الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي: دليلنا على امتناع إطلاق المشتق بدون المشتق منه أن الأصل وهو المشتق منه، جزء من المشتق، فإن العالم مثلا مدلوله ذات قام بها العلم، فلا يصدق المشتق بدونه؛ لأن صدق المركب بدون جزئه محال، وهذا الدليل إنما يستقيم على رأي البصريين من كون المصدر هو المشتق منه، أما شبهتهم في إنكار الصفات فقالوا: لو اتصف البارئ سبحانه وتعالى بها، فإن كانت حادثة لزم أن يكون البارئ تعالى محلا للحوادث، وإن كانت قديمة لزم تعدد القدماء، وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 74] فمن أثبت الذات مع الصفات الثماني فقد أثبت تسعة أشياء وكان كفره أعظم من كفر النصارى ثلاث مرات، وأما والعالمية ونحوها فإنها من النسب التي لا ثبوت لها في الخارج، وأجاب الإمام في الأربعين وغيرها بأنها قديمة ولا امتناع في إثبات قدماء هن صفات لذات واحدة، والنصارى إنما كفروا بإثبات قدماء هن ذوات، ثم قال في الأربعين أيضا: وهذه الصفات ممكنة لذاتها واجبة الوجود لوجوب الذات، فتخلص مما قاله الإمام أن الصفات واجبة للذات لا بالذات أي: واجبة لأجل الذات المقدسة، لا أن ذات الصفات اقتضت وجوب وجود نفسها.
المسألة الثانية:
قال: "الثانية: شرط كونه حقيقة دوام أصله خلافا لابن سينا وأبي هاشم؛ لأنه يصدق نفيه عند زواله فلا يصدق إيجابه قيل: مطلقتان فلا تتناقضان قلنا: مؤقتتان بالحال؛ لأن أهل العرف يرفع أحدهما بالآخر". أقول: لما تقدم في المسألة السابقة أن شرط المشتق صدق المشتق منه، شرع الآن في بيان الصدق الحقيقي من المجاز، وحاصله أن المشتق إن أطلق باعتبار الحال أو كان المعنى موجودا حال الإطلاق فهو حقيقة بالاتفاق، وإن كان باعتبار المستقبل كقوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فهو مجاز اتفاقا كما صرح به المصنف في أثناء استدلاله، وإن كان باعتبار الماضي ففيه ثلاثة مذاهب، أحدها: أنه مجاز مطلقا سواء أمكن مقارنته كالضرب وغيره أو لم يمكن كالكلام، وطريق من أراد الإطلاق الحقيقي في الكلام وشبهه أو يأتي به مقارنا لآخر حرف كما. والثاني: أنه حقيقة مطلقا وهو مذهب ابن سينا وأبي هاشم وكذلك أبو علي كما قال في الحاصل. والثالث: التفصيل بين الممكن وغيره وتوقف الآمدي في هذه المذاهب فلم يصحح شيئا منها، وكذلك ابن الحاجب وصحح المصنف الأول، وقال في المحصول: إنه الأقرب، فإن قيل: قد تقدم في المسألة السابقة أن أبا علي وابنه لا يشترطان صدق الأصل فلا معنى للنقل عنهما؛ لأنهما إذا لم يشترطا الصدق فالاستمرار بطريق الأولى، وأيضا فلأنه يوهم اشتراط وجود الأصل عندهما، وجوابه أنهما لم يخالفا هناك إلا في صفات الله تعالى خاصة، وأما ما عداها كالضارب والمتكلم وهو الذي يتكلم فيه الآن، فإنهما لم يخالفا فيه كما تقدم التنبيه عليه، ومن فوائد الخلاف صحة الاحتجاج على جواز الرجوع للبائع إذا مات المشتري قبل وفاء الثمن، من قوله عليه الصلاة والسلام: "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق
بمتاعه" 1 فإن قلنا: إنه صاحب حقيقة باعتبار ما مضى رجع فيه؛ لاندراجه تحته، وإن قلنا: إنه مجاز فلا ويتعين الحمل على المستعير وههنا أمور لا بد من معرفتها أحدها: أن الفعل من المشتقات مع أن إطلاق الماضي منه اعتبار ما مضى حقيقة بلا نزاع، وقد دخل في كلام المصنف حيث قال: شرط كونه حقيقة أي: كون المشتق، وأما المضارع فينبني على الخلاف المشهور من كونه مشتركا أم لا، فإن جعلناه مشتركا أو حقيقة في الاستقبال فيستثنى أيضا. الثاني: أن التعبير بالدوام إنما يصح فيما يصح عليه البقاء وحينئذ فتخرج المشتقات من الأعراض السيالة كالمتكلم ونحوه، فالصواب أن يقول: شرط المشتق وجود أصله حال الإطلاق. الثالث: أن الإمام في المحصول والمنتخب قد رد على الخصوم في آخر المسألة بأن لا يصح أن يقال لليقظان: إنه نائم اعتبارا بالنوم السابق، وتابعه عليه صاحب الحاصل والتحصيل وغيرهما، وهو يقتضي أن ذلك محل اتفاق وصرح به الآمدي في الأحكام في آخر المسألة فقال: لا يجوز تسمية القائم قاعدا والقاعد قائما للقعود والقيام السابق بإجماع المسلمين وأهل اللسان، وإذا تقرر هذا فينبغي استثناؤه من كلام المصنف، وضابطه كما قال التبريزي في مختصر المحصول المسمى بالتنقيح أن يطرأ على المحل وصف وجودي يناقض المعنى الأول أو يضاده كالسواد ونحوه بخلاف القتل والزنا. والرابع: أن ما قاله المصنف وغيره محله إذا كان المشتق محكوما به كقولك: زيد مشرك أو زانٍ أو سارق فأما إذا كان متعلق الحكم كقولك: السارق تقطع يده، فإنه حقيقة مطلقا، كما قال القرافي إذ لو كان مجازا لكان قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 51] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وشبهها مجازات باعتبار من اتصف بهذه الصفات في زماننا؛ لأنه مستقبل باعتبار زمن الخطاب عند إنزال الآية، وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال بهذه النصوص إذ الأصل عدم التجوز ولا قائل بهذا. قوله: "لأنه" أي: الدليل على أنه ليس بحقيقة أنه يصدق نفي المشتق عند زوال المشتق منه فيقال مثلا: زيد ليس بضارب، وإذا صدق ذلك فلا يصدق إيجابه وهو زيد ضارب، وإلا لزم اجتماع النقيضين، فإن أطلق عليه كان مجازا لما سيأتي أن من علامة المجاز صحة النفي، أما الدليل على أنه يصدق نفيه عند زواله، فلأنه بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب في الحال، وإذا صدق هذا صدق ليس بضارب؛ لأنه جزؤه، ومتى صدق الكل صدق الجزء، واعترض الخصم فقال: قولنا: ضارب وقولنا: ليس بضارب قضيتان مطلقتان أي: لم يتحد وقت الحكم فيهما فلا تتناقضان؛ لجواز أن يكون وقت السلب غير وقت الإثبات كما تقرر في علم المنطق، والجواب: أنهما مؤقتتان بحال التكلم وأغنى عن هذا التقييد فهم أهل العرف له، إذ لو لم يكن كذلك لما جاز استعمال كل
1 أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة "2/ 51"، وأخرجه الهندي في كنز العمال، حديث رقم "10465".
واحد منهما في تكذيب الآخر ورفعه، لكن أهل العرف يستعملون ذلك فتكونان متناقضتين كما قلنا. هذا حاصل كلام المصنف وفيه نظر من وجوه، أحدها: أن هذا الدليل ينقلب على المستدل، بيانه أنه يصدق قولنا: زيد ضارب في الماضي فيصدق قولنا: إنه ضارب؛ لأن صدق المركب يستلزم صدق أجزائه، وإذا صدق أنه ضارب فلا يصدق ليس بضارب وإلا لاجتمع النقيضان، وكذلك أيضا تفعل بالنسبة إلى المستقبل فنقول: زيد ضارب غدا
…
إلخ. الثاني: إذا كانت القضيتان مؤقتتين بالحال على ما قاله، وفرضنا أيضا القضية السالفة صادقة فتكون الموجبة المقيدة بالحال هي الكاذبة فلا يصدق قولنا: ضارب في الحال ولكن لا يلزم كذبه كذب المطلق الذي هو قولنا: ضارب وهو محل النزاع. الثالث: لا يخلو إما أن يكون المشتق المتنازع في صحة إطلاقه بعد الزوال المشتق منه هو المقيد بالحال كقولنا: ضارب في الحال، أم النزاع في مجرد الإطلاق العاري عن التقييد، فإن كان النزاع في الثاني، فبطلان الدليل المذكور واضح لكون القضية مطلقة واعتراض الخصم باق على حاله، وأما استعماله في التكاذيب فنحن نعلم ضرورة أن ذلك عند توافق المتخاطبين على إرادة زمان معين، وإن كان النزاع في المقيد بالحال وهو الذي يوافق جواب المصنف، فالاستدلال بنفيه باطل؛ لأنه مصادرة على المطلوب إذ هو محل النزاع. وبتقدير أن يكون المقصود ذلك فيصرح به في الدليل فنقول: لما صح ليس بضارب في الحال لم يصح ضارب في الحال، ولا نتكلف إقامته على الوجه الذي قرره حتى يورد عليه عن القضايا مطلقة فلا تتناقض فتتكلف إلى الجواب عنها بجواب غير محقق. الرابع أورده الآمدي في الأحكام وأخذه منه جماعة: أن الضارب في الحال أخص من مطلق الضارب، فقولنا: ليس بضارب في الحال نفي للأخص، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فلا يلزم من صدقه صدق ليس بضارب، كقولنا: الحمار ليس بحيوان ناطق فإنه صادق مع أنه لا يصدق قولنا: إنه ليس بحيوان فإن قيل: إنما يكون ليس بضارب في الحال أخص من ليس بضارب أن لو كان في الحال متعلقا بضارب، ولا نسلم ذلك بل يجوز أن يكون متعلقا بليس ومعناه: ليس في الحال بضارب فيكون السلب مقيدا بقوله: في الحال فيكون أخص من قولنا: ليس بضارب؛ لأن السلب الأخص أخص من السلب المطلق والأخص يستلزم الأعم، والجواب: أنا لا نسلم أنه بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس في الحال بضارب؛ لأنه عين المتنازع فيه. وإلى هذا أشار في التحصيل بقوله: لا نسلم أن هذا سلب أخص أي: بالتنوين، بل سلب أخص أي: بالإضافة.
قال: "وعورض بوجوه، الأول: أن الضارب من له الضرب وهو أعم من الماضي، ورد بأنه أهم من المستقبل أيضا وهو مجاز اتفاقا. الثاني: أن النحاة منعوا عمل النعت الماضي ونوقض بأنهم أعملوا المستقبل أيضا. الثالث: أنه لو شرط لم يكن المتكلم ونحوه حقيقة، وأجيب بأنه لما تعذر اجتماع أجزائه اكتفى بآخر جزء. الرابع: أن المؤمن
يطلق حالة الخلو عن مفهومه، وأجيب بأنه مجاز وإلا لأطلق الكافر على أكابر الصحابة رضي الله عنهم حقيقة" أقول: اعترض الخصم فقال: هذا الدليل الذي ذكرتم وإن دل على أن المشتق لا يصدق حقيقة عند زوال المشتق منه، لكنه معارض بأدلة أربعة تدل على أن يصدق حقيقة، ولو قال المصنف بأوجه لكان أوجه من الوجوه؛ لأنها جمع كثرة، الأول: أن الضارب مثلا عبارة عن ذات ثبت لها الضرب أعم من أن يكون في الحال أو في الماضي بدليل صحة تقسيمه إليها، وهو في الحال حقيقة بالاتفاق فكذلك في الماضي، ورد هذا الدليل بأن من ثبت له الضرب كما أنه أعم من الماضي والحال فهو أعم من الاستقبال، فيلزم أن يكون حقيقة في المستقبل وهو مجاز بالاتفاق، وفي الجواب نظر لأن من ثبت له الضرب أو حصل له لا ينقسم إلى المستقبل. الثاني: أن النحاة أي: جمهورهم قالوا: إن النعت يعني المشتق كاسم الفاعل واسم المفعول إذا كان بمعنى الماضي أي: وليس معه أن لا ينصب بل يتعين جره إليه بالإضافة كقولك: مررت برجل ضارب زيد أمس، وهذا يدل على جواز استعماله بمعنى الماضي، والأصل في الاستعمال الحقيقة. والجواب أن هذا الدليل منتقض بإجماعهم على إعماله إذا كان بمعنى الاستقبال، فإن ما قلتموه في الماضي يأتي بعينه في المستقبل مع أنه مجاز اتفاقا، وأجاب في التحصيل عن جوابنا بأنه يوجب تكثير المجاز وهو خلاف الأصل. الثالث: لو شرط بقاء المشتق منه إلى حالة الإطلاق لم يكن المشتق من الألفاظ كالمتكلم والمخبر والمحدث حقيقة البتة؛ لأن الكلام ونحوه اسم لمجموع الحروف ويستحيل اجتماع تلك الحروف وفي وقت واحد؛ لأنها أعراض سيالة لا يوجد منها حروف إلا بعد انقضاء الآخر، والجواب: أنه لما تعذر اجتماع أجزاء الكلام وشبهه اكتفينا في الإطلاق الحقيقي بمقارنته لآخر جزء لصدق وجود المشتق منه مع مقارنته لشيء منه، فمن قال: قام زيد مثلا إنما يصدق عليه متكلم حقيقة عند مقارنة الدال فقط لا قبلها ولا بعدها. الرابع: أن لفظ المؤمن يطلق على الشخص حالة خلوه عن مفهوم الإيمان، والأصل في الإطلاق الحقيقة، بيانه: أن الواحد منا إذا نام يصدق عليه أنه مؤمن أو لا يصدق عليه الإيمان في تلك الحالة؛ لأنه إما عبارة عن التصديق كما هو مذهب الأشعري، أي: عن العمل كما هو مذهب المعتزلة، وكل منهما ليس بحاصل في حال نومه، وأجيب بأن هذا الإطلاق مجاز؛ لأنه لو كان إطلاق المؤمن على الشخص باعتبار الإيمان السابق حقيقة، لكان إطلاق الكافر على أكابر الصحابة حقيقة باعتبار الكفر السابق وهو باطل اتفاقيا فيبطل الأول، وأجاب صاحب التحصيل وغيره عن جوابنا بأن الحقيقة قد تهجر لعارض شرعي، فلا يلزم من امتناع إطلاق اسم الذم لكونه مخلا بتعظيمهم امتناع عكسه وهو المؤمن، وفي الجواب نظر؛ لأن القاعدة أن امتناع الشيء متى دار إسناده بين عدم المقتضى ووجود المانع كان إسناده إلى عدم المقتضى أولى؛ لأنا لو أسندناه إلى وجود المانع لكان المقتضى قد وجد وتخلف أثره والأصل عدمه، وعلى هذه القاعدة لا يصح جوابهم؛ لأن المصنف يدعي أن امتناع إطلاق الكافر لعدم المقتضى وهو وجود المشتق منه حالة الإطلاق، والمجيب يدعي أن امتناعه لوجود المانع فكان الأول أولى، وهذه القاعدة تنفع في كثير من المباحث.