الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: في شرائطه
قال: "الباب الثالث: في شرائطه وفيه مسائل: الأولى: أن يكون فيه قول كل على ذلك الفن، فإن قول غيرهم بلا دليل، فيكون خطأ، فلو خالف واحد لم يكن سبيل الكل. قال الخياط وابن جرير وأبو بكر الرازي: المؤمنون يصدق على الأكثر. قلنا: مجازا. قالوا: "عليكم بالسواد الأعظم" قلنا: يوجب عدم الالتفات إلى مخالفة الثلث". أقول: عقد المصنف هذا الباب لبيان ما يكون شرطا في الإجماع، وما لا يكون شرطا فيه مما يظن أنه شرط، وذكر فيه خمس مسائل، الأولى: أن الإجماع في كل فن من الفنون يشترط أن يكون فيه قول جميع علماء ذلك الفن في ذلك العصر، فلا عبرة بقول العوام ولا بقول علماء فن في غير فنهم؛ لأن قولهم فيه يكون بلا دليل؛ لكونهم غير عالمين بأدلته. والقول بلا دليل خطأ لا يعتد به، ومنهم من اعتبر قول الأصولي في الفقه إذا كان متمكنا من الاجتهاد فيه، واختاره الإمام ومنهم من عكس، ومنهم من قال: لا بد من موافقة العوام أيضا، واختاره الآمدي. قوله:"فلو خالفه" أي: يتفرع على اشتراط قول جميع المجتهدين: إنه إذا خالف واحد فلا يكون قول غيره إجماعا ولا حجة؛ لأن أدلة الإجماع كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} لا تتناول ذلك؛ لأن قول البعض ليس هو سبيل الكل، وها هو اختيار الإمام والآمدي، وقال ابن الحاجب: إنه إذا ندر المخالف لا يكون إجماعا قطعيا. قال: لكن الظاهر أنه حجة؛ لأنه يبعد أن يكون الراجح من الأقلين وقال أبو الحسين الخياط ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر الرازي: ينعقد الإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين كما نقله عنهم الإمام، وعبر المصنف عنه بالأكثر، واستدلوا بأمرين أحدهما: أن لفظ المؤمنين الوارد في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وفي غيره من الأدلة، يصدق على أكثر المؤمنين كما يقال للبقرة: إنها سوداء وإن كانت فيها شعرات بيض، وإذا صدق على الأكثر كان قولهم حجة؛ لأنه سبيل المؤمنين، وجوابه أن لفظ المؤمنين إنما يصدق على الأكثر مجازا، فإن الجمع المعرف بال حقيقة في الاستغراق؛ ولهذا يصح أن يقال: إنهم ليسوا كل المؤمنين. الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالسواد الأعظم" 1 ووجه الدلالة أنه أمر باتباع السواد الأعظم والسواد الأعظم هم الأكثرون، فيكون قولهم حجة. وأجاب في المحصول بأن السواد الأعظم هم كل الأمة؛ لأن كل ما عدا الكل، فالكل أعظم منه، ولولا ما ذكرناه لكان نصف الأمة إذا زاد على النصف الآخر بواحد، يكون قولهم حجة وليس كذلك، وإليه أشار المصنف بقوله: مخالفة الثلث، وهو بضم الثاء أي: ثلث الأمة، ويحتمل أن تكون الثاء مفتوحة وأن يكون المراد الثلاثة التي هي اسم العدد، فإن الجماعة الذين نقل المصنف عنهم الخلاف في هذه المسألة، يسلمون أن
1 أخرجه القرطبي في تفسيره "14/ 56"، وابن أبي عاصم في السنة "1/ 39".
مخالفة الثلاثة قادحة كما اقتضاه كلام الإمام، ونقل الآمدي عن قوم أن العدد الأقل إن بلغ عدد التواتر قدح في الإجماع، وإلا فلا. قال:"الثانية: لا بد له من سند؛ لأن الفتوى بدون خطأ قيل: لو كان فهو الحجة قلنا: يكونان دليلين، قيل: صحّحوا بيع المراضاة بلا دليل، قلنا: لا، بل ترك اكتفاء بالإجماع". أقول: ذهب الجمهور إلى أن الإجماع لا بد له من شيء يستند إليه من نص أو قياس؛ لأن الفتوى بدون المستند خطأ؛ لكونه قولا في الدين بغير علم، والأمة معصومة عن الخطأ. ولقائل أن يقول: إنما يكون خطأ عند عدم الإجماع عليه، أما بعد الإجماع فلا؛ لأن الإجماع حق، وحكى الآمدي وغيره عن بعضهم أنه لا يشترط المستند، بل يجوز صدوره عند توفيق، بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب. ولما حكى الإمام هذا المذهب عبر عن التوفيق بالتبخيت تبعا لصاحب المعتمد وهو بالخاء المعجمة، وظن صاحب التحصيل أن المراد بالتبخيت هو الشبهة فصرح به وهو مردود فإنه غير مطابق للأدلة؛ ولأن الإمام قد نص في المسألة التي تلي هذه على جواز الإجماع عن الشبهة، واقتضى كلامه أن لا خلاف فيها، والمراد بالشبهة هو الدليل الظني كأخبار الآحاد والعمومات. قوله:"قيل: لو كان" أي: احتج الخصم بوجهين أحدهما: أن الإجماع لو كان له سند، لكان ذلك السند هو الحجة، وحينئذ فلا يكون للإجماع فائدة. وأجاب المصنف بأن الإجماع والسند يكونان دليلين، واجتماع الدليلين على الحكم جائز ومفيد، وأجاب ابن الحاجب أيضا بأن فائدته سقوط البحث عن الدليل، وحرمة المخالفة الجائزة قبل انعقاد الإجماع لكونه مقطوعا به، وبأن ما ذكروه يقتضي أن لا يجوز انعقاده عن دليل ولا قائل به. الوجه الثاني: أنه لو توقف الإجماع على السند لم يقع بدونه، لكنه قد وقع فإنهم أجمعوا على صحة بيع المراضاة بلا دليل، وجوابه: أنا لا نسلم أنهم أجمعوا عليه من غير دليل، فإن غاية ذلك أنهم لم ينقلوه اكتفاء بالإجماع فإنه أقوى، وعدم نقل الدليل لا يدل على عدمه. واعلم أن دعوى الإجماع على بيع المراضاة، ذكره أبو الحسين في المعتمد فقلده فيه الإمام ومن تبعه، فإن أرادوا به المعاطاة وهو الذي فسره به القرافي فهو باطل عند الشافعي، وإن أرادوا غيره فلا بد من بيانه وبيان انعقاد الإجماع فيه من غير سند. قال:"فرعان: الأول: يجوز الإجماع عن الأمارة؛ لأنها مبدأ الحكم قبل الإجماع على جواز مخالفتها، قلنا: قبل الإجماع، قيل: اختلف فيها قلنا: منقوض بالعموم، وخبر الواحد. الثاني: الموافق لحديث لا يجب أن يكون معه خلافا لأبي عبد الله البصري؛ لجواز اجتماع دليلين". أقول: إذا فرعنا على أن الإجماع لا بد له من سند فذلك السند يجوز أن يكون نصا، ويجوز أن يكون ظاهرا، وهل يجوز أن يكون أمارة يعني قياسا؟ فيه مذاهب حكاها الإمام، أصحها عنده وعند الآمدي وأتباعهما كابن الحاجب: أنه جائز وواقع واستدل عليه الآمدي وابن الحاجب بإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه، وعلى إراقة الشيرج ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة، قياسا على السمن، وعلى
إمامة أبي بكر قياسا على تقديمه في الصلاة. والثاني: أنه جائز ولكنه غير واقع. والثالث: إن كان القياس جليا جاز وإلا فلا. والرابع: ممتنع مطلقا، واقتصر المصنف على ذكر الخلاف في الجواز واختاره أنه يجوز مطلقا، واستدل عليه بأن الأمارة مبدأ الحكم الشرعي، أي: طريق إليه فجاز أن تكون سندا للإجماع بالقياس على الدليل، واستدل المانعون بوجهين أحدهما: أن الإجماع منعقد على أنه يجوز للمجتهد مخالفة الأمارة، فلو صدر الإجماع عنها لكان يلزم جواز مخالفته؛ لأن مخالفة الأصل تقتضي مخالفة الفرع، لكن مخالفة الإجماع ممتنعة اتفاقا كما مر. وأجاب المصنف بأنه إنما يجوز مخالفة الأمارة قبل الإجماع على حكمها، وأما إذا اقترن بها الإجماع فلا لاعتضادها به. الثاني: أن العلماء مختلفون في الاحتجاج بالقياس، وذلك مانع من انعقاد الإجماع عنها؛ لأن من لا يعتقد حجيتها من المجتهدين لا يوافق القائل بحجيتها، وجوابه أن ذلك منقوض بالعموم وخبر الواحد، فإن الخلاف قد وقع في حجيتها كما تقدم في موضعه مع جواز صدور الإجماع عن كل منهما اتفاقا. الفرع الثاني: الإجماع الموافق لمقتضى حديث لا يجب أن يكون صادرا عنه؛ لأنه يجوز اجتماع دليلين على المدلول الواحد. وحينئذ فيجوز أن يكون سند الإجماع دليلا غير ذلك الحديث. وقال أبو عبد الله البصري: يجب استناده إليه، ونقله ابن برهان في الأوسط عن الشافعي؛ لأنه لا بد له من سند كما تقدم، وقد تيقنا صلاحية هذا له، والأصل عدم غيره. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في ملخصه: إن كان الخبر متواترا، فلا خلاف في وجوب استناده إليه، وإن كان الآحاد، فإن علمنا ظهور الخبر بينهم وأنهم عملوا بموجبه لأجله فلا كلام، وإن علمنا ظهوره بينهم وأنهم عملوا بموجبه ولكن لم نعلم أنهم عملوا لأجله، ففيه ثلاثة مذاهب ثالثها: إن كان على خلاف القياس فهو مستندهم وإلا فلا، وإن لم يكن ظاهرا بينهم لكن عملوا بما يتضمنه فلا يدل على أنهم عملوا من أجله، وهل يكون إجماعهم على موجبه دليلا على صحته؟ فيه خلاف، منهم من قال: لا يدل كما أن حكم الحاكم لا يدل على صدق الشهود، والصحيح دلالته عليه لأن السمع دل على عصمتهم، بخلاف الشهود. قال:"الثالثة: لا يشترط انقراض المجتمعين؛ لأن الدليل قام بدونه قيل: وافق علي الصحابة رضي الله عنهم في منع بيع أم الولد ثم رجع، ورد بالمنع. الرابعة: لا يشترط التواتر في نقله كالسنة. الخامسة: إذا عارضه نص، أول القابل له وإلا تساقطا". أقول: هل يشترط في انعقاد الإجماع موت المجتمعين أم لا؟ اختلفوا فيه فقال الإمام وأتباعه وابن الحاجب: لا يشترط وقال الإمام أحمد وابن فورك: يشترط، وفصل الآمدي بين الإجماع السكوتي وغيره على ما تقدم إيضاحه هناك. وقال إمام الحرمين: إن قطعوا بالحكم فلا اشتراط، وإن لم يقطعوا به بل أسندوه إلى الظن فلا بد من تطاول الزمان، سواء ماتوا أم لا. واستدل المصنف على عدم الاشتراط بأن الدليل الدال على كون الإجماع حجة ليس فيه تعرض للتقييد بانقراضهم فيبقى على إطلاقهم،
إذ الأصل عدم التقييد، واستدل الخصم بأنه لو لم يشترط لم يصح رجوع بعضهم لاستلزام الرجوع مخالفة الإجماع، لكن الرجوع ثابت فإن عليا وافق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين- في منع بيع المستولدة، ثم رجع عنه، فإن قال: كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن، وقد رأيت الآن بيعهن فقال عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك، وأجاب المصنف بالمنع أي: لا نسلم ثبوت الرجوع، أو معناه: لا نسلم ثبوت الإجماع قبل الرجوع، وهو الذي ذكره في المحصول. قال: لأن كلام علي وعبيدة إنما يدل على اتفاق جماعة لا على أنه قول كل الأمة، ويؤيده أن جماعة من الصحابة قالوا بالجواز أيضا، كما بيناه في اتفاق العصر الأول. المسألة الرابعة: ذهب الإمام والآمدي وأتباعهما كابن الحاجب إلى أن الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة؛ لأن الإجماع دليل يجب العمل به فلا يشترط التواتر في نقله قياسا على السنة، وذهب الأكثرون كما قال الإمام إلى أنه ليس بحجة. قال الآمدي: والخلاف على أن دليل أصل الإجماع، هل هو مقطوع به أو مظنون؟ المسألة الخامسة: إذا عارض الإجماع نص من الكتاب أو السنة، فإن كان أحدهما قابلا للتأويل بوجه ما أول القابل له سواء كان هو الإجماع أو النص جمعا بين الدليلين، وإن لم يكن أحدهما قابلا للتأويل تساقطا؛ لأن العمل بهما غير ممكن والعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح، وهذا كله إذا كانا ظنين. فإنا كانا قطعيين أو كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، فلا تعارض كما ستعرفه في القياس. "فروع" حكاها في المحصول أحدها: إذ استدل أهل العصر بدليل أو ذكروا للحديث تأويلا فذكر أهل العصر الثاني دليلا آخر أو تأويلا آخر من غير قدح في الأول جاز على الصحيح، ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين لأن الناس لم يزالوا على ذلك في كل عصر من غير إنكار، فكان ذلك إجماعا وقيل: لا؛ لأن الدليل الثاني والتأويل الثاني غير سبيل المؤمنين. الثاني: إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة خلافا لبعضهم؛ لأن الصحابة رجعوا إليهم في وقائع كثيرة، فدل على اعتبار قولهم معهم. قال ابن الحاجب: فإن نشأ التابعي بعد إجماعهم، ففي اعتبار موافقته خلاف مبني على انقراض العصر. "الثالث: المبتدع" إن كفرناه فلا عتبار بقوله، لكن لا يجوز التمسك باجتماعنا على كفره في تلك المسائل؛ لأنه إنما ثبت خروجهم عن الإجماع بعد ثبوت كفرهم، فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا للزم الدور، وإن لم نكفره اعتبرنا قوله؛ لأنه من المؤمنين. وحكى ابن الحاجب قولا ثانيا أنه لا يعتبر لفسقه، وثالثا: أن قوله معتبر في حق نفسه لا في حق غيره، بمعنى أنه يجوز له مخالفا الإجماع المنعقد دونه، ولا يجوز لغيره ذلك. الرابع: ارتداد الأمة ممتنع للأدلة على عصمتهم. وقال قوم: لا يمتنع؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك لم يكونوا مؤمنين، فلا يكون سبيلهم سبيل المؤمنين. وأجاب ابن الحاجب بأنه يصدق أن الأمة ارتدت. الخامس: جاحد الحكم المجمع عليه لا يكفر خلافا
لبعض الفقهاء، وقال ابن الحاجب: إن إنكار الإجماع الظني ليس بكفر، وفي القطعي ثلاثة مذاهب، المختار إن كان مشهورا للعوام كالعبادات الخمس كفر، وإلا فلا. السادس: الأكثرون أنه لا يجوز أن تنقسم الأمة على قسمين، أحد القسمين مخطئون في مسألة، والقسم الآخر مخطئون في مسألة أخرى؛ لأن خطأهم في مسألتين لا يخرجهم عن أن يكونوا اتفقوا على الخطأ. السابع: يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به؛ لأنه لا محذور فيه، وحجة المخالف أنه لو جاز ذلك لكان عدم العلم به هو سبيل المؤمنين، وحينئذ فيحرم تحصيل العلم به. والفرعان الأخيران لم يذكرهما ابن الحاجب، إلا أنه ذكر فرعا قريبا من الآخير فقال: اختلفوا في جواز عدم علم الأمة بخبر أو دليل راجح، إذا عمل على وفقه. وغير الآمدي بعبارة أخرى فقال: هل يمكن وجود خبر أو دليل لا معارض له، وتشترك الأمة في عدم العلم به؟ اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مصيرا منه إلى أنهم غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر ولم يبلغهم، فاشتراكهم في عدم العلم به لا يكون خطأ؛ لأن عدم العلم ليس فعلهم، وخطأ مكلف من أوصاف فعله، ومنهم من أحاله؛ لأنه يلزم منه امتناع تحصيل العلم به.