: والنزاع لفظي. قال: "والمندوب ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه، ويسمى سنة ونافلة".
أقول: المندوب في اللغة هو المدعو إليه، قال الجوهري: يقال: ندبه لأمر فانتدب له أي: دعاه له فأجاب قال الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
للنائبات على ما قال براهانا
فسمي النفل بذلك لدعاء الشرع إليه، وأصله المندوب إليه، ثم توسع فيه بحذف حرف الجر فاستكن الضمير، وفي الاصطلاح ما قاله المصنف قوله:"ما يحمد فاعله" أي: الفعل الذي يمدح فاعله، فالفعل جنس وقوله: يمدح خرج به المباح فإنه لا مدح فيه "هو ولا ذم" وقوله: فاعله خرج به الحرام والمكروه فإنه يمدح تاركهما والمارد بالفعل هنا هو الصادر من الشخص ليعم الفعل المعروف، والقول نفسانيا كان أو لسانيا فتدخل الأذكار القلبية اللسانية وغيرها من المندوبات وإلا يكون الحد غير جامع، وقوله: ولا يذم تاركه، خرج به الواجب فإن تاركه يذم، فإن قيل: فرض الكفاية يمدح فاعله ولا يذم تاركه مع أنه فرض، ولهذا احتجنا إلى إدخاله في حد الواجب كما تقدم، وكان ينبغي أن يقول مطلقا، وكذلك أيضا خصال الكفارة والواجب الموسع. قلنا: قوله: ولا يذم كافٍ؛ لأنه للعموم لكونه نكرة في سياق النفي، إذ الأفعال كلها نكرات تعم يدخل في الحد فعل الله تعالى مع أنه ليس مندوبا إلا أن يقال: يحمل الفعل على فعل المكلف وهو عناية في الحد ويسمى المندوب سنة ونافلة، قال في المحصول: ويسمى أيضا مستحبا وتطوعا ومرغبا فيه وإحسانا ومنهم من يبدل هذا بقوله: حسنا قال: "والحرام: ما يذم شرعا فاعله، والمكروه: ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله، والمباح: ما لا يتعلق بفعله وتركه مدح ولا ذم". أقول: المراد بقوله: ما يذم أي: الفعل الذي يذم فالفعل جنس للأحكام الخمسة وقوله: يذم احترز به عن المكروه والمندوب والمباح، فإنه لا ذم فيها وقوله: شرعا إشارة إلى أن الذم لا يكون إلا بالشرع على خلاف ما قاله المعتزلة. وقوله: فاعله احترز به عن الواجب فإنه يذم تاركه والمراد بالفعل هو الشيء الصادر من الشخص، والفاعل هو المصدر له ليعم الغيبة والنميمة وغيرهما من الأقوال المحرمة، وكذلك الحقد والحسد وغيرهما من الأعمال القلبية ولك أن تقول: هذا الحد يرد عليه الحرام المخير عند من يقول به، وهم الأشاعرة كما نقله عنهم الآمدي وغيره فينبغي أن يقول: مطلقا كما قاله في حد الواجب، قال في المحصول: ويسمى