المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في المبين - نهاية السول شرح منهاج الوصول

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌ترجمة البيضاوي صاحب منهاج الوصول إلى علم الأصول

- ‌ترجمة الإسنوي: صاحب نهاية السول شرح منهاج الوصول

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌تعريفات:

- ‌الباب الأول في الحكم:

- ‌الفصل الأول: تعريفه

- ‌الفصل الثاني: تقسيماته

- ‌التقسيم الأول:

- ‌التقسيم الثاني:

- ‌التقسيم الثالث:

- ‌التقسيم الرابع:

- ‌التقسيم الخامس:

- ‌التقسيم السادس:

- ‌الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه

- ‌الفصل الأول: في الحكم

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفصل الثاني: في المحكوم عليه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌الفصل الثالث: في المحكوم به

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الكتاب الأول: في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في اللغات

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الفصل الخامس:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسالة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسالة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌الفصل السادس

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفرع الثالث:

- ‌الفرع الرابع:

- ‌الفرع الخامس:

- ‌الفرع السادس:

- ‌الفصل السابع:

- ‌الفصل الثامن:

- ‌الفصل التاسع:

- ‌الباب الثاني: في الأوامر والنواهي

- ‌الفصل الأول: في لفظ الأمر

- ‌الفصل الثاني: في صيغته

- ‌الفصل الثالث: في النواهي

- ‌الباب الثالث: في العموم والخصوص

- ‌الفصل الأول: في العموم

- ‌الفصل الثاني: في الخصوص

- ‌الفصل الثالث: في المخصص

- ‌الباب الرابع: في المجمل والمبين

- ‌الفصل الأول: في المجمل

- ‌الفصل الثاني: في المبين

- ‌الفصل الثالث: في المبين له

- ‌الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الأول: في النسخ

- ‌الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ

- ‌خاتمة في النسخ:

- ‌الكتاب الثاني: في السنة

- ‌الباب الأول: الكلام في أفعاله

- ‌الباب الثاني: في الأخبار

- ‌الفصل الأول: فيما علم صدقه

- ‌الفصل الثاني: فيما علم كذبه

- ‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

- ‌الكتاب الثالث: في الإجماع

- ‌الباب الأول: في بيان كونه حجة

- ‌الباب الثاني: في أنواع الإجماع

- ‌الباب الثالث: في شرائطه

- ‌الكتاب الرابع: في القياس

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في بيان أنه حجة

- ‌الباب الثاني: في أركانه

- ‌الفصل الأول: في العلة

- ‌الفصل الثاني: في الأصل والفرع

- ‌الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها

- ‌الباب الأول: في المقبولة

- ‌الباب الثاني: في المردودة

- ‌الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح:

- ‌الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

- ‌الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة

- ‌الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

- ‌الباب الأول: في الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الاجتهاد

- ‌الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

- ‌الباب الثاني: في الإفتاء

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل الثاني: في المبين

مسح الرأس حقيقة فيما ينطلق عليه اسم المسح، وهو القدر المشترك بين الكل والبعض؛ لأن هذا التركيب تارة يأتي لمسح الكل وهو واضح، وتارة يأتي لمسح البعض كما يقال: مسحت يدي برأس اليتيم، وإن لم يمسح منها إلا البعض، فإن جعلناه حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك، وإن جعلناه حقيقة في أحدهما فقد لزم المجاز في الآخر، فجعله حقيقة في القدر المشترك دفعا للمحذورين، قال في المحصول: وهذا هو قول الشافعي ثم نقل عن بعض الشافعية أن الباء تدل على التبعيض، فلذلك اكتفينا بالبعض، ولم يذكر المصنف هذا المذهب هنا مع أنه قد جزم به في الفصل المعقود للحروف، والإمام إن كان قد جزم به هناك لكنه لم يصرح بعكسه هنا كما صرح به المصنف بل نقله عن الشافعي فقط. المسألة الثالثة: ذهب بعضهم إلى أن آية السرقة وهي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مجملة في اليد والقطع؛ لأن اليد تحتمل العضو كله أي: من المنكب إلى رءوس الأصابع، وتحتمل بعضه أيضا لأنها تطلق على كل منهما، والأصل في الإطلاق الحقيقة، والقطع يحتمل الشق يعني الجرح كقولنا: فلان برى القلم فقطع يده أي: جرحها ويحتمل أيضا الإبانة وهو فصل العضو كقولنا: سرق فقطعت يده. قوله: "القطع الشق" أي: يحتمل الشق، قال المصنف: والحق أنه ليس فيها إجمال لا من جهة اليد ولا من جهة القطع أما اليد فنقول: إنها حقيقة في الكل وتذكر للبعض بطريق المجاز بدليل قولنا في البعض: إنه ليس كل اليد، وأما القطع فهو حقيقة في الإبانة، ولا شك أن الشق أي: الجرح إبانة أيضا؛ لأن فيه إبانة بعض أجزاء اللحم عن بعض فيكون متواطئا.

ص: 228

‌الفصل الثاني: في المبين

قال: "الفصل الثاني: في المبين وهو الواضح بنفسه أو بغيره مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وذلك الغير يسمى مبينا وفيه مسألتان". أقول: المبين بفتح الياء: اسم مفعول من قولك: بيّنت الشيء تبيينا أي: وضحته توضيحا، وهو أي المبين يطلق على شيئين أحدهما: الواضح بنفسه وهو ما يكون كافيا في إفادة معناه، قال في المحصول: أما الأمر الراجع إلى اللغة كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 176] فإن إفادة هذا اللفظ لهذا المعنى يوضح اللغة، وقد يكون بالعقل كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فإن حقيقة هذا اللفظ من جهة اللغة إنما هو طلب السؤال من الجدران، ولكن العقل قد صرفنا عن ذلك، وبين أن المراد به الأهل، وقد أشار المصنف إلى هذين القسمين بذكر المثالين، وإنما جعل هذا القسم واضحا بنفسه وإن استفيد تعين معناه من العقل لكونه حاصلا من غير توقف. واعلم أن إطلاق لفظ المبين بفتح الياء على الواضح بنفسه، لم يذكره الإمام ولا صاحب الحاصل وهو إن كان غير متبادر إلى الفهم فهو صحيح لغة ومعنى، أما معنى فلأن المتكلم قد أوضحه حيث لم يأت بلفظ مجمل، وأما لغة فقد قال الجوهري في الصحاح ما نصه: والتبيين: الإيضاح، والتبيين أيضا

ص: 228

الوضوح، وفي المثل:"قد بين الصبح لذي عينين" أي: تبين، هذا لفظه، فأطلق التبيين على الوضوح وهو مصدر وضح لا أوضح، تقول: وضح الشيء وضوحا فهو واضح، فيكون اسم المفعول منه وهو المبين يطلق أيضا على ما قد وضح بنفسه وإن لم يوضحه غيره. القسم الثاني: الواضح بغيره وهو ما يتوقف فهم المعنى منه على انضمام غيره إليه وذلك الغير وهو الدليل الذي حصل به الإيضاح يسمى مبينا بكسر الياء، وله أقسام ذكرها المصنف بمثلها في المسألة الآتية، وهذا التقرير هو الصواب فاعتمده، ووقع في كثير من الشروح هنا أغلاط منها أن قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} تمثيل الواضح بغيره وهو خلاف ما في المحصول كما تقدم، وباطل أيضا لأنه قسم ذلك الغير في المسألة الآتية إلى القول والفعل فقط، فلو كان مثالا له لكان انحصاره في القسمين باطلا؛ لأن المبين فيه ليس هو الفعل ولا القول بل العقل، والذي حملهم على ذلك إيهام تقديم قوله: أو بغيره أنه من باب اللف والنشر، والظاهر أن كان مؤخرا عن المثالين، ولكن غيرته الشراح فتأمله. قال:"الأولى أن يكون قولا من الله والرسول، وفعلا منه كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] وقوله عليه الصلاة والسلام: "فيما سقت السماء العشر" 1 وصلاته وحجه، فإنه أدل فإن اجتمعا وتوافقا فالسابق، وإن اختلفا فالقول؛ لأنه يدل بنفسه". أقول: المبين -بكسر الياء- قد يكون قولا من الله كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} إلى آخر الآيات، فإنه بيان لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وقد يكون قولا من الرسول كقوله: "فيما سقت السماء العشر" فإنه بيان للحق المذكور في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وقد يكون فعلا منه أي من الرسول كصلاته، فإنها بيان لقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ولهذا قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وكحجه فإنه بيان لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ولهذا قال: "خذوا عني مناسككم" 2 وحكى في المحصول عن قوم أنهم منعوا البيان بالفعل؛ لأنه يطول فيتأخر، وأجاب بأن القول قد يكون أطول، واحتج المصنف بأن الفعل أدل أي: أقوى في الدلالة على المقصود وتوضيحه من القول، فإن الخبر ليس كالمعاينة والمشاهدة، فإذا جاز البيان بالقول فبالفعل أولى. قال في المحصول: وإنما يعلم كون الفعل بيانا للمجمل بأحد أمور ثلاثة، أحدها: أن يعلم ذلك بالضرورة من قصده. وثانيها: أن يقول: هذا الفعل بيان للمجمل. وثالثها بالدليل العقلي: وهو أن يذكر المجمل في وقت الحاجة إلى العمل به، ثم يفعل فعلا يصلح أن يكون بيانا له ولا يفعل شيئا آخر، فيعلم أن ذلك الفعل بيان له، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن قيل: أهمل

1 أخرجه الهندي في كنز العمال "15880" والبيهقي في السنن الكبرى "4/ 221".

2 أخرجه العراقي في المغني عن حمل الأسفار "1/ 265"، والزيلعي في نصب الراية "3/ 55"، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين "4/ 437".

ص: 229

المصنف قسمين آخرين للبيان، ذكرهما في المحصول أحدهما: الفعل من الله تعالى وهو خلق الكتابة في اللوح المحفوظ، والثاني: الترك من الرسول كتركه التشهد الأول، فإنه بيان لعدم وجوبه قلت: أما الترك فهو داخل في قسم الفعل على الراجح عند الأصوليين وقد صرح به ابن الحاجب في حد الوجوب، وأما الكتاب فتستحيل على الله تعالى في ذاته ولا يستحيل أن يخلقها في جسم، فصار كالبيان بالإشارة وعقد الأصابع، وقد ادعى الإمام انتفاءهما في حق الله تعالى، فنقول: لما ظهر استواء الكل لكان المقتضي لنفيهما مقتضيا لنفي الكتابة. قوله: "إن اجتمعا" أي: القول أو الفعل وتوافقا أي: في الدلالة على حكم واحد فالمبين هو السابق منهما، قولا كان أو فعلا لحصول البيان به، والثاني تأكيد له، ولا فرق في ذلك بين أن نعلم السابق أو نجهله كما قاله في المحصول1 وصححه ابن الحاجب، لكنا إذا جهلنا نحكم على السابق منهما من حيث الجملة. وقال الآمدي: الأشبه فيما إذا جهلنا، واختلفا في الترجيح، أن المرجوح يقدر متقدما حتى يكون هذا المبين، والراجح المتأخر تأكيد له؛ إذ لو انعكس الحال لكان المرجوح مؤكدا للراجح وهو ممتنع، وإن اختلفا كقوله عليه الصلاة والسلام:"من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا" 2 مع ما روي أنه عليه الصلاة والسلام "قرن، فطاف لهما طوافين وسعى لها سعيين" فالأصح عند الإمام وأتباعه وابن الحاجب أن المأخوذ به هو القول سواء تقدم أو تأخر، أو لم يعلم شيء منهما لأنه يدل بنفسه، والفعل لا يدل إلا بواسطة أحد الأمور الثلاثة المتقدمة. فعلى هذا إن تأخر الفعل فيكون دالا على استحباب الطواف، الثاني: وإن تأخر القول كان ناسخا لإيجاب الطواف. الثاني: المستفاد من الفعل، وقال الآمدي: الأشبه أنه إن تقدم القول فهو المبين، وإن تأخر فيكون الفعل المتقدم مبينا في حقه حتى يجب عليه الطوافان، والقول المتأخر مبينا في حقنا حتى يكون الواجب طوافا واحدا عملا بالدليلين. وقال أبو الحسين البصري: المتقدم هو المبين دائما. قال: "الثانية: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه تكليف بما لا يطاق، ويجوز عن وقت الخطاب عدا المشترك. لنا مطلقا قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] قيل: البيان التفصيلي قلنا: تقييد بلا دليل، وخصوصا أن المراد من قوله تعالى:{أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] معينة بدليل ما هي وما لونها، والبيان تأخر. قيل: يوجب التأخير عن وقت الحاجة، قلنا: الأمر لا يوجب الفور قيل: لو كان معينة لما عنفهم، قلنا: للتواني بعد البيان وأنه تعالى أنزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] فنقض ابن الزبعرى بالملائكة والمسيح، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا} [الأنبياء: 101] الآية

1 انظر المحصول، ص474، جـ1.

2 أخرجه أحمد في المسند "2/ 67"، والهندي في كنز العمال حديث رقم "11978".

ص: 230

قيل: ما لا تتناولهم وإن سلم لكنهم خصوا بالعقل وأجيب بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وإن عدم رضاهم لا يعرف إلا بالنقل، قيل: تأخير البيان إغراء، قلنا: كذلك ما يوجب الظنون الكاذبة، قيل: كالخطاب بلغة لا تفهم، قلنا: هذا يفيد غرضا إجماليا بخلاف الأول". أقول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة أي: وقت العمل بذلك المجمل إن منعنا التكليف بما لا يطاق؛ لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به محال. وكلام المصنف هنا مخالف لما أسلفه من جواز التكليف به فالصواب بناؤه عليه كما ذكرته وهو المذكور في المحصول والحاصل، وأما تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فالصحيح عند الإمام وأتباعه وابن الحاجب أنه يجوز ونقله في المحصول عن مذهبنا، ومنعت المعتزلة ذلك. قال في المحصول: إلا في النسخ فإنهم وافقونا على جواز تأخيره، وأهمل المصنف استثناءه وفصل أبو الحسن البصري من المعتزلة، ومن الشافعية القفال والدقاق وأبو إسحاق المروزي، فقالوا: المجمل إن لم يكن له ظاهر يعمل به كالمشترك فيجوز تأخير بيانه؛ لأن تأخيره لا يوقع في محذور، وإن كان له ظاهر يعمل به فيجوز تأخير البيان التفصيلي بشرط وجود البيان الإجمالي وقت الخطاب مانعا من الوقوع في الخطأ مثل أن يقول: المراد بهذا العام هو المخصوص وبهذا المطلق هو المقيد وبالنكرة فرد معين، بهذا اللفظ معنى مجازي أو شرعي وهذا الحكم سينسخ. وأما البيان التفصيلي وهو كونه مخصوصا بكذا فغير شرط، وحاصله أن الشرط عند هؤلاء أحد البيانين فقوله بالبيان أي مع البيان وفي النقل عن القفال نظر. فقد رأيت في كتاب الإشارة له أنه يجوز تأخير البيان، وقوله: فيما عدا المشترك متعلق باشتراط البيان لا بقوله: جوز فيكون عامله محذوفا أي: كانئا فيما عدا المشترك، ونقل في المحصول عن أبي الحسين استثناء المتواطئ أيضا مع المشترك وهو فاسد معنى؛ لأن له ظاهرا وهو ما شاء المكلف من الأفراد، ونقلا لأن أبا الحسين لم يذكر سوى المشترك على ما نقله الأصفهاني شارح المحصول، ولأجل هذين المعنيين لم يذكره المصنف فافهمه، ولم يصرح الآمدي باختيار شيء من المذاهب بل مال إلى التوقف، ثم استدل المصنف على مذهبه بثلاثة أدلة، الأول: يدل على جوازه مطلقا أي: في التخصيص وغيره مما له ظاهر أو ليس له ولهذا قال: لنا مطلقا، والثاني: خاص بالنكرة، والثالث: خاص بالعموم؛ ولهذا قال: وخصوصا كذا وكذا. والدليل الأول قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19] ذكر البيان بلفظ {ثُمَّ} وهي للتراخي فدل على أنه يجوز تراخيه عن اتباع الرسول واتباع الرسول متأخر عن الإنزال وهو المراد بقوله تعالى: {قَرَأْنَاهُ} أي: {أنزلناه} إنما قلنا: إن المراد بقوله مطلقا أي: عاما مطلق الدلالة؛ لأن المطلق يصدق بصوره فلا يكون فيه حجة على أبي الحسين في اشتراطه أحد البيانين، إما التفصيلي أو الإجمالي، والمصنف قد استدل به عليه، فإن قيل: فأين

ص: 231

العموم في الآية قلنا: لأن بيانه مضاف وقد تقدم أنه للعموم، ولك أن تقول: حمله على العموم يقتضي أن لا يوجد بيان مقارن، وأن يفتقر كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي قالوه وليس كذلك. فالوجه حمل البيان على الإظهار كقولهم بأن لنا سور المدينة أي: ظهر اعتراض أبي الحسين ومن معه من الشافعية بأن المراد هو البيان التفصيلي دون الإجمالي، وأجاب المصنف بأنه تقييد بلا دليل. قوله:"وخصوصا" هو معطوف على قوله مطلقا، تقديره لنا مطلقا كذا، وخصوصا كذا، وهذا هو الدليل الثاني المخصوص بالنكرة، وتقديره أن المراد من قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] إنما هي بقرة معينة بدليل سؤالهم عن صفتها، وجواب الباري لهم حيث قال:{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا} [البقرة: 70] إلخ الآيات، فلو كانت غير معينة لكان السؤال باطلا لا يستحقون عليه جوابا، لكن الباري أجاب بأوصاف خاصة، ثم إن البيان تأخر عن الخطاب حتى سألوه سؤالا بعد سؤال فدل على الجواز، واعترض الخصم على هذا الاستدلال بوجهين أحدهما: أن بني إسرائيل كانوا مأمورين وقت الخطاب بالذبح فيكونون محتاجين إلى البيان في ذلك الزمان، وتأخيره عنه تأخير عن وقت الحاجة وهو لا يجوز، فما تقتضيه الآية لا يقولون به، وما يقولون به لا تقتضيه الآية، وجوابه ما تقدم من كون الأمر لا يوجب الفور، ولك أن تقول: الأمر بذلك إنما هو لأجل الفصل بين الخصمين المتنازعين في القتل، كما هو معروف في التفسير والفصل واجب على الفور. الاعتراض الثاني: لا نسلم أن البقرة كانت معينة، فإن ابن عباس رضي الله عنهما نقل عنه أنه قال:"شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم" ويدل عليه أنها لو كانت معينة لما عنفهم الله تعالى وذمهم على سؤالهم لكنه عنفهم بقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وجوابه أنا نمنع كون التعنيف على السؤال، فإنه يجوز أن يكون على التواني أي: التقصير بعد البيان فإن كلا منهما محتمل، وأيضا فإيجاب المعينة بعد إيجاب خلافها نسخ قبل الفعل وهو ممتنع عند الخصم، وكان الصواب تقديم الاعتراض الثاني على الأول. قوله:"وأنه تعالى" هو معطوف على قوله: إن المراد تقديره ولنا خصوصا أن المراد كذا، وأنه تعالى أنزل كذا، وهذا هو الدليل الثالث المختص بجواز إطلاق العام وإرادة الخاص من غير بيان مقترن به لا تفصيلي ولا إجمالي، وتوجيهه أنه تعالى أنزل:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وهو عام في كل معبود فقال ابن الزبعرى: لأخصمن محمدا فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد المسيح؟ فيلزم أن يكون هؤلاء حصب نار جهنم فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب حتى نزل التخصيص بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] فدل ذلك على الجواز قال الجوهري: الحصب هو ما يحصب به في النار أن يرمى به والزبعرى بكسر الزاي وفتح الباء قال: وهو السيئ الخلق على ما نقله الفراء،

ص: 232

وقال أبو عبدة وأبو عمرو: وإنه كثير شعر الوجه وأما أخصم فإنه من باب المغالبة فنقول: خاصمته فخصمته بكسر الصاد أي: غلبته في الخصومة، قال الجوهري: وهو شاذ فإن قياسه الضم إذا لم تكن عينه حرف حلق تقول: صارعته فصرعته أصرعه بضم الراء. واعترض ما لا يعقل خاصة؛ لهذا نقل الآمدي أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "ما أجهلك بلغة قومك، ما لما لا يعقل" وحينئذ فلا يكون إنزال قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} الآية للتخصيص بل لزيادة بيان جهل المعترض. الثاني: سلمنا أنها تتناولهم لكنهم مخصوصون بالعقل فإن العقل قاضٍ بأنه لا يجوز تعذيب أحد بجريمة صادرة من غيره لم يدع إليها، وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم حالة الخطاب، ثم نزلت الآية تأكيدا له، وأجاب المصنف عن الأول بما أجاب به الإمام وهو أن ما تعم العقلاء وغيرهم بدليل إطلاقها على الله تعالى في قوله:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 4] وهذا الجواب باطل؛ لأنه إن أراد الإطلاق بالمجازي فمسلم، لكن لا بد في الحمل عليه من قرينة ترشد إليه كالقرينة في قوله:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وأما تكلف الحمل على المجاز بلا قرينة ليستدل به على الخصم كما صنع في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} فباطل بالاتفاق، وإن أراد الإطلاق الحقيقي فهو مذهب مشهور ذهب إليه أبو عبيدة1 وابن درستويه2 ومكي بن أبي طالب3 وكذا ابن خروف4 ونقله عن سيبويه5 لكنه مناقض لما ذكره في أوائل العموم، ومخالف لمذهب الجمهور على أن في قوله تعالى:{وَمَا بَنَاهَا} تخاريج معروفة عند أهل العربية، وأجاب على الثاني بأن العقل إنما يخيل ترك تعذيبهم لعبادة الكفرة لهم، إذا علم بالعقل أيضا عدم رضاهم

1 معمر بن المثنى التيمي بالولاء، البصري أبو عبيدة النحوي، من أئمة العلم بالأدب واللغة، ومولده ووفاته بالبصرة، من كتبه: مجاز القرآن ومآثر العرب والمثالب وغيرها، توفي سنة "209هـ"""الأعلام 7/ 272".

2 ابن درستويه: عبد الله بن جعفر بن محمد بن درستويه بن المرزبان، أبو محمد من علماء اللغة، فارسي الأصل، اشتهر وتوفي ببغداد، له تصحيح الفصيح والإرشاد ومعاني الشعر وغيرها. توفي سنة "347هـ""الأعلام 4/ 76".

3 مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار الأندلسي القيسي أبو محمد، مقرئ عالم بالتفسير والعربية من أهل القيروان، ولد فيها وطاف في بلاد المشرق وعاد إلى بلده، له مشكل إعراب القرآن، والكشف عن وجوه القراءات وعللها، والهداية إلى بلوغ النهاية، وغيرها. توفي سنة "437هـ"، "الأعلام 7/ 286".

4 ابن خروف: علي بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي، أبو الحسن، عالم بالعربية، أندلسي نسبته إلى حضرموت، ولعل أصله منها، له شرح كتاب سيبويه، وشرح الجمل للزجاجي، وغيرهما، توفي سنة "609هـ"، "الأعلام 4/ 330".

5 سيبويه: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو البشر، إمام النحاة وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف الكتاب في النحو، توفي سنة 180هـ "الأعلام 5/ 81".

ص: 233

بالعبادة، وليس كذلك فإن العقل لا مجال له في هذا، وإنما علمنا عدم رضاهم بالنقل وهو قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية، وذلك متأخر وهذا الجواب من المصنف بناء على أن عصمة الأنبياء ثابتة بالسمع، والمعتزلة يقولون: إنها ثابتة بالعقل كما سيأتي فلا يستقيم الرد عليهم بذلك. قوله: "قيل: تأخير البيان إغواء" هذه حجة أبي الحسين البصري علىاشتراط البيان الإجمالي فيما له ظاهر، كما قال في المحصول، وتقريره أن الشارع إذا خاطبنا بذلك فإن لم يقصد إفهام المعنى كان عبثا وهو نقص، وإن قصده فإن كان هو المعنى الباطن كان تكليفا بما لا يطاق، وإن كان هو الظاهر كان إغواء أي إضلالا كما قاله الجوهري، ويقع في كثير له عليه وهو إيقاع في الجهل وقرره في المحصول بتقرير الراء، وفي الحاصل بتقرير الواو، وكلام المصنف يقتضي بأنه دليل للمانع مطلقا، وليس كذلك فإن المشترك ليس فيه إيقاع في الجهل، وأجاب المصنف بالنقض الإجمالي وهو جواز الخطاب بما يوجب الظنون الكاذبة كالتجسيم وغيره مثل قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] مع أنه ليس بإغواء إجماعا فكذلك هذا، وللخصم أن يفرق بأن هذه الأشياء قد قارنها دليل عقلي مرشد للصواب بخلاف تأخير البيان، وهذا الجواب لم يذكره الإمام بل ذكر شيئا آخر فيه ضعف. قوله:"قبل الخطاب" أي: استدل من منع تأخير البيان عن الخطاب الذي ليس له ظاهر أيضا كالمشترك، والذي له ظاهر ولكن امتنع الأخذ به لاقترانه بالدليل الإجمالي بأن الخطاب بذلك لا يحصل المقصود، فامتنع وروده كالخطاب بلغة لا يفهمها السامع، وأجاب المصنف بالفرق وهو أن الخطاب بما لا يفهمه السامع لا يفيد غرضا لا إجماليا ولا تفصيليا بخلاف الأول وهو الخطاب بالمشترك ونحوه فإنه يفيد غرضا إجماليا، فإذا قال: ائتني بعين أفاد الأمر بواحدة من العيون، فيتهيأ للعمل بعد البيان، وتظهر طاعته بالبشر وعصيانه بالكراهة وكذلك إذا قال: اقتلوا المشركين وقال: إن هذا العام مخصوص. قال: "تنبه: يجوز تأخير التبليغ إلى وقت الحاجة، وقوله تعالى: {بَلِّغْ} لا يوجب الفور". أقول: المراد بالتنبيه ما نبه عليه المذكور قبله بطريق الإجمالي وهو ههنا كذلك، وحاصله أنه يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم تأخير تبليغ ما أوحي إليه من الأحكام إلى وقت الحاجة إليها؛ لأنا نقطع بأنه لا استحالة فيه، ولأنه يجوز أن يكون في التأخير مصلحة يعلمها الله تعالى. وقال قوم: لا يجوز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] وأجاب المصنف بأن الأمر لا يوجب الفور كما تقدم. قال في المحصول: وإن سلمنا لكن المراد هو تبليغ القرآن لأنه هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل، وذكره أيضا ابن الحاجب، ولك أن تقول: أي فرق بين تبليغ القرآن وبين غيره، وأيضا فالقرآن أن يشتمل على آيات تتضمن الأحكام فإذا وجب تبليغه على الفور وجب تبليغ أحكامها، وإذا وجب ذلك وجب تبليغ الأحكام مطلقا إذ لا قائل بالفرق

ص: 234