الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يستدل عليه بالإجماع، سواء كان عقليا أو شرعيا أو لغويا أو دنيويا، وفي العقلي والدنيوي خلاف، وكل شيء يتوقف العلم بكون الإجماع حجة على العلم به لا يصح أن يستدل عليه بالإجماع، فعلى هذا يستدل بالإجماع على حدوث العالم، وعلى كون الصانع سبحانه وتعالى واحدا؛ لأن العلم بكون الإجماع حجة لا يتوقف على العلم بهما؛ وذلك لأنا قبل العلم بهما يمكننا أن نعلم أن الإجماع حجة، بأن نعلم إثبات الصانع بإمكان العالم، وبحدوث الأعراض، ثم نعلم بإثبات الصانع صحة النبوة، ثم نعلم بصحة النبوة كون الإجماع حجة، ثم نعلم بالإجماع حدوث العالم ووحدة الصانع. قوله:"لا كإثباته" أي: لا يستدل بالإجماع على إثبات الصانع ولا على كونه متكلما ولا على إثبات النبوة، فإن العلم بكون الإجماع حجة مستفاد من الكتب والسنة، وصحة الاستدلال بهما موقوفة على وجود الصانع وعلى كونه متكلما وعلى النبوة، فلو أثبتنا هذه الأشياء بالإجماع لزم الدور؛ لأن ثبوت المدلول متوقف على ثبوت الدليل، ولقائل أن يقول: ثبوت الإجماع متوقف على العلم بوحدة الصانع بخلاف ما ذكره المصنف؛ لأن كون الإجماع حجة متوقف على وجوه المجمعين الذين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يصير الشخص منهم إلا بعد اعترافه بالشهادتين، وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع: إنه لا يعتد بالإجماع في حدوث العالم أيضا.
الباب الثاني: في أنواع الإجماع
قال: "الباب الثاني: في أنواع الإجماع وفيه مسائل: الأولى: إذا اختلفوا على قولين فهل لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ والحق أن الثالث إن لم يرفع مجمعا عليه جاز وإلا فلا، مثاله ما قيل في الجد مع الأخ: الميراث للجد وقيل: لهما فلا سبيل إلى حرمانه قيل: اتفقوا على عدم الثالث. قلنا: كان مشروطا بقدمه فزال بزواله قيل: وارد على الوجداني قلنا: لم يعتبر فيه إجماعا قبل إظهاره يستلزم تخطئة الأولين. وأجيب بأن المحذور هو التخطئة في واحد وفيه نظر". أقول: إذا تكلم المجتهدون جميعهم في مسألة واختلفوا فيها على قولين فهل لمن يأتي بعدهم من المجتهدين إحداث قول ثالث في تلك المسألة؟ فيه ثلاثة مذاهب كما أشار إليه المصنف، فالأكثرون على ما قاله الإمام، والآمدي منعه مطلقا، وجزم به في المعالم وأهل الظاهر جوزوه مطلقا، والحق عند الإمام وأتباعه، واختاره الآمدي وابن الحاجب أن الثالث إن لم يرفع شيئا مما أجمع عليه القائلان الأولان، وجاز "أحدثه" لأنه لا محذور فيه وإن رفعه، فلا يجوز لامتناع مخالفة الإجماع. مثال الأول: اختلافهم في جواز أكل المذبوح بلا تسمية فقال بعضهم: يحل مطلقا سواء كان الترك عمدا أو سهوا، وقال بعضهم: لا يحل مطلقا، فالتفصيل بين العمد والسهو ليس رافعا لشيء، وأجمع عليه القائلان الأولان بل هو موافق كل قسم منه لقائل، وأما الثاني فمثل له المصنف تبعا للإمام بالجد مع الإخوة فإن الأئمة اختلفوا فيه فقال بعضهم: المال كله للجد، وقال بعضهم: المال بينهما، فقد اتفق القولان على أن للجد شيئا من المال، فالقول بحرمانه وإعطاء المال كله للأخ قول ثالث رافع لما أجمع عليه الأولان فلا
يجوز، وهذا المثال فيه نظر، فإنه قد نقل عن ابن حزم في المحلى أنه حكى قولا: أن المال كله للأخ. قوله: "قيل: اتفقوا" أي: احتج المانعون مطلقا بوجهين أحدهما: أن أهل العصر الأول قد اتفقوا على عدم القول الثالث وعلى امتناع الأخذ به، فإنهم لما اختلفوا على قولين فقد أوجب كلا من الفريقين الأخذ إما بقوله أو بقول الآخر، وتجويز القول الثالث يرفع ذلك كله فكان باطلا. وأجاب المصنف بأن ذلك الاتفاق كان مشروطا بعدم القول الثالث، فإذا ظهر ذلك القول فقد زال الإجماع بزوال شرطه. واعترض الخصم على هذا الجواب فقال: لو صح ما ذكرتم لكان الإجماع على القول الواحد ليس بحجة؛ لأنه يمكن أن يقال فيه أيضا: وجوب الأخذ بالقول الذي أجمعوا عليه مشروط بعدم القول الثاني، فإذا وجد القول الثاني فقد زال ذلك الإجماع بزوال شرطه. وأجاب المصنف بأن هذا الاشتراط وإن كان ممكنا أيضا في الإجماع الوجداني أي: الإجماع على القول الواحد، لكنهم أجمعوا على عدم اعتباره فيه، فليس لنا أن نتحكم عليه بوجوب التسوية بين الإجماع الوجداني والإجماع على القولين. وهذا الجواب ذكره الإمام وأتباعه، واعترض عليه صاحب التلخيص بأن الاستدلال بإجماعهم على عدم اعتبار هذا الشرط إنما يعتبر بعد اعتبار الإجماع، فلو اعتبرنا الإجماع به للزم الدور. قوله: "قيل: إظهاره
…
إلخ" هذا هو الاعتراض الثاني، وتقريره أن إظهار القول الثالث إنما يجوز إذا كان حقا؛ لأن الباطل لا يجوز القول به، والقول بكونه حقا يستلزم تخطئة الفريقين الأولين وتخطئتهما تخطئة لجميع الأمة وهو غير جائز. وأجاب المصنف بأن المحذور إنما هو تخطئتهم فيما أجمعوا فيه على قول واحد، وأما فيما اختلفوا فيه فلا؛ لأن غاية ذلك تخطئة بعضهم في أمر وتخطئة البعض الآخر في غير ذلك الأمر. قال المصنف: وفيه نظر، ولم ينبه على وجه النظر، وتوجيهه أن الأدلة المقتضية لعصمة الأمم عن الخطأ شاملة للصورتين والتخصيص لا دليل عليه، وهذا الجواب لم يذكره الإمام ولا مختصرو كلامه، بل أجابوا بأنا لا نسلم أن إظهار القول الثالث يستلزم تخطئة الفريقين الأولين، بناء على أن كل مجتهد مصيب، سلمنا أن المصيب واحد، لكن التمكن من إظهار الثالث لا يستلزم كونه حقا؛ لأنه يجوز للمجتهد أن يعمل بما ظنه حقا، وإن كان خطأ في نفس الأمر. وهذا الجواب فيه نظر؛ لإمكان جريانه في الإجماع الوجداني، وصورة هذه المسألة أن يتكلم المجتهدون جميعهم في المسألة، ويختلفوا فيها على قولين كما أشرنا إليه أولا، وصرح به الغزالي في المستصفى، وأما مجرد نقل القولين عن عصر من الأعصار فإنه لا يكون مانعا من إحداث الثالث؛ لأنا لا نعلم هل تكلم الجميع فيها أم لا؟ فافهمه ينحلّ به إشكالات أوردت على الشافعي في مسائل. قال: "الثانية: إذا لم يفصلوا بين مسألتين فهل لمن بعدهم الفصل؟ والحق: إن نصوا بعدم الفرق، أو اتحد الجامع كتوريث العمة والخالة، لم يجز لأنه رفع، فجمع عليه، وإلا جاز، وإلا يجب
على من ساعد مجتهدا في حكم مساعدته في جميع الأحكام. قيل: أجمعوا على الاتحاد قلنا: عين الدعوى. قيل: قال الثوري: الجماع ناسيا يفطر والأكل لا. قلنا: ليس بدليل". أقول: إذا لم يفصل المجتهدون بين مسألتين بل أجاب بعضهم فيها بالنفي وبعضهم بالإثبات، فهل لمن يأتي بعدهم من المجتهدين الفصل؟ فيه تفصيل سنذكره، وهذه المسألة قريبة في المعنى من التي قبلها، فإن التفصيل بينهما بعد إطلاق الفريقين إحداث لقول ثالث فيهما، ولأجل ذلك لم يفردها الآمدي ولا ابن الحاجب بل جعلاهما مسألة واحدة، وحكما عليها بالحكم السابق، ولكن الفرق بينهما أن هذه المسألة مفروضة فيما إذا كان محل الحكم متعددا، وأما تلك ففيما إذا كان متحدا. وحاصل التفصيل الذي في هذه المسألة أنهم إن نصوا على أنه لا فرق بين المسألتين فلا يجوز الفصل، وإليه أشار بقوله: إن نصوا بعدم الفرق وعداه بالباء لتضمنه معنى: صرحوا، وهذا القسم لا نزاع فيه؛ ولهذا جزم به الإمام في المحصول، وقال في الحاصل: إنه لا سبيل إلى الخلاف فيه، وكلام الكتاب والمنتخب يقتضي إجراء الخلاف فيه، والقول به غير ممكن. وأما إذا لم ينصوا على عدم الفرق، ففيه ثلاثة مذاهب أشار إليها المصنف، أحدها: الجواز مطلقا، والثاني: المنع مطلقا، والثالث وهو المرجح في المنتخب والحاصل واختاره المصنف: أنه إن اتحد الجامع بين المسألتين فلا يجوز، كتوريث العمة والخالة فإن علة توريثهما أو عدم توريثهما كونهما من ذوي الأرحام، وكل من ورث واحدة أو منعها قال في الأخرى كذلك، فصار ذلك بمثابة قولهم: لا تفصلوا بينهما، وإن لم يتحد الجامع بينهما فيجوز كما إذا قال بعضهم: لا زكاة في مال الصبي ولا في الحلي المباح، وقال بعضهم بالوجوب فيهما فيجوز الفصل، واستدل المصنف عليه بقوله: وإلا وجب، أي: لو لم يجز الفصل لكان كل من ساعد مجتهدا في حكم أي: وافقه عليه، يجب عليه أن يساعده في جميع الأحكام وهو باطل اتفاقا، ووجه الملازمة أن امتناع التفصيل يقتضي موجبا، لا موجب سوى موافقة بعض المجتهدين في حكم إحدى المسألتين، واستدل المانعون مطلقا بأن فتوى بعضهم بالتحليل فيهما وبعضهم بالتحريم فيهما، إجماع على اتحاد الحكم فلا يجوز خلافه، وأجاب المصنف بقوله: قلنا: عين الدعوى أي: لا نسلم أن عدم التفصيل إجماع على اتحاد الحكم، فإنه عين النزاع بل نتبرع ونقول: لا يدل عليه؛ لأن عدم القول بالتفصيل غير القول بعدم التفصيل، أو معناه أنه لا محذور في مخالفة هذا الإجماع، فإن الواقع منهم ليس هو التنصيص على الاتحاد بل الاتحاد في فتواهم، ونحن لا نسلم أنه يمنع من الفصل، فإن ذلك أوان المسألة، وهذا الثاني هو جواب المحصول ولم يجب عنه في المنتخب بشيء، واحتج المجوزون مطلقا بأن الناس اختلفوا في تعاطي المفطرات نسيانا، ثم إن الثوري فصل بينهما مع اتحادهما في العلة، فقال: الجماع ناسيا يفطر بخلاف الأكل ناسيا، وأجاب المصنف بأن مذهب
الثوري1 ليس بحجة حتى يجوز التمسك به، بل يجوز أن يكون هو من المخالفين في هذه المسألة، ولم يجب الإمام ولا أتباعه عن هذا وكأنهم تركوه لوضوحه. قال:"الثالثة: يجوز الاتفاق بعد الاختلاف خلافا للصيرفي. لنا الإجماع على الخلافة بعد الاختلاف، وله ما سبق. الرابعة: الاتفاق على أحد قولي الأولين، كالاتفاق على حرمة بيع أم الولد، والمتعة إجماع خلافا لبعض الفقهاء والمتكلمين، لنا أنه سبيل المؤمنين، قيل: فإن تنازعتم أوجب الرد إلى الله تعالى قلنا: زال الشرط قيل: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" 2 قلنا: الخطاب مع العوام الذين في عصره، قيل: اختلافهم إجماع على التخيير، قلنا: ممنوع". أقول: هل يجوز اتفاق أهل العصر على الحكم بعد اختلافهم فيه، ينبني على أن انقراض العصر أي: موت المجمعين هل هو شرط في اعتبار الاجماع؟ فيه خلاف يأتي؛ فإن قلنا باعتبار موتهم فلا إشكال في جواز اتفاقهم بعد الاختلاف. وإن قلنا: إن موتهم لا يعتبر ففي جواز اتفاقهم مذاهب، أحدها: أنه ممتنع ونقله في البرهان عن القاضي ونقله المصنف تبعا للإمام عن الصيرفي. والثاني: يجوز، واختاره الإمام وأتباعه وابن الحاجب. والثالث: إن لم يستقر الخلاف جاز وإلا فلا، وهذا التفصيل هو مختار إمام الحرمين، فإنه قال بعد حكاية القولين الأولين: والرأي الحق عندنا كذا وكذا، واختاره أيضا الآمدي، وإذا قلنا بالجواز ففي الاحتجاج به مذهبان، اختار ابن الحاجب أنه يحتج به ونقله في البرهان عن معظم الأصوليين، واستدلال المصنف يقتضيه. "قولنا" أي: الدليل على الجواز إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر بعد اختلافهم فيها، ولك أن تقول: لا نسلم أن هذا الإجماع كان بعد استقرار الخلافة، وحينئذ فلا يطابق الدعوى؛ لأنهم أعم، سلمنا لكن الخلافة لا تتوقف على الإجماع، بل يجب الانتباه إليها بمجرد البيعة. قوله: "وله ما سبق" أي: وللصيرفي من الأدلة ما سبق في المسألة الأولى، وهو أن اختلاف الأمة على قولين إجماع على جواز الأخذ بكل منهما اجتهادا وتقليدا. فلو جاز الاتفاق بعد ذلك لكان يجب الأخذ بالقول الذي اتفقوا عليه، ويلزم من ذلك رفع الإجماع بالإجماع وهو باطل، وجوابه ما تقدم أيضا، وهو أن الإجماع على التغيير مشروط بعدم الاتفاق، فإذا اتفقوا فيزول بزوال شرطه. المسألة الرابعة: إذا اختلف أهل العصر على قولين ثم حدث بعدهم مجتهدون آخرون، فقال الإمام أحمد والأشعري وغيرهما: يستحيل اتفاقهم على أحد
1 الثوري: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، من مضر، أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث، كان سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى، ولد ونشأ في الكوفة، وراوده المنصور العباسي على أن يلي الحكم فأبى وخرج من الكوفة سنة "144هـ" فسكن مكة والمدينة، وله من الكتب: الجامع الكبير والجامع الصغير في الحديث، وكتاب في الفرائض، ومن كلامه: ما حفظت شيئا فنسيته، توفي سنة "161هـ"، "الأعلام 3/ 104".
2 أخرجه ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 190"، وأخرجه أيضا في لسان الميزان "2/ 488"، والعجلوني في كشف الخفاء "1/ 147".
قولين، واختاره الآمدي. والصحيح عند الإمام وابن الحاجب وغيرهما إمكانه، ومثل له المصنف تبعا لابن الحاجب باتفاق العلماء على تحريم بيع أم الولد، مع أن عليا وابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن الزبير وابن عباس في رواية عنه وعمر بن عبد العزيز، كانوا يقولون بالجواز، وباتفاقهم أيضا على تحريم المتعة، يعني: تحريم نكاح المرأة إلى مدة، مع أن ابن عباس كان يفتي بالجواز، وفي المثالين نظر. وأما الأول فقال الآمدي: لا نسلم حصول الإجماع فيه؛ لأن الشيعة يقولون بالجواز، وأما الثاني فنقل الماوردي وغيره أن ابن عباس رجع فأفتى بالتحريم، فعلى هذا لا يكون مطابقا لهذه المسألة بل يكون مثالا للمسألة السابقة، وإذا قلنا بجواز الاتفاق بعد الاختلاف، فقال الإمام وأتباعه: يكون إجماعا محتجا به، واستدل عليه المصنف بأنه سبيل المؤمنين فيجب اتباعه لقوله تعالى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الآية وقال بعض المتكلمين وبعض الفقهاء: لا أثر لهذا الإجماع، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه كما قال الغزالي في المنخول وابن برهان في الأوسط، وقال في البرهان: إن ميل الشافعي إليه قال: ومن عباراته الرشيقة في ذلك قوله: إنها المذاهب لا تموت بموت أصحابها، ولم يرجع ابن الحاجب شيئا مع ترجيحه أن الاتفاق إذا صدر من المختلفين يكون حجة كما قلناه عنه في المسألة السابقة، وسببه أن تلك المسألة ليس لغير المجتمعين فيها قول يخالف المجتمعين بخلاف هذه، ومن ثمرة الخلاف في هذه المسألة تنفيذ قضاء من حكم بصحة بيع أم الولد وسقوط الحد عن الواطئ في نكاح المتعة، وأخبرني بعض من أثق به أن قاضي المدينة أخبره أن بالمدينة مكانا موقوفا على نكاح المتعة ومستحما موقوفا على الاغتسال من وطئها. قوله: "قيل
…
إلخ" أي: استدل القائلون بأنه ليس بإجماع بثلاثة أوجه الأول: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] والنزاع قد حصل، فوجب رده إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله، لا إلى الإجماع. وأجاب الإمام بوجهين أحدهما: أن الرد إلى الإجماع رد إلى الله ورسوله. الثاني: أن وجوب الرد إلى الله ورسوله مشروط بالتنازع وقد زال التنازع في العصر الثاني، فيزول وجوب الرد، واقتصر المصنف على هذا وفيه نظر، فإن الشرط إنما هو وجود التنازع، وقد وجد حصول الاتفاق بعد ذلك، ولا ينافي حصوله كما إذا قال لعبده: إن خالفتني فأنت حر، فخالفه ثم وافقه. الدليل الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" دل الحديث على حصول الاهتداء بالاقتداء بقول كل واحد منهم، سواء حصل بعد ذلك اتفاق أم لا، فلو أوجبنا الأخذ بما اتفق عليه أهل العصر الثاني للزم التقييد بحالة عدم الاتفاق، وهو خلاف الظاهر، وجوابه أن الخطاب مع العوام أي: المقلدين دون المجتهدين؛ لأن المجتهد لا يقلد المجتهد، ولأن قول الصحابي بحجة كما سيأتي، وهؤلاء العوام الذين خُوطبوا هم الموجودون في عصر الصحابة خاصة؛ لأن خطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعدهم، وحينئذٍ
فلا يكون الخطاب متناولا لخواص أهل العصر الثاني، لما قلناه أولا، ولا لعوامهم لما قلناه ثانيا. وإذا لم يكونوا مخاطبين به لم تبق فيه دلالة على هذه المسألة؛ لأن الكلام في اتفاق العصر الثاني، وفي الجواب نظر؛ لأن خطاب المشافهة يعم بأدلة خارجية وإلا لم يكونوا مأمورين الآن وهو باطل. وأيضا فالمسألة باقية بحالها في العوام المخاطبين. وذلك فيما إذا بلغوا رتبة الاجتهاد واتفقوا بعد انقراض أولئك، ولأجل ما قلناه لم يذكر الإمام ولا صاحب الحاصل هذا الجواب، بل أجابا بتخصيص الحديث. الثالث: أن اختلاف أهل العصر الأول على قولين مثلا إجماع منهم على التخيير، أي: جواز الأخذ بكل منها، فلو كان الاتفاق على أحدهما إجماعا مانعا من الأخذ بخلافه للزم تعارض الإجماعين. وأجاب المصنف بقوله: قلنا: ممنوع أي لا نسلم أن اختلافهم إجماع على التغيير، فإن كل واحد من الفريقين يعتقد خطأ الآخر، أو معناه: لا نسلم أن هذا الإجماع الذي على التخيير يعارضه الإجماع الآخر، وإنما يلزم ذلك أن لو لم يكن الإجماع الأول مشروطا بعدم الإجماع الثاني وليس كذلك بل هو مشروط بعدمه. فإذا وجد زال الأول لزوال شرطه، وهذا الجواب هو المذكور في المحصول والحاصل، وقد وقع التصريح به في بعض النسخ فقال: قلنا: زال بزوال شرطه. قال: "الخامسة: إذا اختلفوا فماتت إحدى الطائفتين يصير قول الباقين حجة؛ لكونه قول كل الأمة. السادسة: إذا قال البعض وسكت الباقون، فليس بإجماع ولا حجة. وقال أبو علي: إجماع بعضهم، وقال ابنه: هو حجة. لنا أنه ربما سكت لتوقف أو خوف أو تصويب كل مجتهد قيل: يتمسك بالقول المنتشر ما لم يعرف له مخالف، وجوابه المنع وأنه إثبات الشيء بنفسه. فرع: قول البعض فيما تعم به البلوى، ولم يسمع خلافه، كقول البعض وسكوت الباقين". أقول: إذا اختلف أهل العصر على قولين ثم ماتت إحدى الطائفتين أو ارتدّت كما قاله في المحصول1، فإنه يصير قول الباقين حجة لكونه قول كل الأمة، وهذا هو الذي جزم به الإمام وأتباعه، وصرحوا بكونه إجماعا أيضا، وهو يؤخذ من تعليل المصنف. وذكر ابن الحاجب هذه المسألة في أثناء اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول، وحكى عن الأكثرين أنه لا يكون إجماعا، وذكر الآمدي نحوه أيضا. المسألة السادسة: إذا قال بعض المجتهدين قولا وعرف به الباقون، فسكتوا عنه ولم ينكروا عليه، ففيه مذاهب أصحها عند الإمام: أنه لا يكون إجماعا ولا حجة لما سيأتي، ثم قال هو والآمدي: إنه مذهب الشافعي، وقال في البرهان: إنه ظاهر مذهب الشافعي، وقال الغزالي في المنخول: نص عليه الشافعي في الحديث، والثاني وهو مذهب أبي علي الجبائي: أنه إجماع بعد انقراض عصرهم؛ لأن استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف الاحتمال. والثالث: قال أبو هاشم بن أبي علي: إنه
1 انظر المحصول، ص91، جـ2.
ليس بإجماع، لكنه حجة، وحكى في المحصول عن ابن أبي هريرة أنه إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة ولا فتعم. وحكى الآمدي عن الإمام أحمد وأكثر الحنفية أنه إجماع وحجة، واختار الآمدي أنه إجماع ظني يحتج به، وهو قريب من مذهب أبي هاشم، ووافقه ابن الحاجب في المختصر الكبير، وأما في المختصر الصغير فإنه جعل اختياره محصورا في أحد المذهبين، وهما القول بكونه إجماعا، والقول بكونه حجة، والذي ذكره الآمدي هنا محله قبل انقراض العصر، وأما بعد انقراضه فإنه يكون إجماعا على ما نبه عليه في مسألة انقراض العصر. واعلم أن الشافعي قد استدل على إثبات القياس وخبر الواحد بأن بعض الصحابة عمل به ولم يظهر من الباقين إنكار، فكان ذلك إجماعا. قال في المعالم: وهذا يناقض ما تقدم نقله عنه، وأجاب ابن التلمساني بأن السكوت الذي تمسك به الشافعي في القياس وخبر الواحد هو السكوت المتكرر في وقائع كثيرة، وهو ينفي جميع الاحتمالات الآتية. قوله:"لنا" أي: الدليل على أنه ليس بإجماع ولا حجة، أن السكوت يحتمل أن يكون لأجل التوقف في الحكم، إما لكونه لم يجتهد فيه، أو لكونه اجتهد فلم يظهر له شيء، ويحتمل أن يكون الخوف من القائل أو المقول له كقول ابن عباس وقد أظهر مخالفة عمر في العول بعد موته وكان رجلا مهيبا فهبته، ويحتمل أن يكون سكت عن الإنكار لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ولما احتمل السكوت هذه الوجوه لم يكن فيه دلالة على الرضا، وهو معنى قول الشافعي: لا ينسب إلى ساكت قول. قوله: "قيل: يتمسك" أي: احتج أبو هاشم على كونه حجة بأن العلماء لم يزالوا يتمسكون في كل عصر بالقول المنتشر بين الصحابة إذا لم يعرفوا له مخالفا، فدل على جواز الأخذ بقول البعض وسكوت الباقين. والجواب المنع، أي: لا نسلم أنهم كانوا يتمسكون به، فإن وقع منهم شيء فلعله وقع ممن يعتقد حجيته، أي على وجه الإلزام أو على وجه الاستئناس به، وأيضا فالاستدلال به إثبات للشيء بنفسه، فإن القول المنتشر مع عدم الإنكار هو قول البعض وسكوت الباقين. قوله: "فرع
…
إلخ" اعلم أنه إذا قال بعض المجتهدين قولا ولم ينتشر ذلك القول بحيث يعلم أنه بلغ الجميع ولم يسمع من أحد ما يخالفه، فهل يكون كما إذا قال البعض وسكت الباقون عن إنكاره أم لا؟ اختلفوا فيه كما قاله في المحصول1 فمنهم من قال: يلحق به؛ لأن الظاهر وصوله إليهم، ومنهم من قال: لا يلحق به؛ لأنا لا نعلم هل بلغهم أم لا؟ واختاره الآمدي، ومنهم من قال: إن كان ذلك القول فيما تعم به البلوى بما تمس به الحاجة إليه كمس الذكر، فيكون كقول البعض وسكوت الباقين؛ لأن عموم البلوى يقتضي حصول التعلم به، وإن لم يكن كذلك فلا؛ لاحتمال الذهول عنه قال الإمام: وهذا التفصيل هو الحق؛ ولهذا جزم به في الكتاب.
1 انظر المحصول، ص74، جـ2.