الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تستلزم الاطراد لا الانعكاس. الثاني: تعرية اللفظ عن القرينة، فإذا سمعنا أهل اللغة يعبرون عن المعنى الواحد بلفظين لكن أحدهما لا يستعملونه إلا بقرينة فيكون الآخر حقيقة؛ لأن حذف القرينة دليل على استحقاق اللفظ لذلك المعنى عندهم، وأما المجازفة فلها أيضا علامتان إحداهما: إطلاق الشيء على ما يستحيل منه؛ لأن الاستحالة تقتضي أنه غير موضوع له فيكون مجازا، كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . الثانية: إعمال اللفظ المنسي بأن يكون اللفظ موضوعا لمعنى له أفراد، فتترك أهل العرف استعماله في بعض تلك الأفراد بحيث يصير ذلك البعض منسيا، ثم تستعمل اللفظ في ذلك البعض المنسي فيكون مجازا أي: عرفيا كما قاله الإمام، مثاله الدابة، فإنها موضوعة في اللغة لكل ما دبّ كالفرس والحمار وغيرهما، فترك أهل بلاد العراق استعمالها في الحمار بحيث صار منسيا فإطلاقها عليه مجاز عندهم، وأما إطلاقها على غير المنسي فقد أطلقوا بأنه مجاز لغوي لأن قصرها على الحمار بأرض مصر وللفرس بأرض العراق وضع آخر، ولقائل أن يقول: إن استعمالها المتكلم ملاحظة للوضع الأول كان حقيقة، وإلا كان مجازا، فإن الوضع الثاني لا يخرج الأول هما وضعا له، وقد نقل الإمام علامات أخرى للحقيقة والمجاز وضعفها؛ فلذلك تركها المصنف.
الفصل السابع:
قال: "الفصل السابع: في تعارض ما يخل بالفهم وهو الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص، وذلك على عشرة أوجه، الأول: النقل أولى من الاشتراك لإفراده في الحالتين كالزكاة. الثاني: المجاز خير منه لكثرته وإعمال اللفظ مع القرينة ودونها كالنكاح. الثالث: الإضمار خير منه؛ لأن احتياجه إلى القرينة في صورة، واحتياج الاشتراك إليها في صورتين مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] . الرابع: التخصيص خير منه؛ لأنه خير من المجاز كما سيأتي مثل: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] فإنه مشترك أو مختص بالعقد وخص عنه الفاسد. الخامس: المجاز خير من النقل لعدم استلزامه نسخ الأول كالصلاة. السادس: الإضمار خير منه؛ لأنه مثل المجاز كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فإن الأخذ مضمر، والربا نقل إلى العقد. السابع: التخصيص أولى لما تقدم، مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإنه المبادلة مطلقا وخص عنه الفاسد أو نقل إلى المستجمع لشرائط الصحة. الثامن: الإضمار مثل المجاز لاستوائهما في القرينة مثل: "هذا ابني". التاسع: التخصيص خير من المجاز؛ لأن الباقي متعين والمجاز ربما لا يتعين مثل: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] فإن المراد التلفظ وخص النسيان أو الذبح. العاشر: التخصيص خير من الإضمار لما مر مثل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . تنبيه: الاشتراك خير من النسخ؛ لأنه لا يبطل والاشتراك بين علمين خير منه بين علم ومعنى، وهو خير منه بين معنيين". أقول: الخلل الحاصل في فهم مراد المتكلم يحصل من احتمالات خمسة، وهي: الاشتراك والنقل والمجاز والإضمار والتخصيص؛ لأنه إذا انتفى احتمال الاشتراك كان اللفظ موضوعا لمعنى واحد، وإذا انتفى احتمال
المجاز والإضمار كان المراد باللفظ ما وضع له، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم، هكذا قاله الإمام. ولا شك أن هذه الاحتمالات إنما تحل باليقين لا بالظن، وقد نص هو على أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين إلا بعد شروط عشرة وهي هذه الخمسة، انتفاء النسخ والتقديم والتأخير وتغيير الإعراب والتصرف والمعارض العقلي، فبطل كون الخلل منحصرا في الخمسة التي ذكرها وليس المراد بالمجاز هنا مطلق المجاز وهو المقابل للحقيقة بل المراد به مجاز خاص وهو المجاز الذي ليس بإضمار ولا تخصيص ولا نقل؛ لأن كل واحد من هذه الثلاثة مجاز أيضا؛ ولهذا اقتصر بعض المحققين على ذكر التعارض بين الاشتراك والمجاز. وإنما أفرد هذه الثلاثة لكثرة وقوعها أو لقوتها حتى اختلف في بعضها أو هو التخصيص هل هو سالب الإطلاق الحقيقي أم لا؟ سيأتي. واعلم أن التعارض بين الاحتمالات الخمسة المذكورة في الكتاب يقع على عشرة أوجه، وضابطه أن يؤخذ كل واحد مع ما بعده فالاشتراك يعارض الأربعة الباقية، والنقل يعارض الثلاثة الباقية، وأما معارضته للاشتراك والنقل تقدمت، فهذه سبعة أوجه، المجاز يعارض الإضمار والتخصيص ومعارضته للاشتراك والنقل تقدمت فهذه تسعة، والإضمار يعارض التخصيص ومعارضته للثلاثة المتقدمة تقدمت فهذه عشرة أوجه، ولم يتعرض الإمام وأتباعه لمثلها وقد تعرض المصنف لذلك. وإذا أردت معرفة الأولى من هذه الخمسة عند التعارض من غير تكلف البتة فاعلم أي كل واحد منها مرجوح بالنسبة إلى كل ما بعده، راجح على ما قبله إلا الإضمار والمجاز فهما سيان، فإذا استحضرت هذه الخمسة كما رتبها المصنف أتيت بالجواب سريعا، وهي دقيقة غفلوا عنها؛ الأول: النقل أولى من الاشتراك؛ لأن المنقول مدلوله مفرد في الحالين، أي: قبل النقل وبعده، أما قبل النقل فإن مدلوله المنقول عنه وهو المعنى اللغوي، وأما بعده فالمنقول إليه وهو الشرعي أو العرفي. وإذا كان مدلوله مفردا فلا يمتنع العمل به بخلاف المشترك، فإن مدلوله متعدد في الوقت الواحد فيكون مجملا لا يعمل به إلا بقرينة عند من لا يحمله على المجموع، مثاله لفظ الزكاة يحتمل أن يكون مشتركا بين النماء وبين القدر المخرج من النصاب، وأن يكون موضوعا للنماء فقط، ثم نقل إلى القدر المخرج شرعا فالنقل أولى لما قلناه. الثاني: المجاز أولى من الاشتراك لوجهين أحدهما: أن المجاز أكثر من الاشتراك بالاستقراء، حتى بالغ ابن جني وقال: أكثر اللغات مجاز، والكثرة تفيد الظن في محل الشك. الثاني: أن فيه إعمالا للفظ دائما؛ لأنه إن كان معه قرينة تدل على إرادة المجاز أعملناه فيه، وإلا أعملناه في الحقيقة بخلاف المشترك، فإنه لا بد في إعماله من القرينة مثاله النكاح يحتمل أن يكون مشتركا بين العقد والوطء، وأن يكون حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر، فيكون المجاز أولى لما قلناه. الثالث: الإضمار أولى من الاشتراك؛ لأنه لا يحتاج إلى القرينة إلا في
صورة واحدة وهي حيث لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره، فحينئذ لا بد من قرينة تعين المراد. وأما إذا أجري على ظاهره فلا يحتاج إلى قرينة بخلاف المشترك فإنه مفتقر إلى القرينة في جميع صوره، مثاله قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فيحتمل أن يكون لفظ القرية مشتركا بين الأهل والأبنية، وأن يكون حقيقة في الأبنية فقط ولكن أضمر الأهل والإضمار أولى لما قلناه. الرابع: التخصيص أولى من الاشتراك؛ لأن التخصيص خير من المجاز كما سيأتي، والمجاز خير من الاشتراك كما تقدم، والخبر من الخبر خير، مثاله استدلال الحنفي عن أنه لا يحل له نكاح امرأة زنى بها أبوه بقوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} {النساء: 23] بناء على أن المراد بالنكاح هنا هو الوطء، فيقول الشافعي: يلزمك الاشتراك لأنه قد تقرر أن النكاح حقيقة في العقد كما في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فينبغي حمله هنا عليه فرارا من ذلك، فيقول الشافعي: وأنت أيضا يلزمك التخصيص؛ لأن العقد الفاسد لا يقتضي التحريم فيقول الشافعي: التخصيص أولى؛ لما قلناه. الخامس: المجاز أولى من النقل يستلزم نسخ المعنى الأول بخلاف المجاز، مثاله الصلاة، فإن المعتزلة يدعون نقلها من الدعاء إلى الأفعال الخاصة، والإمام وأتباعه يقولون: إن استعمالها فيها بطريق المجاز فيكون المجاز أولى لما قلناه. السادس: الإضمار أولى من النقل؛ لأن الإضمار والمجاز متساويان كما سيأتي والمجاز خير من النقل لما عرفت، والمساوي للخير خير، مثاله قوله تعالى:{وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فالآية لا بد فيها من تأويل لأن الربا هو الزيادة ونفس الزيادة لا توصف بحل ولا حرمة، فقالت الحنفية: التقرير أخذ الزيادة، فإذا توافقا على إسقاطها صح العقد. وقال الشافعي: الربا نقل إلى العقد المستعمل على الزيادة لقرينة قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] فيكون المنهي عنه هو نفس العقد فيفسد سواء اتفاقا على حط الزيادة أم لا. السابع: التخصيص أولى من النقل؛ لأن التخصيص خير من المجاز كما سيأتي والمجاز خير من النقل لما تقدم والخير من الخير خير، مثاله قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فإن الشافعي يقول: المراد بالبيع هو البيع اللغوي وهو مبادلة الشيء بالشيء مطلقا، ولكن الآية خصت بأشياء ورد النهي عنها، فعلى هذا يجوز بيع ابن الآدميات مثلا ما لم يثبت تخصيص، ويقول الحنفي: نقل الشارع لفظ البيع من مدلوله اللغوي إلى المستجمع لشرائط الصحة، فليس باقيا على عمومه حتى يستدل به على كل مبادلة فيقول له الشافعي: التخصيص أولى وهذه الآية للشافعي فيها خمسة أقوال، وهذان الاحتمالان قولان من جملتها. الثامن: الإضمار مثل المجاز أي: فيكون اللفظ مجملا حتى لا يترجح أحدهما إلا بدليل لاستوائهما في الاحتياج إلى القرينة وفي احتمال خفائها؛ وذلك لأن كلا منها يحتاج إلى قرينة تمنع المخاطب عن فهم الظاهر. وكما يحتمل وقوع الخفاء في تعيين المضمر يحتمل وقوعه في تعيين المجاز، فاستويا هذا ما جزم
به الإمام في المحصول والمنتخب، وجزم في المعالم بأن المجاز أولى لكثرته لكنه ذكر بعد ذلك في تعليل المسألة العاشرة أنهما سيان، مثاله: إذا قال السيد لعبده الأصغر منه سنا: هذا ابني، فيحتمل أن يكون قد عبر بالبنوة عن العتق فيحكم بعتقه، ويحتمل أن يكون فيه إضمار تقديره مثل هذا ابني أي: في الحنو أو في غيره فلا يعتق. والمسألة فيها خلاف في مذهبنا، والمختار أنه لا يعتق بمجرد هذا اللفظ. التاسع: التخصيص خير من المجاز؛ لأن الباقي بعد التخصيص يتعين لأن العام يدل على جميع الأفراد، فإذا خرج البعض بدليل بقيت دلالته على الباقي من غير تأمل. وأما المجاز فربما لا يتعين لأن اللفظ وضع ليدل على المعنى الحقيقي، فإذا انتفى بقرينة اقتضى صرف اللفظ إلى المجاز إلى نوع تأمل واستدلال لاحتمال تعدد المجازات، مثاله استدلال أبي حنيفة على أن الذابح إذا ترك التسمية عمدا لا تحل ذبيحته بقوله تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] أي: لا تأكلوا مما لا يتلفظ عليه اسم الله تعالى، فيلزمه التخصيص لأنه يسلم أن الناس تحل ذبيحته فيقول الشافعي: المراد بذكر الله تعالى هو الذبح مجازا عن الذبح غالبا تقارنه التسمية فيكون نهيا عن أكل غير المذبوح، أو يقول: هو مجاز عن ذبح عبدة الأوثان، وما أحل لغير الله لملازمته ترك التسمية. والعاشر: التخصيص خير من الإضمار؛ لأنه قد مر أن التخصيص خير من المجاز، وأن المجاز والإضمار متساويان والخير من المساوي خير، مثاله قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فقال بعضهم: الخطاب مع الورثة؛ لأنهم إذا اقتضوا فقد سلموا وحيوا بدفع شر هذا القاتل الذي صار عدوا لهم بالقتل، وقال بعضهم: الخطاب للقائلين؛ لأن الجاني إذا اقتص منه فقد انمحى إثمه فيبقى حيا حياة معنوية. فعلى هذين الوجهين لا إضمار ولا تخصيص، وقال بعضهم: الخطاب للناس كلهم وحينئذ يحتمل أن يكون فيه إضمار وتقديره: ولكم في مشروعية القصاص حياة؛ لأن الشخص إذا علم أنه يقتص منه فينكث عن القتل فتحصل الحياة، وعلى هذا فلا تخصيص. ويحتمل أن لا يقدر شيء ويكون القصاص نفسه فيه الحياة، إما الحقيقة ولكن لغير الجاني للمعنى الذي قلناه وهو الانكفاف، أو المعنوية ولكن للجاني بخصوصه لأنه قد سلم من الإثم. وعلى هذا فلا إضمار فيه لكن فيه تخصيص، واعلم أن الآمدي وابن الحاجب لم يتعرضا إلا للاشتراك مع المجاز فقط، وأهملا التسعة الباقية. قوله: "تنبيه
…
إلخ" اعلم أن التخصيص الذي سبق ترجيحه على الاشتراك هو التخصيص في الأعيان. أما التخصيص في الأزمان وهو النسخ فإن الاشتراك خير منه، وحينئذ فيكون الباقي خيرا منه بطريق الأولى؛ وذلك لأن الاشتراك ليس فيه إبطال بل يقتضي التوقف إلى القرينة، والنسخ يكون مبطلا والاشتراك بين علمين خير من الاشترك بين علم ومعنى؛ لأن العلم يطلق على شخص مخصوص. قال: المراد إنما هو العلم الشخصي لا الجنسي، والمعنى يصدق على أشخاص كثيرة، فكان اختلال الفهم بجعله مشتركا بين علمين